في اليمن... حسم صيغة شكل الدولة مؤجل

الهدنة على جبهات القتال في اليمن أتاحت المجال لتحريك العديد من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة وبقيت مجمدة لأعوام، بسبب احتلال الحرب مع الحوثيين الأولوية على المستويين المحلي والإقليمي. وعلى الرغم من أن اليد لا تزال على الزناد في جبهات الحرب بين قوات الحكومة الشرعية اليمنية والحوثيين، فإن الساحة السياسية تشهد حراكاً لافتاً في سياق ترتيبات جديدة للمرحلة المقبلة، التي قد تشهد تشكيل ورسم خريطة جديدة.

 

تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي

تعد المواجهات العسكرية التي جرت في جنوب اليمن، بين قوات الشرعية و"المجلس الانتقالي الجنوبي" الانفصالي، الشهر الماضي، واحدة من المحطات المهمة على طريق التطورات المرتقبة. ومن قراءة النتائج التي آلت إليها، يمكن أن تذهب التقديرات بعيداً في ما يخص "المشروع الجنوبي"، الذي يهدف إلى "استعادة دولة الجنوب" التي كانت قائمة قبل الوحدة في مايو/ أيار 1990.

وهناك مؤشرات على محاولة ترجمة هذا المشروع على أرض الواقع، بعدما بسطت قوات "المجلس الانتقالي الجنوبي" السيطرة على القسم الأكبر من مساحة المحافظات الجنوبية. وبموازاة ذلك، يقوم المجلس في الوقت الحالي بسلسلة من الترتيبات الداخلية، يمكن تفسيرها بأنها ترتبط بأن يكون جاهزاً لإدارة أي وضع جديد قد يطرأ.

يقول مصدر جنوبي قريب من المجلس الانتقالي، لـ"العربي الجديد"، إن "إعلان الكيان الجنوبي لن يتم خلال الأسابيع المقبلة"، ويربط ذلك بما يسميه "التوقيت المناسب والظروف الإقليمية والدولية والترتيبات الداخلية التي تجري على عدة مستويات". وهذا يعني أن تطورات الهدنة على جبهات القتال، والمفاوضات السعودية الإيرانية ستتحكم بتحديد "ساعة الصفر الجنوبية".

 

ثلاثة خيارات على طاولة "المجلس الانتقالي الجنوبي"

الرؤية السياسية لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" في ما يتعلق بالمرحلة المقبلة تتمحور حول ثلاثة خيارات على الطاولة، على أن تُطرح جميعها للاستفتاء على أبناء الجنوب، وهي خيار العودة إلى ما قبل 1990 بالحدود المتعارف عليها، وخيار دولة اتحادية كل يحكم نفسه، وخيار بقاء الوحدة.

عملياً، فإن خيار استمرار الوحدة بشكلها الحالي لم يعد وارداً في ظل الوضع القائم على الأرض. كان ذلك صعباً حينما كانت هناك الشرعية وقوى الحراك الجنوبي، وصار أصعب في ظل تطور المشروع الحوثي والدعم الذي يلقاه من إيران.

ويبقى المطروح على الطاولة اليوم مشروعا العودة إلى ما قبل عام 1990، أو الدولة الاتحادية. ولكل منهما نقاط قوته وضعفه. وفي الحالتين، تغلب نقاط الضعف، ولذا لن يستطيع أي طرف من الأطراف المحلية التفرد بالقرار، أو التصرف وفق ما تمليه مصالحه، وبالتالي سيحصل نوع من التوافق الإقليمي والدولي على صيغة تحقق الحد المقبول للأطراف.

ولأن خيار العودة إلى ما قبل 1990 غير وارد، بسبب سيطرة المشروع الحوثي على المساحة الأكبر من دولة الشمال قبل الوحدة، وبقاء جزء تحت سلطة الشرعية، يبدو أن خيار الدولة الاتحادية أقرب، والذي يُرجَح أن تنبثق عنه ثلاثة كيانات؛ الأول هو الجنوبي ويقوم على كامل مساحة الجنوب، ويحكمه "المجلس الانتقالي"، والثاني الشمالي ويقوم على جزء من الشمال الذي يسيطر عليه الحوثيون، والثالث في منطقة الوسط وتحكمه الشرعية.

تفاعلات حرب عام 1994 التي شنها الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح ضد الجنوب مستمرة، ولأنها قوّضت مشروع الشراكة بين الشمال والجنوب، لا تزال المظلومية الجنوبية تنهل من هذا النبع، وأتيح لها قبل انطلاق ثورة الساحات عام 2011 أن تعبّر عن نفسها بحراك شعبي سلمي من أجل "استعادة دولة الجنوب"، وهو ما شكل حاضنة جاهزة لـ"المجلس الانتقالي".

المشروع الحوثي نقل اليمن إلى وضع مختلف كلياً، ومنذ الاستيلاء على صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، لم تعد الأولوية للاستحقاقات الداخلية، بل باتت الأطراف على الضفة الأخرى تتلمس عواقب تقدم الحوثيين على الأرض، ومخاطر ذلك انطلاقاً من الدعم الإيراني لهم من جهة، ومن جهة ثانية توظيف اليمن في النزاع بين إيران والسعودية.

 

اليمن وأمن الجزيرة العربية

يشكل اليمن آخر بوابة لأمن الجزيرة العربية من الناحية الاستراتيجية، لجهة الموقع الجغرافي والعامل البشري، والبعد التاريخي، وهو يمتلك جميع المقومات للنهوض بهذا الدور، شريطة توافر الإمكانات اللازمة؛ المادية والعسكرية.

وظهر ذلك واضحاً من الناحية الميدانية خلال العام الأخير، وقبل التوصل إلى الهدنة في إبريل/ نيسان الماضي، إذ تمكنت القوات التي تقاتل تحت لواء الشرعية من صد هجوم كبير للحوثيين، كان يهدف للسيطرة على محافظتي مأرب وشبوة ووضع اليد على منابع الثروات النفطية.

وكانت أبرز نقاط الفصل في المعارك الأخيرة هي أولاً، أن المشروع الحوثي يمكن تحجيمه بدرجة كبيرة. وثانياً، أن أحد أسباب التصعيد في الحرب هي المخاطر على السعودية والإمارات، من جراء إرسال الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة ضد أهداف حساسة مثل المطارات المدنية والمواقع النفطية داخل المدن الكبرى مثل الرياض وأبوظبي.

 

مواجهات الشرعية و"المجلس الانتقالي"

وفي أجواء الهدنة، جرت عملية نقل للسلطة في اليمن من الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى المجلس الرئاسي، الذي تشكل في إبريل الماضي وضم شخصيات من الشمال والجنوب، برئاسة شخصية شمالية تنتمي إلى منطقة الوسط هو رشاد العليمي، من مواليد محافظة تعز، والوزير السابق للداخلية في حكومة علي عبد الله صالح. وهو يعدّ أحد الخبراء في الشأن الداخلي من موقعه كمتخصص في علم الاجتماع، وله متابعة خاصة للشأن الحوثي، إذ شارك من موقعه في الداخلية في حروب صعدة الست (بين 2004 و2009).

وحصل الطرف الجنوبي على موقع نائب رئيس المجلس، الذي احتله اللواء عيدروس الزبيدي، الشخصية التي باتت في سدة قيادة المشروع الجنوبي بعدما قاد المقاومة الجنوبية ضد الحوثيين، ونجح في توحيد الصف الجنوبي حول هذا الهدف، واستثمر ذلك في اتجاه تصعيد المطالب باستعادة دولة الجنوب.

ومن هنا، يمكن تفسير ما جرى في بعض محافظات الجنوب، مثل شبوة وأبين، من مواجهات وعمليات تسليم واستلام بين قوات الشرعية وقوات "المجلس الانتقالي الجنوبي". وهو بتوصيف مصادر على صلة برئيس المجلس الرئاسي، "محاولة لزعزعة استقرار الدولة"، التي تعمل على ترتيب صفوفها للمواجهة الفاصلة مع المشروع الحوثي.

ويفسر المصدر عدم خوض معركة من طرف قوات الشرعية في أبين، وتسليمها لـ"الانتقالي الجنوبي" من دون قتال، بأن "هدفه عدم فتح الباب لصراع مسلح داخل الصف الواحد"، في حين يعتبر "المجلس الانتقالي" أن إخراج قوات الشرعية من الجنوب هو في إطار رؤية لتمركزها على جبهات القتال في مواجهة المشروع الحوثي. أما إدارة الجنوب أمنياً وعسكرياً، فهي مناطة بالانتقالي فقط.

ويقول مصدر قريب من العليمي، لـ"العربي الجديد"، إن "اللاعبين المحليين لا يمتلكون القرار". ومن هنا، فإن إمكانية تصعيد النزاع بين الطرفين غير واردة، بل يمكن احتواء الصراع الحالي بالتعويل على الدور السعودي الذي يشكل ضابط إيقاع للوضع اليمني، ومن منظور أن الرياض تعلم جيداً أن عدم دعم الدولة اليمنية واستقرارها يؤثر على طبيعة المعركة، وهي تدرك جيداً مخاطر استفحال النزاع الذي ستكون إيران أول المستفيدين منه.

وهنا، يشار إلى أن الشرعية قطعت شوطاً كبيراً في إعادة توحيد القوات المسلحة برعاية الطرف الضامن، أي السعودية.

ويؤكد المصدر أن المجلس الرئاسي يبقى الصيغة الوحيدة المطروحة اليوم لإدارة شؤون الوضع اليمني، وما يجمع مكوناته هو مواجهة الحوثيين، ولكنه يشكل أرضية لإعادة بناء الدولة اليمنية، وإذا ما تم احتواء الصراع السياسي الموجود، فإن جميع القوى المسلحة تصبح تحت راية الدولة.

ويقول المصدر إن زيارة العليمي الأخيرة للإمارات ومن بعدها السعودية، كانت ضمن محاولة لإقناعهما بعدم إضفاء الشرعية على العملية العسكرية التي قامت بها قوات الانتقالي، ولا سيما أن السعودية على وعي بالمخاطر الإيرانية، وتدرك أن استمرار النزاع بين الأطراف اليمنية المتحالفة معها، يضرّ بطبيعة الصراع مع الحوثيين.

وهناك مسألة أخرى تتعلق بفتح مواجهة مع حزب الإصلاح، وهو أحد العناوين المطروحة كهدف من أهداف بسط سيطرة قوات "المجلس الانتقالي" في الجنوب. ويرى المصدر أن ذلك يضر بالصراع مع الحوثيين لأن عمق المناطق التي يسيطرون عليها مؤيد لحزب الإصلاح.

يبقى الوضع الداخلي مؤجلاً إلى حين، بسبب هشاشة الهدنة وخرقها وعدم تنفيذ بنودها من قبل الحوثيين لجهة رفع الحصار عن تعز. وفي هذه الأثناء، يراكم كل طرف المزيد من الأوراق التي تعزز موقفه بانتظار التوقيت المناسب.

أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية