تعز ... أو قوى السلطة والقوى البديلة في اليمن
تعود مدينة تعز إلى واجهة الأحداث اليمنية مع أي تحوّل في مجريات الصراع أو تسريبات عن تسوية مرتقبة بين الفرقاء، إذ لطالما شكّلت ساحة مثالية لإدارة معادلة القوة. وعلى الرغم من أنها جبهة غير مؤثرة في خريطة الحرب بالنسبة إلى أطراف الصراع، فإنها تشكّل منطقة ثقل سياسي منقسم ومتوزّع الولاءات، بحيث يمكن لقوى متعدّدة استثمار الانقسامات وإدارتها لتحسين مركزها من خلال الحشد السياسي والمجتمعي في النطاقات الريفية وفي المدينة، مقابل تصعيدها المعارك في جبهات التماسّ لفرض نفسها في أي تسويةٍ مقبلة. وإذا كانت إدارة المدينة، وفق المنطق الصراعي متعدّد الأجندات، قد فرضت عليها كلفة باهظة من الدمار والإضرار بمصالح المواطنين، فإن استمرار الصراع لم يغيّر شروط المعادلة لصالح طرف، إذ إن تحوّلات الحرب أعادت توزيع القوة بين المتنافسين والفرقاء، مقابل تواطُئهم جميعاً على استثنائها من امتيازات التسويات واشتراطات التهدئة، وفي مقدمتها رفع الحصار.
شكّلت تعز مركزاً سياسياً جاذباً لنشاط الأحزاب السياسية إلى جانب الجماعات الدينية، بحيث أصبحت منطقة استقطابٍ رئيسية، وإن اختلفت نطاقاتها الجغرافية، وخضعت لتحوّلات عديدة، إلا أنه أنتج، في المحصلة، عصبويات جهوية وهويات قروية متصارعة على حساب الهوية المدينية المتجاذبة بينها، وهو ما استغلته قوى الحرب، لاحقاً، مدخلاً للنفاذ إلى المدينة.
وتاريخياً، عرف الريف، وتحديداً ريف الحجرية (منطقة جبلية جنوب تعز) وقراها، بأنه مركز نشاط الأحزاب اليسارية والقومية، لانتماء قياداتها المؤسّسة إلى هذه المناطق، إلا أن تسييس الريف لم يشكّل بؤراً تقدّمية، بحيث تتحقق عملية تراكمية لتطويره، عدا طغيانه على المدينة. ومع أن قوى اليسار لم تؤثر في المعادلة السياسية نتيجة ضعفها ونخبويّتها، فإن إزاحتها من المشهد كلياً وتحولها إلى رديفٍ للأحزاب والجماعات المسلحة فرضتها متغيراتٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ تتجاوزها إلى وضع عام، أدّى إلى تصعيد القوى الدينية إلى جانب قوى متعدّدة تباين ثقلها ونطاقاتها الجغرافية. وتراوح هذه القوى من المؤتمر الشعبي العام إلى حزب التجمع اليمني للإصلاح، وإن تغيّرت معادلة النفوذ بينهما، تبعاً للتحوّلات السياسية في اليمن، وحالة الحرب، إلى جماعة الحوثي التي استطاعات استغلال البؤر المذهبية في بعض المناطق الريفية واستثمارها بوصفها مخزوناً بشرياً في معاركها ضد خصومها، وكذلك لتثبيت سيطرتها في هذه المناطق، وفيما دفعت الحرب إلى مأسسة مناطق نفوذ بين القوى المتنافسة وتأسيس سلطاتها، بحيث كرّس ذلك انقساماً وطنياً وجغرافياً في البلاد، فإن تعز تشظّت سياسياً ومناطقياً بين سلطات متعدّدة من سلطة جماعة الحوثي التي تتمركز في منطقة الحوبان، والتي استطاعت فرض واحدية سلطتها، إلى المناطق المحرّرة التي تتنافس فيها قوى متصارعة تقوض إحداهما الأخرى.
تمتلك مدينة تعز بالنسبة إلى حزب التجمع اليمني للإصلاح مقومات معقل نفوذ ثابت أوجدته التحولات المجتمعية والسياسية، إذ أدّى زخم قاعدته الشعبية إبان الثورة الشعبية إلى حسم المعادلة الحزبية باتجاه تعز، وذلك يحوّل نطاق التأثير السياسي والجماهيري على الصعيد الحزبي من صنعاء العاصمة ومن ثم اليمن إلى مدينة تعز، حيث بات "الإصلاح" الطرف الرئيس في الساحة المحلية، نتيجة ضعف الأحزاب اليسارية والقومية وإزاحة منافسه المؤتمر الشعبي وشيطنته من "الإصلاح"، باعتباره سلطة النظام القديم، بحيث أصبح "الإصلاح" القوة الوارثة لسلطة "المؤتمر". كذلك إن بروز قيادته الوسطى التي تنتمي إلى تعز من نشطاء ومشايخ، جعلها قوة استقطابٍ حزبية، ومن المرحلة الانتقالية إلى الحرب، أصبح قوة رئيسية في سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي، ومن ثم في مدينة تعز، وخصوصاً مع تقييد الأحزاب السياسية نشاطها في صنعاء الخاضعة لجماعة الحوثي، بحيث اضطرّت إلى نقل نشاطها إلى المناطق المحرّرة، بحيث أصبحت مدينة تعز منطقة النفوذ الرئيسية لحزب الإصلاح، مقارنة بمدينة مأرب التي تنافسه فيها قوى قبلية عديدة. يُذكر في هذا السياق تأسيس سلطة ظلٍّ مصغّرة تحت مظلة الرئيس هادي، وتجذير وجوده في مؤسّسات الدولة من خلال تعيين أعضائه في أطرها، إلى النشاط المجتمعي الاستقطابي من خلال الجمعيات الخيرية التابعة له والممولة من حلفائه الإقليميين التي مكنته من استقطاب شرائح فقيرة، بيد أن الأهم تأسيسه لألوية عسكرية أصبحت ذراعه الباطشة ضد منافسيه، إلى جانب استخدام التجنيد في ألوية الجيش التابعة له أداة لتكريس نفوذه في مناطق ريفية والتغلغل إلى مناطق خارج نفوذه كمنطقة الحجرية، مقابل تحويل الجيش، بشكل عام، إلى قوة ضغط تضمن له الاستمرار في السلطة.
إلا أن التحوّل إلى سلطة أمر واقع في مدينةٍ منقسمةٍ سياسياً وبلا ثروات، كمدينة تعز، له سلبياته. فإلى جانب طغيان حزب الإصلاح بوصفه سلطة وقوة تسيطران على قرار بعض أجهزة الدولة، وهو ما عطّل مهام السلطة المحلية المنقسمة بين القوى السياسية المتنافسة من خلال نواب المحافظ، فقد تدخل أيضاً في الجهاز الأمني، سواء على مستوى الإدارة أو القيادة، وهو ما أدّى إلى تحوّله إلى مظلة لحماية نافذين، وتمرير انتهاكاتهم بحقّ المواطنين، ومن أجهزة الأمن إلى ألوية الجيش التي عكست، من خلال قياداتها وقوامها، هويات ريفية في إطار "الإصلاح"، من مخلاف وشرعب إلى جبل حبشي. كل ذلك أدّى إلى تغذية دورات من العنف والقتال إلى جانب ارتكابها جرائم بحق المواطنين، مقابل تجاهل "الإصلاح" هذه الجرائم، وإصراره على توسيع نفوذه إلى نطاقات ريفية لتطويق خصومه، كالتمركز في منطقة التربة، بحيث أنتج ذلك احتقانات اجتماعية ومظالم كان "الإصلاح" من خلال ألويته وإدارته الأجهزة الأمنية، منتهكاً وحامياً بعض المتورّطين بجرائم. وإذا كانت جبهات القتال ضد جماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لنفوذ "الإصلاح" قد ظلت على حالها طوال سنوات الحرب، فإنها أصبحت ورقة سياسية يديرها بحسب أجنداته، وبالتالي، إن اختلال تجربته في مدينة تعز، إلى جانب استراتيجية المتدخلين في إدارة نفوذ وكلائهما، أعاد الحوثي منافساً سياسياً يماثله في القوة لتعديل الكفّة المائلة.
