نحن عين اليمن في بلاد المهجر ..
اشترك ليصلك كل جديد صوت وصورة


ولاية الغدير أم وصاية الفقيه؟ قراءة في التزييف المقدّس
ما من مصطلح أُنهك في معناه، وقُطّع من دلالته، واستُنزف حتى صار مسخًا، كمصطلح "الولاية" حين تواضع عليه القوم، فجعلوه تاجًا فوق رؤوس الأئمة، وسوطًا على ظهور الأمة. حديث الغدير، الذي أتى في سياق مكاشفة وجدانية بين نبيٍ ورسولٍ وبين رجلٍ من آله المقرّبين، تحوّل في ليل التأويل إلى وثيقة ملك، وإلى صك توريث، وكأنما جُعل الإسلام دولة قريشية تتقلب في عقبٍ بعد عقب، لا وحيًا يُوحى، ولا رسالةً ختمت النبوة وأقامت الحجة. إنهم لا يحتفلون بالغدير إكرامًا لعلي بن أبي طالب، ولا حزنًا على عزلته التاريخية، بل ليثبتوا عبره سرديةً ملغّمة، ممهورة بخاتم "النص"، ومغلفة بطبقات من التبجيل المصنوع، وكأنما هذا اليوم نُسج ليكون مفصل الخلافة ونواة التشيع، لا حدثًا عابرًا من لحظات الصفاء بين قلبين عظيمين في عشيّة سفر.

ليس حديث الغدير – كما يوهمون – ترسيخًا لسلطان، بل تبرئة لعرض، وتزكية لذمة، عقب شكوى جاءت من جنود، فأراد النبي أن يطهر عليًا من الريبة، لا أن يُلبسه بُرد الملك، ولا أن يرفعه على منابر الأمر والنهي. وما كان محمدٌ يومًا ليُراوغ أمته بعبارات مُبهمة، تدّعي العصبة من بعده، وهو القائل في آخر أيامه: "إن الله لم يجعل هذا الأمر في آل أبي فلان"، وهو الذي توفي ولم يُعهد عن لسانه في خلافة أحدٍ نصٌ بيّن، ولا تعيينٌ مباشر، ولا وثيقة مختومة. فكيف يُقال إنه نصّب، وأي نصبٍ هذا الذي لم يُعرف إلا بعد موته، وتفرّقت عليه الأمة تشتاتًا؟ بل كيف يكون الغدير أمرًا إلهيًا واجب الطاعة، وقد تنازع فيه الأكابر، وانقسم عليه الصحابة، وما أجمع عليه المهاجرون ولا الأنصار، ولا بايع عليه جمهور الأمة يوم السقيفة؟

إن الحقيقة الجارحة أن مشروع الولاية عند الشيعة لم يُبنَ حبًا لعلي، بل طُرّز لاستلاب شرعية الحكم، وإعادة توزيع الخلافة على أساس النسب والدم، لا على قدر الكفاءة أو الاجتهاد. ثم جاءت العصور، وأُغلق باب التأويل، وأصبح "الولي" عنوانًا مقدسًا يُحاط بالغموض، يُدخل الناس في دين الله من أضيق أبوابه، ثم لا يُفتح إلا على مشيئة الفقيه أو المراجع. إنهم لا يريدون من الغدير يومًا من المحبة، بل بوابة شرعية لاستباحة الحكم باسم "الوصاية"، ثم نقلها من ظهر إلى بطن، ومن نسل إلى نسل، حتى وصل الحكم إلى عمامة فوق جسد غائب، يُحكم الناس باسمه، وتُنهب الأرض من أجله، وتُرفع الشعارات في الميادين وكأنها تنزيل من التنزيل.

والمأساة لا تقف عند حدود الكذب على النص، بل تمتد إلى اختلاق طقوس كاملة، وخلق تراث موازٍ، لا تثبته القرائن، ولا يسنده العقل، ولا يعرفه صدر الأمة. إنك لتجد في طقوسهم نواحًا سياسيًا بوجه ديني، وندبًا على تاريخ لم يقع إلا في خيال المؤرخين المنتقين، وتدوينًا لأحاديث مروية في حوانيت الأهواء، لا في صحاح السند، ولا في جادة المتن. فكلما انهارت حجة، رصّوا أخرى، وكلما ضُبط الكذب، أنشؤوا من حوله ألف صرح من الألقاب والادعاءات، حتى صار المذهب سردية مغلقة، لا تُناقش، ولا تُراجع، بل تُلقّن وتُعبد.

وما يزيد الفجوة شناعة أن هذه الدعوى قد بُنيت على حادثٍ واحد، على جملة عاطفية قيلت في سياق غير سياسي، فجعلوها مِعراجهم إلى "العصمة"، ومنها إلى احتكار الحق، ومن ثم إلى اعتبار كل ما خالفهم ناصبيًا أو مارقًا. إنهم لا يناقشون بمنطق الاجتهاد، بل بمنطق الوصاية المطلقة: نحن أصحاب النص، ومن دوننا كافر، ضال، غاصب، منافق، خائن. وتلك قسمة ما أنزل الله بها من سلطان. بل إن الوحي الذي نزل على محمد لم يتحدث عن خلافة بعده، ولم يجعل للناس بيعةً مفروضة، ولا أوجب لهم طاعة لأحد باسمه، بل جعل الأمر شورى، وفتح باب الاجتهاد، لا أن يُغلق باسم القداسة والعِرق.

فإذا افترضنا، جدلًا، أن النبي أشار إلى علي بالخلافة، أفكان من العقل والدين أن يسكت القرآن عن ذلك؟! أليس من غرائب المنطق أن تفصل الآيات في أحكام المواريث والدية والملاعنة، ثم تغفل عن أمر مصيري كمن يخلف النبي في قيادة الأمة؟! إن العقل ليأنف من هذا التناقض، والدين لا يُبنى على التلميحات. ومن المضحك المبكي أن تتحول الولاية من دعوة إلى محبة الصالحين، إلى بنية فوقية تحكم الناس بالغيب، وتنتظر إمامًا مختبئًا منذ قرون، ثم تفرّع عنها نخبة تزعم أنها نوابه، تمارس الحكم باسمه، وتكتم الناس وتنهب الأموال وتبني "دولة الفقيه"، لا على دستور بل على حلم طويل ممتد في العتمة.

في الختام، ليست المشكلة في حديث الغدير، بل في من حرفوه عن سياقه، ونقلوه من ساحة الحب إلى دهاليز السياسة، وجعلوه مدماكًا لإمبراطورية من الأكاذيب التي تلبس الدين لتنهش به الدولة، وتناجي الله بألسنة تتكلم باسم المعصومين، وهم أبعد ما يكونون عن الصدق والعصمة.

شاهد :الطيران الإسرائيلي يقصف مقر الإذاعة والتلفزيون
في طهران على الهواء مباشرة



أقراء أيضاً

التعليقات

ممارسات أدت إلى قرار البنك المركزي اليمني في عدن.


أخبار مميزة

مساحة اعلانية

رغم الحرب التي تشهدها اليمن، إلا أن عيد الأضحى والطقوس المرتبطة به ما زالت موجودة وتحظى بأهمية كبيرة بين الناس في اليمن.




وسيبقى نبض قلبي يمنيا