20 عاما على الغزو.. العراق بين النسر الأمريكي والتنين الصيني

"القوة الصينية الناعمة تنتصر على القوة الأمريكية الصلبة" هذه النتيجة التي خرجت بها الولايات المتحدة، بعد 20 عاما من غزوها للعراق في 20 مارس/آذار 2003.

الولايات المتحدة اضطرت بدءا من عام 2011 للانسحاب تدريجيا من العراق، في ظل تردي الوضع الأمني وتعرضها لخسائر بشرية ومادية، بالتزامن مع انسحاب شركات نفط أمريكية وغربية لنفس الأسباب.

لكن تخفيض الأمريكيين حضورهم العسكري والتجاري في العراق، ترك فراغا أمنيا واقتصاديا، سرعان ما ملأته الصين، والتقطت الفرصة للتغلغل في خامس أكبر احتياطي عالمي مؤكد من النفط.

وفي ظرف أعوام قليلة، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للعراق، الذي أصبح بدوره أكبر شريك لها في المنطقة، والمزود الثالث لها بالنفط بعد كل من السعودية وروسيا.

 

خفي حنين 

في 2003، عندما غزت واشنطن العراق دون إذن من مجلس الأمن الدولي بحجة تدمير أسلحة دمار شامل، كان هدفها الرئيس، وفق مراقبين، فرض هيمنتها على البلاد واستغلال احتياطيات النفط، وخطف صفقات إعادة الإعمار.

وعلى هامش تلك الأهداف، سعت واشنطن أيضا إلى إقامة "نظام ديمقراطي" موالي لها، لكن الانتخابات في العراق أفرزت نظاما طائفيا مشوها، مبنيا على ما يعرف بــ"المحاصصة"، وهي تقاسم السلطة بين الشيعة والسنة والأكراد.

فالأحزاب الشيعية ومليشياتها المسلحة الموالية لإيران، هيمنت على عصب السلطة، وانتشر الفساد، وتردى الوضع الأمني، وتحول العراق إلى ميدان مواجهة بين واشنطن وطهران.

لتعقد واشنطن في ديسمبر/ كانون الأول 2011، اتفاقا مع حكومة العراق لسحب قواتها من البلاد وإبقاء نحو 2500 منهم لمهام استشارية، إضافة إلى ألف عنصر من الدول الحليفة، بعد أن تحول الاحتلال الطويل إلى حرب استنزاف.

فنفط العراق لم يعد يغري أمريكا كثيرا بعد استغلالها النفط الصخري وتحولها لأكبر منتج له عالميا، كما أن عدم قدرتها على السيطرة على الانفلات الأمني في البلاد، والخسائر التي كانت تتعرض لها باستمرار عجلت برحيلها بخفي حنين.

وهذا ما أكدته دراسة أمريكية صادرة عام 2013، قالت إن تكلفة الحرب الأمريكية في العراق بلغت 1.7 تريليون دولار، إضافة إلى 490 مليار دولار تمثل مستحقات قدامى المحاربين.

وتوقعت الدراسة، التي أعدها معهد "واتسون للدراسات الدولية" بجامعة براون الأمريكية، أن تنمو نفقات الحرب الأمريكية على العراق، إلى أكثر من 6 تريليونات دولار، خلال العقود الأربعة المقبلة.

 

محاولات المليشيات

بدء انسحاب الأمريكيين وقوات التحالف من العراق أحدث حالة من الفراغ، العسكري بشكل خاص، سعت كثير من التنظيمات المسلحة إلى ملئه، عبر فرض وجودها بسياسة الأمر الواقع.

ففي عام 2014، سيطر تنظيم الدولة الإرهابي "داعش" على ثلث مساحة العراق، واقترب من اقتحام العاصمة بغداد، لترسل الولايات المتحدة وحلفائها مزيدا من التعزيزات العسكرية للبلاد، ما قوى شوكتها مجددا.

وفي 2017، بعد تحرير جميع المحافظات العراقية من سيطرة "داعش"، تصاعدت المواجهات بين الولايات المتحدة والمليشيات الشيعية الموالية لإيران، لا سيما الهجمات على القوافل العسكرية الأمريكية والقواعد التي تحتضن قواتها.

ثم تصاعدت المواجهات، بعد مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، والقائد بمليشيا الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، في غارة جوية أمريكية استهدفت موكبهما، في مطار بغداد، في 3 يناير/كانون الثاني 2000.

اغتيال القائدين، ردت عليه المليشيات بقصف قاعدة أمريكية بالعراق الذي تحول إلى ميدان قتال بين البلدين، ما دفع البرلمان للتصويت على إلزام حكومة بغداد "بإنهاء وجود جميع القوات الأجنبية" بما فيها الأمريكية والإيرانية. 

واشنطن رفضت سحب قواتها من العراق وهددت بفرض عقوبات عليه، لكنها تراجعت بعد استهداف قواعدها العسكرية وحتى مقر سفارتها في بغداد بقذائف مليشيات شيعية، ما أجبرها على إعادة الانتشار خارج قواعدها الرئيسية.

 

 الصين تتوغل

وسط الصراع الأمريكي الإيراني على الهيمنة والنفوذ في العراق، تسللت الصين عبر قواها الناعمة، في محاولة لتروي اقتصادها المتعطش لنفط العراق، مقابل إعادة بناء ما دمرته الحرب. 

