وماذا عن زجاج البلاد ومطارق المليشيا؟
في مطلع العام 2015 - قبل اندلاع الحرب الشاملة في اليمن بثلاثة أشهر- نشرت مادة في صحيفة "الشارع"، كتبتُها تحت عنوان "زجاج الدولة ومطرقة المليشيا"، وخلصت فيها إلى أن الـ"مليشيا أصبحت تمسك بالمطرقة القوية، لمجابهة الزجاج الهش للدولة والمجتمع، فارضة على الجميع أمراً واقعاً، بمفهومها، يتوجّب التعايش معه، وتحت مؤثراته".
مرت السنوات السبع بعجلاتها الخشنة على ظهور اليمنيين وأحلامهم، فصارت المطرقة مطارق قوية، ولا تُبارى، أتت على كل الزجاج، حتى إن هذه المطارق صارت لا تجد زجاجاً واحداً تهشمه، لأن البيت برمّته أصبح خرابة، تدخل من نوافذه المخلعة أعاصير الحرب، أما الدولة فذهبت مع غبارها، تاركة للمطارق تأدية وظيفتها "حديد التعصب"، ليتقوّى ويتمدد، على قاعدة المطرقة التي تكسر الزجاج تصقل الحديد، حاملة معها كل أدوات القتل ومحفزاته، شمالاً وجنوباً.
المليشيات الممسكة بهذه المطارق لم تعد طائفية وسلالية فقط، صارت مناطقية، وجهوية، مع استنبات الأذرع الأمنية والعسكرية للمجلس الانتقالي في عديد من المحافظات الجنوبية، وحزب الإصلاح في تعز ومأرب، وفلول المؤتمر الشعبي العام في الساحل الغربي، والنخب الجهوية في شرق اليمن والمحيط (سُقطرى).
لم تعد هذه المليشيات تمسك بمطارق خجولة، ابتدأت بخدش الزجاج، بل صارت مع الوقت تتعتل مطارق و"خيَش" عملاقة، لا تجد اليوم من زجاج البلاد شيئاً، بعدما أتت عليه كله، وتركت البيت الكبير بلا نوافذ، نهباً لريح الحرب تصفّر فيه، وصارت تلاحق عشش المواطنين ودِيمهم التي هي أصلاً بغير زجاج.
المليشيا الأم "تفرعنت"، وصارت تحمل بدل المطرقة مدفعاً وصاروخا، ابتلعت معظم خريطة الجمهورية العربية اليمنية السابقة، ليس لقوّتها ومنطقها وسويّتها السياسية ومشروعها الوطني، وإنما لضعف خصومها وفسادهم، وراعيها الطائفي مدّها بكل خبراته العسكرية والأمنية (من طهران ودمشق وبغداد وبيروت)، التي جعلتها تصمد طيلة هذه السنوات، رغم ضعفها البائن.
ترسيمات المنطقة الجديدة على أساس كيانات طائفية هشة تنهض على حساب الدولة الوطنية، ساعدت الحوثيين، كحركة طائفية بمنزع سلالي متخلّف، على بناء قدراتها العسكرية والأمنية برغبة من رعاة الحرب ومموليها، برغم الرفض القوي لمشروعها في الداخل.
اختباراتها الباكرة لصمت الجميع على تعدياتها الفجّة على حقوق المجتمع (عدم صرف المرتبات، وتسليع الخدمات، والجبايات غير القانونية، وإنشاء أسواق سوداء لبيع السلع والوقود للمواطنين بأضعاف أثمانها)، جعلتها تتمادى كثيراً، وتنفتح شهيّتها أكثر لابتلاع الجغرافيا الغنيّة بالموارد، على نحو استماتتها للاستيلاء على مأرب، المحافظة الغنية بالنّفط، مستفيدة من تضعضع خصومها في الشرعية وفسادهم.
المجتمع صار أعزلاً في مجابهتها، فالموارد الكثيرة التي تجتبيها أصبحت توظّفها لإنتاج مقاتليها العصبويين، ولمنتفعيها الأمنيين، الذين حوّلوا المدن إلى ثكنات أمنية شديدة القسوة، لها جهوزيّتها الدائمة، حتي في توجيه التُّهم لمناوئيها الجائعين والمطالبين بحقوقهم، مثل تُهم "الدعشنة" وموالاة العدوان ومرتزقته، وصارت تحتفظ بالألوف منهم في سجونها وأقبيتها السريّة، تبادل بهم أسماء كبيرة من مقاتليها، في عمليات تتفق بشأنها في الغالب مع خصومها الذين ينتفعون من عمليات التبادل أيضاً، أو أنها تحتفظ بهم كرهائن تبادل حرياتهم بأموال كبيرة.
