مدينة إسطنبول التركية.. متحف مفتوح عابر للعصور
هي إسطنبول.. ملكة تتربّع على عرش المدن الأبرز حول العالم!

عندما تتنقل في هذه المدينة، لا تستغرب إذا خالجك شعور بأنك تسير في متحفٍ مفتوحٍ يجمع في طيّاته الماضي والحاضر والمستقبل.

كيف لا، وهذه البقعة الفريدة من العالم عرفت أزماناً وحضاراتٍ متعددة صقلت جوهرها وحوّلتها إلى درة القارتين الآسيوية والأوروبية.

في إسطنبول فقط، يمكنك أن تجد أماكن ذات طابع آسيوي، تماماً كما ستجد أماكن ذات طابع أوروبي.

في هذه المدينة، ستستعرض مزيجاً من الهوية المحلية التركية، إلى جانب الهوية الشرقية والهوية الغربية.

هذا المشهد تعكسه بقوة الهندسة المعمارية بشكلٍ ساحر.

فعشرات المباني التاريخية التي يعود بناؤها إلى حقبة الدولة العثمانية، تنتشر في جميع مساحات القسم الأوروبيّ من مدينة إسطنبول، لتشكّل لوحةً فنّية لا مثيل لها في العالم.

وتمتاز مدينة إسطنبول بعبقٍ تاريخي ينضح من شقّها الأوروبي بالأخصّ، ترافقه ملامح التطوّر الحضاري والأبنية الشاهقة، لتعكس التمازج الجميل بين القديم والحديث.

وكأن هذه المدينة تقول لكل زائريها بكل فخرٍ وعزّة: أنا إسطنبول التي غيّر فتحُها مجرى التاريخ، أنا الوفية للسلاطين والأباطرة الذين حكموني، أنا الشاهد على عظمة الحضارات التي مرّت فوق هذه الأرض المباركة.

القسطنطينية، هو الاسم الذي كانت تحمله إسطنبول أيام الإمبراطورية البيزنطية، إلى أن نجح العثمانيون بفتحها بقيادة السلطان محمد الفاتح عام ١٤٥٣م.

لقرونٍ طويلة، شكّلت إسطنبول "مركز حكم العالم"، حسب ما يحلو للكثيرين وصفها، فبعد أن كانت عاصمة الدولة البيزنطية، انتقلت لتكون عاصمة الدولة العثمانية، ومركز إقامة السلاطين الذي منه صدرت التوجيهات لتسيير أمور الدولة الممتدة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لمئات السنوات.

من قصر "توب كابي"، المعروف بالعربية باسم "الباب العالي"، حكم سلاطين الدولة العثمانية جزءاً كبيراً من العالم القديم، حتى بات شاهداً على زمنٍ مديدٍ من العزّ الذي تكاد حجارة القصر تنطق به.

ليس بعيداً عن الباب العالي، يقف مسجد آيا صوفيا دليلاً على عبق التاريخ المتأصّل في المدينة، ويروي للزائرين من كل أصقاع الأرض قصة مجدٍ وخلود.

إلى جانب آيا صوفيا، يزهو مسجد السلطان أحمد، المعروف أيضاً بالمسجد الأزرق، الذي شيّده السلطان أحمد تخليداً لرِفعة ومكانة السلطنة العثمانية وقدرتها على محاكاة بل والتفوّق على الحضارات التي سبقتها، وخاصة البيزنطية.

هذا "المثلث" الذي يضجّ بزخم التاريخ في منطقة الفاتح، أصبح مقصداً ثابتاً للسياح والزوار، أياً كانت دياناتهم أو اهتماماتهم.

فالخاصية التي تتمتع بها إسطنبول تجعلها على درجة عالية من الأهمية، ليس في نظر سكانها وزوّارها وحسب، بل في نظر الكثير من الشخصيات العالمية على مرّ العصور.

على بعد بضعة كيلومترات ضمن منطقة الفاتح، يحلو للسياح التجول في حي "بلاط"، وهو من أكثر الأحياء الملفتة للزوار، نظراً لألوانه البهية وزينته الدائمة طوال أيام السنة، إضافةً إلى المباني التاريخية المبهرة مثل كنيسة "الأم مريم" أو الكنيسة الحمراء للروم الأورثوذكس، التي يعود بناؤها إلى الحقبة البيزنطية.

على الضفة المقابلة، ولكن دائماً ضمن الشق الأوروبيّ من المدينة، يشمخ "برج غَلَطة" في منطقة شيشانِه في تقسيم، الذي شكّل لقرون متتالية مركزاً لمراقبة محيط المدينة، وشاهداً على الدراسات التي استحوذت على اهتمام السلاطين.