فبعد حروب طويلة، خاضها العراق، منذ ثمانينيات القرن الماضي، ضد إيران (1980) إضافة للولايات المتحدة وتنظيم الدولة، أصبحت البلاد بحاجة إلى 88 مليار دولار لإعادة إعمارها، إضافة إلى ديون ضخمة متراكمة على بغداد.

لذا فأول خطوة اخترقت بها الصين السوق العراقية، كانت عبر شطب 80 بالمئة من ديون البلاد، البالغ حجمها 8.5 مليار دولار في 2010، مقابل "تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين"، وفق موقع "الحرة" الأمريكي.

ومع إعلان الصين مبادرة "الحزام والطريق" في 2013، كان العراق من أوائل الدول العربية التي انضمت للمبادرة في 2015، وجرى التوقيع على اتفاق الشراكة الاستراتيجية، الذي تعزز بتوقيع اتفاقية لإعادة إعمار العراق.

لكن تراجع نفوذ أمريكا في العراق ساعد الصين على التمدد أكثر، خاصة بقطاع النفط الذي انتزعت فيه بكين الصدارة من واشنطن كأكبر مستورد له بالعالم، لترتفع وارداتها منه لتبلغ 27 بالمئة عام 2018، ثم 44 بالمئة في 2021. 

وفي 2022، كان من المتوقع أن يبلغ حجم التبادل التجاري بين العراق والصين 45 مليار دولار، إلا أنه قفز إلى أكثر من 53 مليار دولار، بزيادة تجاوزت 43 بالمئة، بحسب السفارة الصينية لدى العراق.

ومما يؤكد تراجع النفوذ الأمريكي في العراق، أن واشنطن لم تحل حتى في المرتبة الثانية بين شركاء العراق التجاريين في الأعوام الأخيرة، إذ جاءت إيران خلف الصين مباشرة، بنحو 12 مليار دولار سنويا. 

أما المبادلات التجارية مع الولايات المتحدة، فلم تتجاوز 8.4 مليار دولار في عام 2019، منها 7 مليار دولار صادرات نفطية عراقية، بعدما فاقت 15 مليار دولار في عام 2014. 

وبعدما كانت الولايات المتحدة الشريك التجاري الرئيس للعراق في السنوات الأولى للغزو، لم تعد اليوم قادرة على منافسة الصين، التي ابتلعت جزءا كبيرا من التبادل التجاري مع بغداد.

 

تثبيت الأقدام 

الصين لم تكتف بالتغلغل وملأ فراغ الانسحاب الأمريكي من العراق، بل سعت لتثبيت أقدامها، وضمان بقائها لسنوات وعقود في البلاد، عبر اتفاقيات لإعادة الإعمار، أو ضم بغداد إلى مسارات بكين الاقتصادية.

ففي 2019، اتفقت الصين مع العراق على تفعيل برنامج "النفط مقابل إعادة الإعمار"، الذي تعهّدت بموجبه عشرات الشركات الصينية بالعمل في البنى التحتية العراقية.

فعلى سبيل المثال، تعهدت شركات صينية ببناء ألف مدرسة في العراق، مقابل تلقّي بكين 100 ألف برميل نفط يوميا، مع التعهد ببحث بناء 7 آلاف مدرسة أخرى في المستقبل، وفق اتفاق وقع عام 2015.

كما تحول العراق إلى نقطة ارتكاز رئيسة في مبادرة "الحزام والطريق" (طريق اقتصادي صيني عالمي)، إذ تلقى تمويلا صينيا قدره 10.5 مليار دولار، وحل ثالثا بعد باكستان وروسيا كأكبر شريك في المبادرة، وفق دراسة صينية.

ومع انسحاب شركات النفط الغربية من الاستثمار في العراق، وعلى رأسها العملاق الأمريكي "إكسون موبيل"، كونه "بيئة استثمار محفوفة بالمخاطر"، وجدت الصين ضالتها لمحاولة الاستحواذ على القطاع عبر الاستثمار.

هذا ما أكده الخبير الاقتصادي العراقي نبيل المرسومي، بقوله إن "الشركات الصينية، تحظى بأعمال واسعة بالبلاد في مجال البنى التحتية والإنشاءات والطاقة" في العراق.

وأضاف المرسومي، في تغريدة له، أن الشركات الصينية باتت "تعد المشغل الرئيس في خمس حقول عراقية، هي: الرميلة، وغرب القرنة/1، وميسان، وحلفاية، والأحدب". 

وتحدث الخبير العراقي عن "إحالة عدد آخر من الحقول النفطية والغازية إلى الشركات الصينية، ومنها حقل المنصورية الغازي، ومصفاة الفاو الاستراتيجية إليها، فضلا عن أعمال كبيرة وواسعة في مجال الخدمات النفطية".

غير أن قمة تعاون البلدين، جاءت في فبراير/شباط الماضي، بإعلان البنك المركزي العراقي التعامل بعملة الصين (اليوان) في المبادلات التجارية لمعالجة أزمة نقص الدولار بالسوق المحلية، وهو بالتأكيد ما يقلص نفوذ واشنطن أكثر.

 

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية