المجلس الرئاسي اليمني .. سلطات متعدّدة وقرار متشظّ
تحدّد الظروف السياسية التي تتشكل وفقها السلطات التوافقية خياراتها المرحلية والمستقبلية، بحيث تعمل على تمكينها من السلطة أو قد تعيقها عن ذلك، ومع اختلاف الظروف التي أفضت إلى تشكيل المجلس الرئاسي، عن أي سلطةٍ أخرى، كونه حصيلة دورات عنف متتالية بين وكلاء القوى المتدخلة في اليمن، والذي أدّى، لاحقا، إلى فرض المجلس الرئاسي صيغة لاقتسام السلطة، فإن ذلك حدّد مهام المجلس الرئاسي وفق خيارات حلفائه، أي تهدئة الحرب مع جماعة الحوثي، تمهيدا للمسار التفاوضي النهائي. وإذا كان ذلك قد قيّد فاعلية المجلس الرئاسي كسلطة حرب، فإن تعدّد القوى السياسية المنضوية في المجلس، بما في ذلك غياب آلية تنظم أعماله وتحدّد صلاحيات النواب، انعكس على إدارته للدولة، ومن ثم قد يعيق أي محاولةٍ لإصلاحها، بما في ذلك الجهازين العسكري والأمني.
تستند سلطة المجلس الرئاسي، وبالتالي مرجعيته السياسية، إلى إعلان نقل السلطة الذي تنازل بموجبه الرئيس عبد ربه منصور هادي عن سلطته للمجلس، إذ تعدّ الوثيقة السياسية المفترض أن تحدّد سلطة المجلس واللجان المصاحبة له، بما في ذلك المهمات الموكلة إليه، إلا أن المرسوم الذي فُرض بالإكراه على الرئيس هادي صُمّم فقط لإزاحته قسرياً من حلفائه الإقليميين، بحيث أغفل آلية تنظيم سلطة الوكلاء، وإن حدّد خطوطا عامة لطبيعة المهام، لكنه افتقر لآلية تنظيمية للمجلس، وكذلك لائحة داخلية تنظم أعماله وسلطاته، بحيث أفضى، بعد شهرين من تشكيله، إلى خلل مؤسّسي، نجمت عنه أزمة في القرارين السياسي والإداري، مقابل فرض التوافق بين القوى المشكّلة للمجلس، ممثلا بالنواب معيارا للتعيين في جهاز الدولة، كما أن إغفال تحديد صلاحيات نواب الرئيس، بما في ذلك فصلها عن صلاحياته، أدّى إلى تغوّل سلطتهم من جهة، ومن جهة أخرى، تدخلهم في صلاحيات الحكومة، وربما يمثّل الصراع في وزارة النقل بين الوزير المحسوب على المجلس الإنتقالي الجنوبي ورئيس الحكومة أحد تجليات هذه الأزمة.
وفي مستوى آخر، عمّق تقاسم السلطة من تجذير المحاصصة السياسية والمناطقية على حساب الكفاءات، وبالتالي، إفساد الوظيفة العامة ومضاعفة قوام جهاز الدولة ونفقاتها التشغيلية، إلى جانب فرض أتباعهم في مفاصل الدولة، فقد جرى تخفيض تمثيل منطقة أبين، مسقط رأس الرئيس هادي في السلطة الحالية، مقابل استقطاب قوى جديدة من مدينة عدن، وضمن إعاقات أخرى، تمثّل اللجان المصاحبة للمجلس الرئاسي وجها آخر للفشل، فمن لجنة المصالحة والتشاور واللجنة القانونية إلى اللجنة الاقتصادية، تفتقر هذه اللجان إلى لوائح تنظم أعمالها، وهو ما أدّى إلى تعطيلها. وعدا عن إثقال ميزانية الدولة، فإنها ليست سوى عبء إضافي، وصراع بين القوى على توجهاتها ومهمامها، وإذ كان تداخل سلطات نواب المجلس، بما في ذلك تدخلهم في صلاحيات الحكومة، قد أعاق تنظيم الجهاز الإداري للدولة، فإن توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية، الذي نص عليه المرسوم الرئاسي يمثل تحدّيا أكبر، إذ يصطدم بطبيعة التشكيلات وأجندات القوى المشكلة لها، وخيارات حلفائها الإقليميين.
