الأمم المتحدة .. ما وراء الأقنعة
على ضفاف النهر الشرقي في ضاحية مانهاتن بولاية نيويورك الأميركية وقفت مشدوه وعيناي تطالعان مبنى زجاجيا عملاقا ترفرف على أسواره أعلام 193 دولة، مكتوب عليه "مبنى الأمم المتحدة"، المبنى ذو التسعة والثلاثين طابقًا والممتد على أرض عالمية لا تخضع للقوانين الأمريكية يأوي خمسة من ستة أجهزة تدير العالم كما يقال ويشكل نقطة اتصال دولية وقبلة تواصل سنوية حيث يحتشد إليه زعماء العالم كل سنة لإلقاء كلمات بلدانهم وبث شكواهم وصراعاتهم مع دول الجوار.
وقفت كأي إعلامي تزدحم بهم مواقع التصوير لنقل فعاليات بلدانهم في إحدى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في زاوية تظهر للمشاهد خلفية مبنى الأمم المتحدة كنت متحفزًا لأقول خلاصة لتقرير يجمل ما قيل عن ملف اليمن في أروقة المبنى وجلساته الخاصة والعامة وفي قرارة نفسي يسكن سؤال يتضخم كل عام من زيارتي لهذا المبنى الضخم وحضوري لاجتماعاته يا ترى ما جدوى ما يقال تحت سقف المبنى العالمي وما الأثر الذي يتحقق من اللقاءات السنوية أو الجلسات المغلقة والعلنية على مستوى الدول العربية على الأقل أو الضعيفة والمضطهدة على كثرتها.
في دهاليز هذا المبنى وأروقته المتعددة ثمة أسرار لا يفصح عنها الاعلام، ها هو الأمين العام للأمم المتحدة يقف أمام الكاميرات بعد أن يعدل من ربطة عنقه ويتحسس بدلته الغالية الثمن ليبدي قلقه من جديد بشأن الوضع المتفاقم في اليمن، ويدعو الأطراف جميعها لضبط النفس والعودة لطاولة المفاوضات التي تديرها الأمم المتحدة عبر مبعوثيها إلى بلد تم استثماره جيدًا خلال الست سنوات المنصرمة من تاريخ الحرب لتشغيل برامج الأمم المتحدة ورفد خزينتها بمليارات الدولارات من المانحين الدوليين وحتى العرب الذي يرون أن مال الإغاثة والمساعدة لا يعتبر مالاً إنسانيا إلا إذا تم فحصه ودمغه وتمريره عبر إدارات وبرامج ومنظمات أممية حتى يأخذ البعد الاغاثي المناسب ويكتب في سجل التقارير الدولية.
مواقف متناقضة يشهدها المبنى الأممي كان أشدها غرابة مناشدة الأمين العام الحالي "أنطونيو غوتيريس" أعضاء مجلس الأمن أن يضغطوا بثقل دولهم على إلغاء قرار أمريكي اتخذته وزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي المهزوم انتخابيا "دونالد ترامب" والذي قضى بتصنيف جماعة الحوثي كمنظمة إرهابية وتسمية بعض أعضائها في لائحة العقوبات
القرار الذي جاء بدوره متأخرا وكأن "ترامب" وإدارته تقصدوا أن يتركوا القرار عقبة في طريق الديمقراطيين، عمومًا القرار أغضب "غوتيرس" ومن تداعى من بعده من أعضاء مجلس الأمن، تحت مبرر خطر القرار على الوضع الإنساني في اليمن وكانه بدونه كانت تعيش اليمن وضعا إنسانيًا محمودًا.
إننا في عهد الإزدواجيات والكيل بمعايير مختلفة، ولكي أعطي مثالًا واضحًا كالشمس في رائعة النهار، جلبت الأمم المتحدة اليمنيين لأكثر من بلد من أجل المفاوضات وفي كل مرحلة زمنية تشهد فشل المفاوضات لا تعلن الأمم ولا ممثلها عن السبب وراء الفشل ولا من المتسبب فيه، وفي كل مرحلة فاشلة يتقدم الطرف الانقلابي والمليشاوي خطوات في الميدان الحربي وينتهك مواثيق وقرارات العالم الدولية مستقوى بركاكة الأمم في إدارة التفاوض وضعف العالم في إيجاد صيغة عادلة لواقع الناس ، وليس ابلغ من هذا التعبير سوى اتفاق إستكهولم المشهور الذي جاء على عجل واهتمام اممي ليوقف التقدم العسكري المحرز في تحرير الحديدة نهاية عام 2018 تحت مبرر اتفاق سلام شامل، لكن بعد ما يزيد عن عامين من الاتفاق الذي لم يتم تنفيذ أي بند من بنوده، حولت الأمم المتحدة ملف الحديدة من اتفاق سلام إلى مجرد هدنة هشة ، و حول الحوثيون مدينة الحديدة إلى حقل ألغام كبير ومع ذلك يتم الترويج الدولي بأن الاتفاق حقق أهدافه ؟ فهل على راسها إيقاف تحرير الحديدة واسناد الحوثيين عبر تهريب الأسلحة والنفط !
هذا عوضًا عما كشفته تقارير موثوقة عن دور مشبوه للأمم المتحدة بتهريب قيادات حوثية وعسكرية عبر طائرات الاجلاء الإنسانية التابعة للأمم وإدخال أخرى إلى العاصمة صنعاء حتى أضحى للحوثيين سفيرًا في سوريا ولإيران سفيرها في صنعاء هذا عوضًا عن دخول وخروج قيادات عسكرية من حزب الله وفيلق القدس وعشرات السفن المحملة بالسلاح.
لقد جرعت الأمم المتحدة ومبعوثوها اليمن ويلات الاستسلام لقوى المليشيا على قوة الدولة في كل مفاوضاتها الفاشلة وقراراتها الدولية التي لا ترى النور والذي يعمل حاليا في الخفاء على تغيير القرار الاممي الشهير 2216 لعجز العالم على تنفيذه، والبحث عن صيغة جديدة لإنهاء الحرب يديرها المبعوث الأمريكي الجديد وخلفه إدارة الرئيس "بايدن " الناقمة على حلفاء "ترامب" والراغبة بمد جسور محادثات نووية مع إيران على حساب تغييرات في رؤية الحوثيين من إرهابيين إلى حلفاء ويمكن للأبواب الخلفية الأمريكية أن تتكفل بشرعنة تواجدهم في المستقبل كشركاء لا خصوم ولعل هذا سببا لما نشهده من صمت المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومبعوثها الخاص إزاء تصعيد الحوثيين بمارب واكتفاؤهم بدور المتفرج الذي يندد ويحذر على خجل، لقد بات اليمنيون يشعرون هم أيضًا بالقلق من اختلال موازين العدالة الدولية ولا يؤمنون بالأمم المتحدة ولا بممثليها.
وحتى لا يفوتني مسلسل الدعم الدولي ولا فتته المشهورة الاستجابة الإنسانية فقصته هي الأخرى أكثر مرارة ليس بسبب أن الأمين العام للأمم المتحدة وصف نتائج مؤتمر التعهدات المالية الأخير بالمخيب للآمال لأن ممثلي 100 دولة، لم يتمكنوا سوى من جمع 1.7 مليار دولار وهو اقل من النصف المؤمل لعام2021م ، لكن المرارة والأسى في هذه المؤتمرات أن أموالًا جمعت في 2019 و2020م من قبل المانحين بلغت ما يصل الى أربعة مليارات دولار، هذا عوضًا عن أموال أعلن عنها قد تصل إلى عشرين مليارا.
فاين ذهبت كل هذه المليارات؟ لماذا لم توقف تدهور الأوضاع الإنسانية ولم تغير في خارطة الفقر في البلد؟ أين صرفت هذه الأموال السالفة الذكر ولا يوجد على أرض الواقع إلا إنسان يمني محطم من الحرب يقاسي ويلاته من فقر ومرض وانعدام للرواتب وغلاء للأسعار وتدهور للعملة الوطنية وتفشي للأمراض القاتلة
أين الإغاثة العاجلة والأموال الطائلة والدموع المهرقة والقلق الإنساني مما يحدث للنازحين اليوم في مارب وهم تحت النيران بلا نصير؟، وماذا فعلت مليارات الأمم والمانحين الدوليين لسكان الحديدة ونازحي الحرب في عدن وحضرموت وتعز والبيضاء والضالع والجوف ؟
لا أحد استفاد من المساعدات الإنسانية بالشكل المطلوب سوى أولئك الذين أعادوا بيعها في السوق السوداء وتمكنوا من الثراء الفاحش والمتاجرة بالعملة الصعبة التي أودعتها المنظمات الدولية في مصارفهم وشراء العقارات والفلل الضخمة في صنعاء وغيرها.
إن أخطر ما في جمع المال هو إدارته بالشكل المناسب لمواجهة الكارثة المحدقة بمخلفات الحروب والصراعات وإن الأمم المتحدة ومؤسساتها الإنسانية عندما تغرق في التعامل مع جهات غير رسمية ودون آلية قانونية، لن تشهد البلاد في عهدها سوى ارتفاع في أعداد ضحايا الحرب والفقر والمجاعة وتدهورًا في الحالة الإنسانية سنويا ولعل هذا هو المطلوب لاستمرار حلب المنطقة وأشغالها عن المخططات الكبرى التي ترسم لشرق أوسط جديد يعيش حالة احتراب دينية بين السنة والشيعة ويقسم بالهويات المناطقة والمذهبية ويغرق في حروب لا نهاية لها ليكون هذا الجسد المريض سهل الاختراق والتطبيع من الخليج إلى الفرات كما في البرتوكولات
التعليقات