في أي حال، لا يقتضي أن يكون النقيض السياسي البديل المثالي، خصوصاً في إدارة السلطة، لا في تبادل الهيمنات على مناطق النفوذ، إذ وحدها التجربة هي ما يرجّح كفّة طرف على آخر. وفي هذا السياق، لم تكن التجربة السياسية والإدارية لحزب المؤتمر الشعبي العام في مدينة تعز نموذجيةً، بحيث يتم استدعاؤها مثالاً، إذ استخدم "المؤتمر" سلطته لتسييس بعض أجهزة الدولة، وإنْ لم يستطع إخضاعها حينها، ومن ثم لا يختلف كثيراً عن ممارسة "الإصلاح"، عدا عن أن الدولة كانت حاضرة حينها، بحيث ضمنت المساواتية في التعيين والحفاظ على مؤسسات الدولة ككيان وطني سيادي، إلى جانب رقابة القوى المدنية والسلطة البرلمانية لأي اختلالات. ومن ثم يتجاوز "المؤتمر" تجربته في الإدارة لاستدعاء تجربة الدولة اليمنية، ومن تجربة الإدارة إلى تجربة السياسة، ففيما أدّت التحولات السياسية من الثورة على النظام، ومن ثم حزب النظام إلى كمون المؤتمر، وتحديداً في مدينة تعز، ومن ثم انحسار شعبيته، فإن انخراطه في تحالف سياسي وعسكري مع جماعة الحوثي التي خاضت حرباً في مدينة تعز، جعله قوة مدانة، ومن ثم معزولة، في المدينة، وإن تحوّل إلى قوة مناهضة للجماعة بعد مقتل مؤسّسه، الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إلا أنه لم يعتذر عن تلك التجربة، ولا عن الجرائم التي كان شريكاً فيها بقتل آلاف من المدنيين.
من جهة ثانية، لا تُعدّ القوة العسكرية التي يمتلكها "المؤتمر" من خلال ألوية المقاومة الوطنية التابعة للعميد طارق محمد عبد الله صالح (المدعومة من الإمارات) نظامية، ولا من بقايا المؤسسة العسكرية الرسمية، بل هي مليشيا لا تختلف عن ألوية "الإصلاح" الحزبية. ومن جهة ثالثة، لم يعد "المؤتمر" إلى مدينة تعز، وإن تحت مظلات سياسية مختلفة بغطاء وطني محلي، أو حتى تصالح أو توافق سياسي، بل بغطاء إماراتي، من دعم ألوية طارق وتأسيس مركز اقتصادي في مدينة المخا كمنطقة نفوذ إماراتية، إلى تشكيل سلطة المجلس الرئاسي الذي ينضوي فيه "المؤتمر" من خلال العميد طارق، النائب الأول لرئيس المجلس. من جهة رابعة، إذا كان "الإصلاح" قد ارتكب جرائم من خلال الألوية التابعة له وتستّر عليها، فإن المقاومة في المخا تورّطت من خلال قياداتها وجنودها بجرائم بحقّ المواطنين. ومن جهة خامسة، إذا كانت جبهات الحرب ضد جماعة الحوثي ورقةً يستخدمها "الإصلاح"، فإن مقاومة طارق لم تحرّر هي الأخرى منطقة في المدينة. وأخيراً، لم يتبنّ "المؤتمر"، ورديفه المجلس السياسي للمقاومة الوطنية، أدواتٍ مختلفة عن أدوات منافسه السياسي، عدا استثمار أخطائه وكسب مناوئيه، وأيضاً استقطاب قواعد الأحزاب القومية واليسارية لمصلحته، مقابل عدم تقديمه تجربة مناقضة له. ومن ثم فإنه، بخروجه من تعز، بوصفه حزب سلطة والعودة من بوابة أخرى، وإن كان قد قطع مساراً طويلاً، لم يستفد من التجربة. وفي المقابل، ظلّ "الإصلاح" يتوعد بمنع طارق من دخول تعز، بحجّة أنه أداة للإمارات، هو من استقبله في زيارته أخيراً للمدينة، كذلك إن "الإصلاح"، بتجربته السيئة في إدارة السلطة، هو من مهّد الطريق لإعادة "المؤتمر" قوة بديلة له، إلا أن المُحزن في صيرورة تعز، وربما مستقبلها، المدينة المنقسمة والمقسّمة، أنها لم تجنِ في الثورة ولا في الحرب تحسين شروط الحياة لأبنائها، فيما تظلّ متنازعة بين قوتين متنافستين، تستدعي إحداهما الأخرى، وإن كانتا لا تختلفان في بؤسهما، تماماً كجماعة الحوثي التي تتمدّد على ضغائنهما.
التعليقات