الانتقالي .. بائع الأوهام مكشوفاً
منذ تأسيسه في مايو/ آيار 2017 ، انتهج ما يُسمّى المجلس الإنتقالي الجنوبي، خطابًا سياسيًا طوباويًا منفصلًا عن الواقع، ليس الواقع السياسي فحسب، بل حتى منفصلًا عن منطق التاريخ والمسار الطبيعي للإجتماع الإنساني اليمني. هذا النهج لم يكن نابع من يقين بالقوة والحضور، بل العكس هو مؤشر واضح على تطرف يحاول تعويض هشاشته بفائض كلامي حاد، لربما؛ رغبة منه باخفاء حقيقته، فيما هو يسهم في كشفها.
تقوم السياسة كمنهج لتدبير الواقع العملي، على أقل قدر ممكن من الكلام وأكبر قدر ممكن من الخطط والتدابير المباشرة والعملية، ذلك أن أحد أهم شروط السياسي الحصيف، هو الاقتصاد في الكلام، حد ألا يتيح لخصومه أن يمسكوا به في أي مزلق يفيض في الحديث عن الحد. السياسة مقرونة بالحذر النظري وحتى العملي. ثم لا بأس أحيانًا بشيء من المغامرة العملية عندما يقتضي الموقف ذلك.
غير أن المتابع لنهج الإنتقالي منذ ما يقارب 6 سنوات على تأسيسه، يكشف عن كيان مبتدئ في عوالم السياسة، وليس لحداثة عهده بها علاقة بهذا التيه والتخبط. بل يعود الأمر لطبيعة تركيبته وافتقاره لعناصر وازنة تضبط النهج والخطاب وتدفع به نحو الغاية التي يُفترض أن الكيان يصب في صالح تجسيدها.
يتوَّهم الإنتقالي أنه بظرف قصير نجح في التحول لكيان مركزي حامل للقضية الجنوبية، غير أن ما يُقرأ كنجاحات لا بأس بها، هي في الحقيقة نتاج تقاطعات لظروف خارجية_ ليس خارجية بمعنى قادمة من دول أجنبية وإن كان هذا المعنى صحيح أيضًا_ لكن المقصد أن ما يتوّهم المجلس أنها انجازات ذاتية نابعة من حنكته السياسية هي في الحقيقة انجازات متولدة عن ظروف مفصولة عن عناصر قوته الجوهرية.
لهذا السبب وبشكل متكرر، تجد عناصر الإنتقالي، ما بين الفينة والأخرى، يشعرون بخيبة أمل قادمة من هنا وهناك ويهيجون ضد الكل. يساورهم شعور أن الجميع بات معترفًا بهم، فيتضخم احساسهم الوهمي أنهم بالفعل صاروا كيانًا مركزيًا يتقدم كل يوم نحو الحلم المزعوم. ثم فجأة تأتيهم لكزة من هنا وهناك. فيشعرون بالحنق كمراهقين لم يكونوا يتوقعوا هذا الخذلان. هل هذا كيان سياسي راشد يدير خططه بثبات ويراكم عوامل قوة ذاتية باستمرار وصولا نحو الهدف المنشود..؟ أشك بهذا.
جهات كثيرة تحاول مدارة الإنتقالي، بهدف تخفيف سلوكه الصبياني، يغافلونه؛ انتظارا لتلك اللحظة التي يلحظون فيها مراجعة ذاتية لخطابه وخفض جموحه اللامعقول. فيما هو يفهم الرسالة خطأ ويعتقد أنهم خائفين منه وأنه تمكن من اخضاعهم. فيما الحقيقة مغايرة تمامًا.
الحقيقة، لا السعودية ولا حتى الإمارات، يبدو أنها مستعدة لتحمل كلفة تشطير بلد. قد لا يكونوا بالضرورة حريصين على الوحدة؛ لكنهم أيضًا غير متحمسين للإنفصال ويرون في خطاب الإنتقالي نوع من الشطط، مغالاة يتوجب كبحها، فهي ليست مرهقة لليمن كدولة شبه متلاشية بل ولها ارتدادات عابرة للحدود.
لكن الإنتقالي لا يبدو أنه يتمتع بقدر من الحكمة؛ كي يحسم أمر سياسته ويفرِّق بين تهويماته الخيالية وبين مقتضيات الواقع. ما يزال مثل مراهق فتح عينه للتو أمام عوالم جديدة، وراح يمارس انفلاته معتقدا أن الجميع؛ سيظل يتعامل معه بنفس الطريقه ويداريه للنهاية.
الخلاصة: خرج علينا بعض عناصر الإنتقالي يشتاطون غضبًا من تصريحات رئيس مجلس القيادة، العليمي. ماذا قال : " نؤمن تماماً بأن القضية الجنوبية عادلة والحديث عنها في هذه اللحظة أو نقاش حلها في هذا الوقت قد يكون غير مناسب وعندما نستعيد الدولة سنضع كل شيء على طاولة الحوار والنقاش ونضع المعالجات بالحوار وليس بالعنف أو بالفرض."
هل بدأ لهم ذلك التصريح العادي جدا، أمرًا صادمًا، لربما أن ذلك مؤشرا على أن الوهم قد بلغ بهم حدًّا بعيدا. أظنهم بحاجة أن يعودوا للمدارس؛ كي يفقهوا شيئًا من الواقعية السياسية.
لا بأس أن تضطر بعض الكيانات السياسية للمغالاة في طرحها أحيانًا؛ كتكتيك خطابي بغرض المناورة وبهدف تحشيد الوجدان العام لأتباعها، لكن أن تغدو حفلة تسويق الأوهام، هي الحقائق السياسية لدى رموز وقيادات الكيان السياسي، فذلك أمر ينتمي للكوميديا السوداء، وربما المأساة. مأساة فصيل سياسي، يعيش تحت نشوة انتصارات عابرة ويعتقد أنه بات قاب قوسين أو أدنى؛ كي يزوره قادة العالم ويرفعون معه علم دولته. لا شيء أخطر على العمل السياسي من ترويج الأوهام ثم الإيمان بها، حد أن تتحول لمنطلقات لطريقته في إدارة اللعبة. يحتاج الإنتقالي مزيد من اللكزات؛ كي يستفيق من وهمه وربما من سكرته.
التعليقات