من أبرز هذه الدراسات تلك الهندسية، وخاصةً التي اجتهد بإتمامها المعماريّ "سِنان"، الذي كرر محاولاته الدؤوبة حتى تمكن من التحليق لفترة وجيزة فوق المنطقة، وهو إلى الآن ما زال يحظى بالاحترام الأتراك وتكريمهم له، كما يُطلق اسمه على صروح رسمية مثل الشوارع والجامعات والمباني.

أما على ضفاف بيشكتاش، فيستقبلك قصر "دولما بهتشِه" أو ما يُعرف بـ "قصر السلاطين"، والذي يحظى باحترام ومكانة خاصة لدى الأتراك كونه القصر الذي توفي فيه مؤسس تركيا الحديثة الرئيس مصطفى كمال أتاتورك.

على مقربةٍ منه، يختال مسجد أورطه كوي الذي يشكل بمظهره الجميل وموقعه المميز قبالة جسر "15 تموز" الجسر الأول من جسور مضيق البوسفور الثلاثة، مقصداً لكل زائر يقصد المدينة، حيث يحلو التقاط الصور والسيلفي مع خلفية أسطورية تجمع جمال الطبيعة بالمباني التاريخية.

وإضافةً إلى جسر "شهداء 15 تموز" المعروف بـ "البسفور"، يربط شقّي المدينة جسر "محمد الفاتح" وجسر "ياووز سليم"، لتشكّل معاً لوحةً فنية رائعة تسرّ الناظرين.

القرن الذهبي، المنطقة التي شكلت مكاناً استراتيجياً عبر التاريخ، وهي إحدى أفضل الموانئ الطبيعية في العالم ومركزاً تاريخياً للتبادل التجاري والتمركز العسكري، هي أيضاً تتألق ضمن منطقة أيوب سلطان، حيث يحلو للزوار أن يقصدوا مسجد السلطان أيوب، الذي سُمّي تيمّناً بالصحابي الجليل أيوب الأنصاري، الذي يعرف عنه أنه كابر على جراحه وأبى أن تسقط راية جيش المسلمين حتى استشهد.

في محيط المسجد يمكن للمارة أن يعبروا في أحياء تاريخية بشكل يمكّنهم من مشاهدة المقابر العثمانية، وملاحظة الفرق بين شواهد القبور، حيث يمكن التعرف على علو مكانة صاحب القبر من مجرد تمييز شكل القبة المنحوتة فوق شاهده، العمامة الكبرى مثلاً لشيخ الإسلام، الطربوش للباشا أول للأقل شأناً، حسب حجمه وشكله.

من خلال السير في المنطقة صعوداً، أو بواسطة التلفريك، يمكن الوصول إلى تلة "بييرو لوتّيه" الشهيرة، وهي منطقة ساحرة تطلّ على مشهد استثنائي للمدينة، أما اسمها فقد جاء تيمّناً بالفنان الإيطالي الذي أبهره جمال إسطنبول حتى قرر الاستقرار فيها واتخاذها وطناً له.

في منطقة إمينونو الساحلية، يختلط القديم بالجديد أيضاً، حيث يمكن التجوّل في "السوق المصري" التاريخي، إلى جانب التمتع بنزهة ساحلية قد لا تخلو من وجبة سمك طازج في أحد المطاعم المتخصصة على طول الشاطئ.

والآن، تخيّل أن رؤية كل هذه المشاهد معاً ممكنٌ إلى حدٍّ ما، كيف ذلك؟ ببساطة من خلال الإبحار في العبارات التي تربط شقّي المدينة الأوروبي والآسيوي عبر مضيق البسفور، كما تربط مناطق ضمن الشق الأوروبي نفسه عبر خليج أوغلو.

وهذه العبارات تدخل ضمن فئة المواصلات العامة، مثلها مثل الميترو والباصات وغير ذلك، ويمكن لكل شخص أن يستفيد من خدماتها من خلال بطاقة مواصلات إسطنبول أو Istanbul Card.

فقط في إسطنبول، لا يمكن أن تحتاج شيئاً ولا تجده، ولا يمكن أن تعبر شوارعها دون أن يصادفك مشهدٌ هاربٌ من التاريخ العريق، وليس وارداً بأي شكل من الأشكال أن يقول أحدٌ أن مناطقها تتشابه بحيث لا يعود هناك داعٍ لزيارة كل مناطقها.

فالحقيقة التي يستحيل تبديلها عن هذه المدينة، هي أنها تجدد نفسها حتى في أعين من تتكرر زياراته لها، لدرجة أن من يزورها سيخطط بكل تأكيد للعودة إليها كلّما سنحت الفرصة.

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية