في رحاب ذكرى انطلاق جماعة" الإخوان المسلمون" قبل 96 عاما
عندما
انتهت الحروب الصليبية علي المشرق الإسلامي ( 1096 -1291م ) بهزيمة الصليبيين، لم
ييأس هؤلاء الصليبيون من محاولات العودة إلى احتلال بلادنا فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل ما يتصل
بعقيدتها وعاداتها وأخلاقها وثرواتها، ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها،
وإلى مواطن الضعف فيغتنموها، ولما تم لهم بعد سبعة قرون الاستيلاء العسكري
والسيطرة سياسيًأ ، أخذوا في إضعاف المجتمعات وبث الوهن والفوضى في أوصالها
الاجتماعية والثقافية بالتشكيك في العقيدة والأنظمة الاجتماعية، خاصة بعد انتهاء
الحرب العالمية الأولي ( 1014م – 1918م ) بهزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة
العثماىنية التي اتجه المنتصرون الي تقطيع أوصالها ومحاولة اسقاطها وهو ما تم
بالفعل عام 1924م ( وهو العام الذي يعرف بعام سقوط الخلافة وفي أقوال أخري "
غيابها " ...حينها اجتاحت الأمة موجة من الانهيار الأخلاقي ، وتم حصر الناس
في دائرتين : الضنك والحرمان فبات لا هم للناس إلا الحصول على لقمة العيش، أو في
دائرة الترف والحرص على جمع المال بأية وسيلة شريفة أو غير شريفة، وبذلك بدأت
الشعوب تفقد الثقة بنفسها، وترتمي في أحضان الغرب، وهو ما سهل للاستعمار الغربي تحقيق
أهدافه بأقل التكاليف والجهود.
وصار حال "الأمة الإسلامية التي
كانت صاحبة السيادة وذات الصولة ومثال الكمال في العالم أصبحت منكسرة تتخبط في الظلام والأوهام بسبب مخالفتها
لدينها وأخذها بأسباب المدنية الخادعة التي أدت إلى الانفكاك والانحراف عن الصراط
المستقيم صراط الله العزيز الحميد.
في ذلك الوقت كان المجتمع المصري مصابًا بالضعف في العقيدة والعاطفة والأخلاق والإرادة والعزم، بل وضعف في النواحي السياسية من جراء سيطرة الاحتلال عليها.
و لم ينس الاستعمار الغربي هزيمته الكبري قبل أكثر من سبعة قرون فعاد مرة اخري بقوة لاحتلال الشرق الاسلامي لقرون جديدة ...كانت هذه الحال – المؤلمة الجارحة – هي حال جل الناس، كما يقول اللورد كرومر: "...وكانت النتيجه الطبيعية أن وجدت جماعة من أفرادهم "مسلمون" ولكنهم متجردون عن العقيدة الإسلامية والخصائص الإسلامية، وإن المصري الذي خضع للتأثير الغربي، فإنه وإن كان يحمل الاسم الإسلامي لكنه في الحقيقة ملحد وارتيابي".انتهي كلام اللورد كرومر
في هذه الاجواء القاتمة السواد لمع في سماء الشرق نجم يحمل الامل في بعث جديد كما قال الكاتب الامريكي الشهير روبير جاكسون...ظهر الامام حسن البنا - يرحمه الله - وولدت دعوة "الإخوان المسلمون" في مدينة الاسماعيلية في 22 مارس 1928م ، بنشر الدعوة والتعريف بالإسلام كنظام حياة مستقل بذاته ، يستغني بتشريعه عما عداه من الفلسفات الغربية والنعرات القومية وما يشابهها من دعوات وطنية متميزة أو فكرية متحللة أو مادية ملحدة ، ويشرح الإمام حسن البنا ذلك قائلا : "وأنت إذا أمعنت النظر في تعاليم الإسلام وجدته قد وضع أوضح القواعد وأنسب النظم وأدق القوانين لحياة الفرد رجلاً وامرأة، وحياة الأسرة في تكوينها ، وحياة الأمة في نشوئها وقوتها وضعفها، وحلل الفكرة التي وقف أمامها المصلحون وقادة الأمم...فالعالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب والسلام وتوزيع الثورة والصلة بين المنتج والمستهلك وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال ساسة الأمم وفلاسفة الاجتماع كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض في لبها ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات.
وإذ كان الإخوان المسلمون يعتقدون ذلك فهم يطالبون الناس بأن يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام هي الأصول التي تبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شأن من شئون الحياة ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة الحديثة يتنافى مع قواعد الإسلام ويصطدم بأحكام القرآن فهو تجربة قاسية فاشلة ستخرج منها الأمة بتضحيات كبيرة في غير فائدة فخير للأمم التي تريد النهوض أن تسلك إليه أخصر الطرق باتباعها أحكام الإسلام.
ويؤكد الامام البنا أن "الإخوان المسلمون" لا يختصون بهذه الدعوة قطرًا دون قطر من الأقطار الإسلامية ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون أن تصل إلى آذان القادة والزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام وأنهم لينتهزون لذلك هذه الفرصة التي تتجدد فيها الأقطار الإسلامية ويحاول بناء مستقبلها على دعائم ثابتة من أصول الرقي والتقدم والعمران.
وإن أكبر ما يخشاه الإخوان المسلمون أن تندفع الشعوب الشرقية الإسلامية في تيار التقليد فترقع نهضتها بتلك النظم البالية التي انتقضت على نفسها وأثبتت التجربة فسادها وعدم صلاحيتها.
