صحافيو اليمن: جحيم الداخل وعناء المنفى
أزهقت الحرب المتصاعدة في اليمن أرواح 39 صحافياً وإعلامياً على مدار السنوات السبع الماضية، إلا أن جريمة الاغتيال المروعة التي أودت بحياة الصحافية رشا الحرازي الحامل هزّت الشارع اليمني، ودقّت ناقوس الخطر على مستقبل ما تبقى من العاملين في المجال الإعلامي في البلد الجريح.
تكمن الصدمة الجديدة في أن عملية وحشية استهدفت هذه المرة أسرة كاملة مؤلفة من صحافي وصحافية، وكذلك في تطور وسائل قتل الصحافيين عبر عبوات ناسفة، وهي الأداة التي كان استخدامها محصور باستهداف السياسيين والقادة العسكريين.
منذ العام 2015، أحال النزاع حياة الصحافيين في اليمن إلى جحيم، حيث سقط 39 قتيلاً من إجمالي 1360 انتهاكاً. وعاماً بعد آخر، تزداد بيئة العمل الصحافي خطورة، إثر الاستهداف الذي تعرضت له وإجماع أطراف الحرب كافة في البلاد على التعامل مع الصحافي كعدو. وجراء الاستهداف الممنهج وإفلات الجناة من العقاب، يفكر بعض الصحافيين اليمنيين جدّياً بالتخلي عن الصحافة والبحث عن مهنة أخرى تجعلهم في مأمن مع أسرهم من أي غدر، فيما تراود البعض أحلام الهجرة خارج البلاد بحثاً عن ملاذ آمن. وكانت مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا أكثر الوجهات التي استقبلت الصحافيين اليمنيين الفارين من الداخل، فيما فضّل العشرات التوجه نحو القارة الأوروبية بحثاً عن اللجوء الإنساني.
وعلى الرغم من الحرية التي ينعمون بها، إلا أن غالبية الصحافيين اليمنيين في الخارج يعيشون أوضاعاً مزرية، جراء توقف مرتباتهم وكافة مصادر الدخل، وسط اتهامات للسلطات اليمنية ونقابة الصحافيين أيضاً والمنظمات الدولية بالخذلان.
ويرى عضو مجلس نقابة الصحافيين اليمنيين، نبيل الأسيدي، أن الكارثة التي حلّت بالوسط الصحافي في اليمن أكبر من أن تتحملها نقابة، ويقول إن الحكومة، وخصوصاً مؤسسة الرئاسة، هي من تتحمل مسؤولية حرمان الصحافيين حتى الذين لا يزالون في الداخل من مرتباتهم في مؤسساتهم الإعلامية.
يتفق الأسيدي على وجود دور سلبي للمنظمات المعنية بدعم الصحافيين في تعاملها مع وضع الصحافة في اليمن، ويؤكد أن كثيراً من المنظمات تفضل العمل في البلدان المستقرة وتخشى الوصول إلى اليمن حتى لا تتعرض للأذى، فضلاً عن أن أطراف الحرب تنظر للمنظمات الدولية بعين الشك وترفض منحها التراخيص لدخول المدن اليمنية.
كفاح في المنفى
بالنسبة لصحافيين قدموا من بلد شهد مجزرة على صعيد الحريات، لم يكن أمامهم الكثير من الوقت للاسترخاء، بل تحتم استغلال قربهم من الجهات الدولية الفاعلة في حرية التعبير لإيصال معاناة ما تبقى من زملائهم في اليمن، كما هو الحال مع عضو مجلس نقابة الصحافيين اليمنيين، نبيل الأسيدي.
ينشط الأسيدي الذي وجد في سويسرا ملاذاً آمناً منذ أواخر 2015، بعد إفلاته من ملاحقات حوثية في صنعاء، بشكل فاعل في سبيل الانتصار لقضايا الصحافيين اليمنيين من مقر إقامته الجديد. وخلال الأيام الماضية، اختاره مشروع "أصوات عالمية تنشد الحرية" ضمن 10 صحافيين على مستوى العالم يدافعون عن المهنة.
يعتقد الأسيدي أن الصحافيين اللاجئين في سويسرا لديهم مساحة أكبر للتحرك وعرض المآسي التي يتعرض لها زملاؤهم داخل اليمن، نظراً لقربهم من مجلس حقوق الإنسان، والمقرر الأممي الخاص بالإخفاء القسري، وكذلك المقرر الخاص بالاعتقال التعسفي، والمقرر الخاص بمناهضة التعذيب.
ويقول الأسيدي، لـ"العربي الجديد"، إنه يحرص على التواصل مع المنظمات المعنية وتزويدهم بالانتهاكات التي تُرصد وتوثق بمساعدة الزملاء في نقابة الصحافيين داخل اليمن، كما يبذل الجهد المتاح للحضور في وسائل الإعلام، للتذكير بقضايا الصحافيين اليمنيين، وخصوصا الأربعة المحكوم عليهم بالإعدام، حتى لا تُقدم المليشيات الحوثية على تنفيذ ذلك الحكم الجائر.
تحتجز سلطات الحوثيين الصحافيين اليمنيين عبد الخالق عمران وأكرم الوليدي وحارث حميد وتوفيق المنصوري تعسفاً منذ عام 2015، بسبب تقاريرهم عن الانتهاكات التي ارتكبتها الجماعة لدى سيطرتها على العاصمة صنعاء ومعظم غرب اليمن، في سبتمبر/أيلول 2014. وفي إبريل/نيسان عام 2020، حكمت "المحكمة الجزائية المتخصصة" في صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون على الصحافيين الأربعة بالإعدام، بعد محاكمة وُصفت بالجائرة، بتهمتي الخيانة والتجسس لمصلحة دول أجنبية، وهي تهم سياسية تستند إلى عملهم الإعلامي فقط. لم تحدد المحكمة موعداً لتنفيذ الحكم بعد.
صراع مع الحياة
لا تمنح ظروف الحياة الجديدة في المهجر كثيراً من الصحافيين فرصة لالتقاط أنفاسهم حتى يتفرغوا بشكل كافٍ لما يدور في بلدهم الأصلي. ووفقاً للصحافي غمدان اليوسفي، فإن من يصل إلى أوروبا "يعود كما ولدته أمه، ويدخل في صراع لتأسيس حياة جديدة من الصفر".
فر اليوسفي من اليمن إلى مصر قبل أن يستقر به المطاف في هولندا، من أجل النجاة بأسرته من الأطراف كافة، سواء المليشيات الحوثية التي تستسهل قتل معارضيها أو سجنهم وإخفاءهم قسرياً، أو باقي الأطراف التي تريد من الصحافي أن يكون ناطقا بلسانها وإلا فإنه في خانة الأعداء.
تحتضن هولندا نحو 20 صحافياً يمنياً. ويعتقد اليوسفي أنه على الرغم من الاستقرار النسبي، إلا أن الأمر يظل صعباً بالنسبة للاجئين في أوروبا، حيث الحياة الاجتماعية مختلفة، وتفرّق اليمنيين في بلدات متباعدة تجعلهم لا يلتقون سوى في مناسبات نادرة.
ويقول اليوسفي لـ"العربي الجديد": "كل هذا يشكل عزلة على الصحافي أو المهاجر عامة، ويصعب اختراق حياة الآخرين لتكون لهم صديقاً (...) هذه التفاصيل تدفع الصحافي لأن يظل متشبثاً بقضيته هناك في اليمن البعيد، ويتابع كل صغيرة وكبيرة، وتجده ربما الأشد غضباً لكونه ممنوعا من رؤية بلده حتى يأخذ الجنسية الجديدة، ويشعر أنه في سجن يعيش بعيداً عن أهله وأحبته، ويقنع نفسه طوال هذه السنوات أن الأمان هو الأهم".
ووفقاً لليوسفي، فإنه لا يوجد نشاط صحافي مرتب في أوروبا بل عمل فردي مستقل، أو أنشطة مدفوعة من التحالف الذي تقوده السعودية أو إيران وغيرها من الدول المعنية بالملف اليمني.
شبكة علاقات محدودة
لم تكن السنوات الماضية من عمر اللجوء كافية للصحافيين اليمنيين المقيمين في أوروبا للانخراط في المجتمع الغربي وتسويق ما يجري في بلدهم الأصلي بفعالية، قياساً بمهاجرين ولاجئين من دول عربية أخرى مثل سورية أو فلسطين.
يرجع الصحافي اليمني المقيم في بلجيكا، خليل العمري، ذلك إلى قصر خبرة المهاجر اليمني في أوروبا، على الرغم من تأكيده على أن نشاط اليمنيين، وخاصة الصحافيين، يبدو جيدا مقارنة بالعوامل المحيطة.
ويقول العمري الذي انتقل إلى بلجيكا أواخر العام 2019، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "شبكة علاقات الصحافي اليمني في أوروبا قصيرة جداً، أي أقل من أربع سنوات مقارنة بالتغريبة الفلسطينية مثلا التي تتجاوز عشرات السنين أو حتى السورية التي تتجاوز العشر سنوات".
وعلى الرغم من إقراره بصعوبة التواصل مع الإعلام والمجتمع جراء وجود 3 لغات في بلجيكا ليس من بينها الإنكليزية، إلا أنه يشير إلى أن هناك تواصلاً شبه فعال مع الجانب الأوروبي المدني، فضلاً عن ظهور نماذج إعلامية يمنية في سويسرا وهولندا وألمانيا وفرنسا، استطاعت التعريف بالأزمة اليمنية.
أجرى العمري مقابلة مع تلفزيون بلجيكا الرسمي ومع صحيفة محلية، والتقى مع أكثر من مائة باحث في المشرق العربي في "جامعة غنت"، في أنشطة نقل خلالها بعض معاناة اليمنيين وخلفية الصراع في اليمن.
وعلى الرغم من محاولاته الدائبة، إلا أن العمري يرى أن الرأي العام الغربي يهتم بالقصة الانسانية ولا يتفاعل مع عوامل وتفاصيل وخيوط الصراع، وعادة ما يختزل الصراع بالمنطقة بثلاث كلمات: صراع سني شيعي، أو هجوم سعودي وحشي على بلد فقير مثل اليمن. ويقول "الأزمة اليمنية هي أزمة منسية في منطقة منسية من قبل الإعلام والرأي العام البلجيكي والأوروبي، لكن القصة الإنسانية لا تزال محل اهتمام نسبي من قبل الإعلام البلجيكي، إضافة إلى الاهتمام الإعلامي بالأزمة اليمنية في الجانب السياسي".
التعليقات