البطل فوق الحساب
الحقيقة أن المقاومة انتصرت وتنتصر كل يوم. هناك نصر تاريخي يتجاوز منطق الربح والخسارة، نصرُ لا يمكن للعقول التجارية أن تراه.
من لا يؤمن بمبدأ المقاومة؛ لا يمكنه أن يرى انتصارها. هذا بالفعل نصر لا يكترث للثمن ولا يتحدد بالنتيجة المادية وحدها. هو نصر متعلق بالقيمة والمعنى، بإعادة ترتيب عناصر الحقيقة وإبراز السردية الأصلية للقضية في مسرح العالم. وقد تحقق الهدف.
من لا يعترف بمفاهيم البطولة والشرف؛ عاجز عن وعي جوهر النصر الذي أحرزته المقاومة. من يتباكى على الأرواح الذاهبة؛ هو لا يدرك الثمن المطلوب؛ لتستعيد الأرواح الباقية قدسيتها. ولن يدرك التحول الجاري في الصورة المعنوية للشعب الفلسطيني. لا أفهم كيف يمكن البكاء على من رحلوا والسخرية ممن دفع الثمن في الوقت ذاته..؟ كيف يتظاهر من يكفر بالتضحيات أنه حزين على من ضحوا بأرواحهم..؟
نظريًا الحياة مقدسة، النفوس حرة والروح كاملة الكرامة. لكن هذه الصفات المبدئية؛ يمكن أن تُسلب منك عمليًا ولا يتبقى لك منها سوى المسمّى. أمام وضع مغشوش كهذا؛ يكون الفداء هو الطريقة الوحيدة؛ كي تحمي آدميتك من الهوان.
ما الذي أودّ قوله.. ؟ أودّ القول: من يؤمن بقدسية الحياة ليس من يتباكى على الضحايا؛ بل من يقاتل؛ كي يسترد قداسة من تبقى.
هؤلاء الذين يحملون أرواحهم في مواجهة الموت، لا يطلقون النار لمجرد اللعب. ليسوا حمقى ولا مغفلون. بل أبطال نذروا أنفسهم لحماية حياة أهلهم من الهوان؛ كي يستعيدوا شروط حياة كاملة، لهم الحق الحصري في التصرف بها كما يشاؤون.
الفدائيون المقاومون في أرض الزيتون: رموز في سردية تتجاوزهم، وقد نجحوا في الصعود بها وإيصالها لكل بيت وأذن في العالم. هذا الصدى العالمي؛ ليس تظاهرة مجانية للفرجة أو التسلية؛ بل ثمرة ملموسة، زلزال كسر احتكار الصهيونية لمسرح الوعي وفرض شروط جديدة كافية لعودة الحق الفلسطيني.
هناك حكاية انتصرت، ونصرها يتجاوز منطق السوق والأذهان الحسابية. بحساب اللحظة تبدو الكلفة عالية؛ غير أن ملاحم التحرير. والحكاية الفلسطينية بكل ما هي عليه من مركزية خطيرة؛ ليس من المنطق إخضاعها لمعيار لحظي وتقييمها بأعداد القتلى أو البنايات المهدّمة.
هناك نصر واسع، قريب ومتوسط وبعيد. يعجز العقل التحليلي أن يحيط به. وحدهم أبطال الرواية الحقيقة يتحركون مدفوعون بوعد حقيقي يرونه في الآفاق وبصيرة لا تهزمها الكلفة ولا تخضع نضالها لشروطها. حيث الدم أرخص من الغاية والموت أقل أهمية من صعود الحقيقة. البطل فوق الحساب، ومن يعلن استعداده لتقديم روحه، هو لا يمزح ولا يفكر بأبواب متجره في الغد وبماذا سيعود.