تتداخل مسارات تشكّل التشكيلات العسكرية والأمنية التي نشأت في الحرب مع ظهور حاملها السياسي. وفي حالات أخرى، كانت سابقة لها، بحيث تحوّلت معظم هذه التشكيلات إلى ذراع إسناد لحاملها السياسي، ومن ثم أي تغيير في هذه المعادلة يؤثّر على هذه القوى، فمع توافقها على تشكيل لجنة عسكرية لتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، فإنه يبدو انسياقا مع مهمات المرحلة أكثر من كونه خيارها السياسي، على أن هناك تحدّيات عديدة قد تقوّض مهام اللجنة. وإذا كان رئاسة اللواء الركن هيثم قاسم، وزير الدفاع في أول حكومة موحدة بعد توحيد شطري اليمن، 1990، قد منح اللجنة بعدا مهنيا، كونه من أبناء المؤسسة العسكرية، فإن موقعه في الحرب، قائد ألوية العمالقة في الساحل الغربي المدعوم من الإمارات، يجعله خاضعا، إلى حدّ ما، لتوجهاتها ووكلائها في اليمن، بما في ذلك دوره وزير دفاع في حكومة حرب صيف 1994، إضافة إلى أن قوام اللجنة العسكرية أكثر من 59 عضواً يُحدث مستوياتٍ من الصراع على القرار في داخلها، إضافة إلى سلطة نواب المجلس الرئاسي التي تشرف على أعمال اللجنة، بحيث قد يجرّدها من حياديّتها، ويجعلها تحتكم لتوافقيات المجلس الرئاسي، إلى جانب عدم وضوح مهام اللجنة العسكرية، ففي حين حدّد مرسوم نقل السلطة توحيد الألوية العسكرية والتشكيلات الأمنية تحت قيادة وزارتي الداخلية والدفاع، فإن قرار تشكيل اللجنة العسكرية أغفل ذلك لصالح تقييم هيكلة الأجهزة الاستخباراتية بإسناد دول التحالف.
ومن جهة أخرى، يجعل انتفاء الشرط الوطني لإصلاح المؤسستين العسكرية والأمنية من مهام اللجنة مرحلية وسياسية أيضا، كما أن انتفاء الشرط التوافقي، في أبسط أشكاله، لسلطة المجلس الرئاسي يجعل أي ترتيبات في الجهازين العسكري والأمني جزءا من حالة الصراع التي يشهدها اليمن، وإن كان له، في هذه الحالة، هدف ترتيب معسكر المجلس الرئاسي، إلا أنه حتى القيام بهذه المهمة يتطلب تحديد مهام اللجنة، خصوصا مع فشل تجارب إصلاح المؤسسة العسكرية سابقا، وتسبّبها في تفجّر الصراع، حيث حملت القوى السياسية مطلب إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية إبّان المرحلة الانتقالية، إلا أنها تبنّت سياسة تدوير قيادات عسكرية موالية لها، مقابل إزاحة الموالية لخصومها، والذي أفضى إلى الحرب الأهلية، وذلك بإسقاط صنعاء إبان تحالف الرئيس السابق علي عبد الله صالح مع جماعة الحوثي، بحيث تحوّل الجيش إلى قوى مملشنة طائفية من جماعة الحوثي من جهة، وجيش حزبي متعدّد الولاءات مع تشكّل ألوية جيش الرئيس هادي في سنوات الحرب، إضافة إلى التشكيلات العسكرية المناطقية التي أسستها الإمارات في جنوب اليمن، لدعم حلفائها، والتشكيلات المدعومة من السعودية، وإذا كان من الصعب في ظل حالة الحرب إعادة هيكلة القوات التابعة للقوى المنضوية في المجلس الرئاسي، فإن توحيدها مهمة تكتنفها الصعوبات.
التحوّل الوظيفي للجهاز الأمني من فرض سلطة الدولة وتثبيت الأمن، إلى دعم قوى سياسية متعدّدة ومتصارعة لتثبيت سيطرتها تنفّذها تشكيلات هجينة خارج المؤسسة الأمنية الرسمية، يكشف عمق معضلة توحيده في ظل الظروف الحالية، ومع اختلاف طبيعة الأجهزة الأمنية في المناطق المحرّرة من حيث الولاءات السياسية، وكذلك قوامها وتأهيلها، فإنها ظلت سببا للانفلات الأمني، وممارسة مختلف أشكال الانتهاكات بحق المواطنين. تتساوى في ذلك القوى الأمنية التي تحوّلت إلى غطاء لفرض سلطةٍ، كحزب التجمع اليمني للإصلاح، والأحزمة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي في مناطق الجنوب، بما في ذلك التشكيلات العسكرية التي تمارس دورا أمنيا، كقوات العميد طارق محمد عبد الله صالح، في الساحل الغربي. ومن ثمّ، لا يعني دمج هذه التشكيلات في جهاز موحّد فقط ملشنة جهاز يضبط الأمن، بل زجّ عناصر متشدّدة إلى قوامه. يضاف إلى ذلك أن المكاسب التي حققتها هذه الأجهزة، طوال سنوات الحرب، والتي جعلتها، رغم تحالفاتها السياسية مع سلطات الأمر الواقع، وأحيانا انتمائها، تراكم سلطتها في المجتمع، بحيث استطاعت، إلى حد كبير، فرض استقلاليتها، ومن ثم منازعة هذه القوى سلطتها، بل وخاضت حروبا ضدها، كقيادات الأحزمة الأمنية التي خاضت دوراتٍ من القتال في مدينة عدن ضد قوى عسكرية تابعة للمجلس الانتقالي.
وإذا كانت هذه التحدّيات تعيق اللجنة العسكرية عن توحيد التشكيلات الأمنية، فإن التشكيلات العسكرية، سواء التابعة للمجلس الانتقالي أو التابعة لطارق والمقاومة الجنوبية السلفية، بما في ذلك الألوية التابعة لحزب الإصلاح، تمثل مشكلة أكثر تعقيدا، فإضافة إلى قوامها البشري الضخم الذي قد يتجاوز، بحسب بعض الإحصائيات، الخمسمائة ألف، فإن تباين ولاءاتها السياسية والمناطقية، يجعل من الصعب إخضاعها لسلطة عسكرية واحدة، بما في ذلك صعوبة حصر قوامها لعدم وجود قاعدة بيانات، وكذلك المجاميع المقاتلة التي تمثل إسنادا عسكريا لهذه التشكيلات، والتي هي خارج الإحصاء، وتتمتع أيضا بقدر من الاستقلالية والسلطة والتمويل، وهو ما يجعل من الصعب على اللجنة توحيدها، فضلاً عن مركزيتها بالنسبة للقوى السياسية المنضوية في المجلس الرئاسي، وأيضا حسابات رُعاتها الإقليميين.
توليفة سلطة مرحلية متناقضة صنعت على عجل لا يعني قبولها خيار تجريدها من السلاح، إذ ستتحايل على أي إجراءاتٍ تطاول التشكيلات الأمنية والعسكرية التابعة لها، وإذا كانت رئاسة العميد هيثم قاسم قد منحت المجلس الانتقالي الجنوبي نوعاً من السلطة على اللجنة العسكرية، كونه حليفا محتملا، إلى جانب ممثليه في اللجنة، فإن سلطته في المجلس الرئاسي قد تجعله يضغط باتجاه إعادة توزيع هذه التشكيلات، أو إحلالها في مناطق التوترات، بدلا من التشكيلات الأخرى، بما في ذلك إزاحة بعض قياداتها، لا توحيدها. تدعمه في هذا التوجه أجندات القوى السياسية المنضوية في المجلس الرئاسي من العميد طارق الذي يراهن على بقاء ألوية الحرس الجمهوري بوصفها قوة إسناد له، إلى حرص حزب التجمع اليمني للإصلاح على استمرار سيطرته على الألوية في مدينة تعز، وربما يمثل اضطلاع بعض ألوية العمالقة السلفية الجنوبية، التابعة لنائب رئيس المجلس الرئاسي، العميد عبد الرحمن المحرمي، بحماية بعض المواقع الحيوية في مدينة شبوة، بدلا من قوات الجيش، مؤشّرا إلى الخيار الذي قد تلجأ إليه اللجنة العسكرية في هذه المرحلة.
ومن جهة أخرى، وأيا كان المنحى الذي ستذهب إليه اللجنة في المستقبل، العامل الحاسم هو موقف حلفاء المجلس الرئاسي، فمن نواح عديدة، إعادة تنظيم التشكيلات العسكرية أولوية للسعودية، وذلك لتخفيض مخاطر نشوب صدام عسكري بين وكلائها، ومن ثم استمرار سلطة المجلس الرئاسي، بحيث لا يعيق انخراطه في تسويةٍ سياسيةٍ مع جماعة الحوثي، إلى جانب ضمان تحول التشكيلات العسكرية لقوة موحّدة رادعة للجماعة في حال رفضت الخيار السلمي، ومن ثم تجاوز الإخفاقات العسكرية السابقة الذي لعبت السعودية والإمارات دورا رئيسيا فيه، بيد أنه، ومع محاولة تحقيق هذه المكاسب، لا تؤيد السعودية توحيدا شاملا للتشكيلات العسكرية التابعة لوكلائها، بل تراهن على استمرار نوعٍ من التوازن العسكري، أو على الأقل عدم تقليم قوى لصالح أخرى، وربما هو ما يدفعها، في هذا التوقيت، إلى فتح باب التجنيد لألوية اليمن السعيد، لتنويع الأذرع العسكرية الموالية لها، مقابل لجم أي قوةٍ تعارضها مستقبلاً أو تخلّ بالتوازنات السياسية في سلطة وكلائها.
التعليقات