مليشيات الانتقالي في الجنوب استدعى تشكّلها - لتكون بديلاً لمكوّنات الحراك السلمي للقضية الجنوبية - رغبة الطرف الثاني في التحالف (دولة الإمارات العربية المتحدة)، حتى تسد الطريق أمام مناوئي مشروعها الاستحواذي على الممر المائي، مستفيدة من احتقان الشارع الجنوبي، وحساسيته الشديدة، التي تقوّت مع اجتياح تحالف قوات صالح والحوثيين مدن الجنوب في شتاء 2015م.
الوعود الكبيرة والكثيرة، التي قدّمتها هذه المليشيات للشارع الجنوبي مع كل حالة طرد كانت تقوم بها للحكومة الشرعية من منتجع 'معاشيق'، تذهب في خبر كان، وإعلانها للإدارة الذاتية لعدن في أبريل 2020م لم يحسِّن من وضع الخدمات في المدينة والمناطق المحيطة بها، بل زاد سوءاً، والمتاجرة ونهب الأراضي في المناطق الجديدة، والجبايات غير القانونية التي نفّذتها وتنفذها بواسطة أذرعها العسكرية في الميناء والنّقاط والحواجز، صارت، لضخامتها، محل تنازعات دموية بين فصائلها القروية وقاداتها.
خبراتها السياسية القليلة والمتشنّجة أفقدتها الكثير من المصداقية في الشارع الجنوبي، فهي لم تجلب له الدولة التي وعدت بها في بياناتها، ولا انتشلته من حالة الفقر والجوع التي تكويه بوقيدها.
ومثلما ترمي مليشيا الحوثي بكل التزاماتها -حيال المجتمع- على دول العدوان، ترمي مليشيات الانتقالي بفشلها في إدارة الملفين الأمني والاقتصادي/ الخدمي في مدينة عدن وغيرها من مدن الجنوب، التي تمسكها، على الحكومة الشرعية، الغائبة أصلاً وقليلة الحيلة.
حين خرجت المظاهرات العارمة في تعز، مطلع شهر سبتمبر، للمطالبة بوقف انهيار العملة، واحتجاجاً على ارتفاع أسعار السلع سارعت الأجهزة الأمنية في المدينة، التي تسيطر عليها مليشيات حزب الإصلاح، إلى قمعها، واتهام المحتجين بأنهم يعملون لصالح الحوثيين، ومع تقويض الدولة!!
منذ سيطرت المليشيات الإصلاحية على المدينة والكثير من أريافها التي لم تتمدد فيها المليشيات الحوثية، وهي تمارس احتكاراً فجاً للسلطة والثروة، وتعمل على إزاحة منافسيها بشتّى الطرق الناعمة والخشنة، لأنها تكابد كثيراً لتكون المحافظة جزءاً من قسمتها أسوة بالأطراف الأخرى التي تسيطر على الجغرافيا اليمنية، شمالاً (الحوثيون)، وجنوباً (المجلس الانتقالي)، وشرقاً (النُخب الجهوية)، وغرباً (موالو أسرة صالح). لها أذرعها الخفية في المدينة وأريافها من البلطجية والعصابات الدموية التي أقلقت سكينة المواطنين، دون أن تردعهم أي سلطة بما فيها الألوية والكتائب التي ينتمون إليها، ويحملون رتبها، حتى إن زعماء العصابات يحظون بحماية شخصية من قادة عسكريين معروفين داخل المحور.
عن ممر التهريب التاريخي، الذي نهضت عليه سلطة صالح، كتبت -في يوليو 2019- متتبعاً محاولة ضخ الحياة في تكتل موالٍ على عبدالله صالح العسكري والسياسي، بعد مقتله، بقيام راعي الحرب الثاني (الإمارات) بفرضه كقوى على الأرض، وتمكينه من الشريط الساحلي الغربي، التي صارت اليوم أشبه بعملية "تعمية" أخرى لإيهام الرغبويين أن التكتل قد صار رقماً في معادلة الحرب والتقاسم، والكل يعرف أن دوره ليس أكثر من شرطي حراسة بائس، يُستخدم لتخويف نمور ورقية مسترخية في الجوار، وينتفع من مردود التهريب بين "ذوباب" في تعز و"الفازة" في الحديدة.
التعليقات