في حديثه عن جوهر البطولة، والبطولة ذات صلة بكل فعل مقاوم ذو غايات كبرى. يقول الفيلسوف الأمريكي الشهير، إميل إمرسون، فيما معناه : " تعمل البطولة بالضد من فكرة الإنسانية وربما بما يناقض الخير المؤقت؛ لكن البطولة لا تتحرك وفقًا لوصايا الحكيم ولا تراعي مخاوف العقلانية، ذلك أن حكمتها لا تتجلى لأي شخص بمثل ما يراها البطل نفسه. لربما يستاء الحكماء من مغامرات الأبطال ويرون نتائج أفعالهم كارثية؛ غير أن الأبطال حملة وعد أخر، وفي طريقهم لتحقيق وعدهم، يحدث أن يُظهرون ازدراء لجانب معين من الخير الظاهر؛ لكنهم في النهاية يؤكدون صدق ما وعدوا به. وبعد مرور الزمن يضطّر الحكماء المستاؤون للتسليم بصوابية البطل.
الخلاصة:
لطالما دفع الفلسطيني كلفة كبيرة من الدم ومن كافة مكاسب الحياة؛ في طريقة لاستعادة حقوقة. دفعها في لحظات مهادنته وفي أوقات مقاومته. وظلّ يخسر باستمرار وهو ينتهج السياسة ويمضي في طريق السلام والتفاوضات أو حاملًا حجرًا ويرمي به دبابة العدو. في كل الحالات مطلوب من الفلسطيني أن يدفع الثمن وكل الخيارات؛ تستدعي الكلفة ذاتها. أمام وضع كهذا، تكون الكلفة المدفوعة لحظة مواجهة وتحدي أقل مرارة من تلك التي تدفعها وأنت راكع بين أقدام عدوّك.
الأمر لا يتعلق بالكرامة فحسب_ مع أن الكرامة إحدى الصفات المركزية للوجود الإنساني وتستحق التضحية_ ؛ بل بالمكاسب الكلية المتحققة مقابل كلفة المواجهة. فكل ما تنتزعه من عدوّك وأنت شاهرًا سيفك في وجهه والدم ينزف من سواعده قبل ساعدك، هي مكاسب؛ تؤكد أهليتك لاستعادة شروط حياة كاملة. فما دمت مستعدًا لدفع ضريبة تحررك؛ فأنت تؤكد عمليًا جدارتك بتأسيس دولتك المرتقبة. تمنحنا بشرى باقتدارك على النصر، اليوم أو بعد ألف عام. ذلك أن حقك بالحياة لم يعد. هبة يرميها لك العدو شفقة وهو يحتقرك؛ بل أنت من تُجبره أن يتقبل اللعب معك على أرضية مستوية.
سؤال على الهامش: ما معنى أن يُعلن العدو استعداده ليُطلق سراح أسراك وتُطلق سراح أسراه..؟ لماذا اليوم فقط أبدى استعدادًا كهذا، مع أن أسراك قضوا عقود مهمَلين في الزنازين..؟ هذا القبول يحمل معنى مختلف. وتحديدًا هذه المرّة. إنه ليس مجرد تفاوض حول ملف إنساني؛ بل تصرّف ذو دلالة سياسية ومعنوية تتعلق باستعادة قيمتك الكاملة كإنسان مقابل الأخر. لقد أُجبر العدو أن يُعاملك باحترام؛ بعد أن كان يتعامل معك؛ كافرًا بأي إقرار بالمساواة بينك وبينه. لهذا السبب التفصيلي العابر وغيره من الأسباب. نستيقن أن ما يحدث هو نصر خالد. هذه بعض تباشير ما تعد به البطولة من ثمار. هذا نصر وتلك حقيقة مؤكدة في جدار التاريخ، لقد أنجزت المقاومة مجدًا غير قابل للسلب. قدمت فداء عريض من الدم والحياة، غادرت أرواح كثيرة الوجود؛ كي يستعيد شعب كامل قيمة الحياة بكامل قدسيتها، حياة من تبقى ومن سيولدوا.
أوليس هذا نصر لا ريب فيه..؟ واصلوا التحدي والمواجهة؛ حتى الأبد.
التعليقات