مشروع الإخوان للإصلاح والنهضة
ويطرح الامام البنا معالم مشروع الإخوان المسلمون للإصلاح وتحقيق نهضة الأمة قائلا :
· إن لكل أمة من أمم الإسلام دستورًا عامًا فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم، وأن الأمة التي تقول في أول مادة من مواد دستورها أن دينها الرسمي الإسلام يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة وكل مادة لا يسيغها الإسلام ولا تجيزها أحكام القرآن يجب أن تستبدل بما يتفق وهذه الأحكام حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة.
· وإن لكل أمة قانونًا يتحاكم إليه أبناؤها وهذا القانون يجب أن يكون مستمدًا من أحكام الشريعة الإسلامية مأخوذًا عن القرآن الكريم متفقًا مع أصول الفقه الإسلامي وأن في الشريعة الإسلامية وفيما وضعه المشترعون المسلمون ما يسد الثغرة ويفي بالحاجة ويؤدي إلى أفضل النتائج.
· وإن في كل أمة مظاهر من مظاهر الحياة الاجتماعية تشرف عليها الحكومة وينظمها القانون وتحميها السلطات فعلى كل أمة شرقية إسلامية أن تعمل على أن تكون كل هذه المظاهر مما يتفق وآداب الدين ويساير تشريع الإسلام وأوامره.
· إن البغاء الرسمي لطخة عار في جبين كل أمة تقدر الفضيلة فما بالك بالأمم الإسلامية التي يفرض عليها دينها محاربة البغاء والضرب على يد الزاني والزانية بشدة وقسوة (وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 2].
· كما أن حانات الخمر في أظهر شوارع المدن وأبرز أحيائها، وتلك اللوحات الطويلة العريضة عن المشروبات الروحية، وهذه الإعلانات الظاهرة الواضحة عن أم الخبائث: مظاهر يأباها الدين ويحرمها القرآن الكريم أشد التحريم.
· وإن هذه الإباحية المغرية والمتعة الفاتنة واللهو العابث في الشوارع والمجامع، والمصايف والمراتع يناقض ما أوصى به الإسلام أتباعه، من عفة وحياء، وشهامة وإباء، وانصراف إلى الجد وابتعاد عن الإسفاف "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها".
فكل هذه المظاهر وأشباهها على الأمم الإسلامية أن تبذل في محاربتها ومناهضتها كل ما في وسع سلطانها وقوانينها من طاقة ومجهود لا تني في ذلك ولا تتواكل.
· وإن لكل أمة وشعب إسلامي سياسة في التعليم وتخريج الناشئة وبناء رجال المستقبل الذين تتوقف عليهم حياة الأمة الجديدة فيجب أن تبنى هذه السياسة على أصول حكيمة تضمن للناشئين مناعة دينية وحصانة خلقية ومعرفة بأحكام دينهم واعتدادًا بمجده الغابر وحضارته الواسعة.
هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأمم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة وهم موجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبًا وحكومات ووسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة، أن يبينوا ما فيها من مزية وإحكام حتى إذا ذكر الناس ذلك واقتنعوا بفائدته أنتج ذلك عملهم له ونزولهم على حكمه.
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف: 108].
ومن هنا فإن الإصلاح الذي ينشده الإخوان هو الإصلاح الشامل لجميع نواحي المجتمع، إذ كان الإمام البنا يرى أن الأمة في هذه الفترة كانت تجتاز دور انتقال خطير، تريد أن تركز حياتها المستقبلية على أساس متين من أسس الرقي والتقدم.. لا يكفيها أن تعالج ناحية واحدة من نواحي الإصلاح، بل لابد لها من أن تتناول كل النواحي بالتقويم والتجديد حتى يقوي بعضها بعضًا.
وعندما شرع الإخوان في تقديم منهجهم الإصلاحي للمجتمع بدأوا بحل المشاكل الملحة التي تؤثر في سلامة المجتمع إذ كان الإمام البنا يرى أنه لن يتم استقلال مصر سياسيًا إلا بعد أن تستقل اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، ولذا اهتم في البداية بإصلاح النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية قبل النواحي السياسية، لأنه كان يرى أن النظم الاجتماعية في الشرق مضطربة ومتذبذبة.
كما أكد الإمام البنا على أن الشعب يحس بأنه في حاجة إلى إصلاح يتناول أسس حياته، وأن أول أساس يشعر بتهدمه وخطورته هو الناحية الخلقية والاجتماعية لأنها أم المشاكل في حياتنا الخاصة والعامة، والداء المستعصي الذي يتسلل إلى كل شيء، وأن الإصلاح الاجتماعي هو الرغبة التي يقصد إليها الناس حين يئسوا من كل إصلاح آخر يعود عليهم بالخير.
ورأى أن هذا هو سبيل النهوض بالأمة، إذ "لا نهوض لأمة بغير خلق، فإذا استطاعت الأمة أن تتشبع بروح الجهاد والتضحية وكبح جماح النفوس والشهوات أمكنها أن تنجح بمعنى أن الأمة إذا استطاعت أن تتحرر من قيود المطالب النفسية والكمالات الحياتية أمكنها أن تتحرر من كل شيء .
التركيز على القضايا الاجتماعية
وبرز اهتمام "الإخوان المسلمون" في هذه الفترة بالقضايا الاجتماعية فكان من غاياتهم وأهدافهم الأساسية التي أعلنوها في قانونهم العام سنة 1935م هي تقوية الفضائل الخلقية وإحياء الشعور بكرامة الأمة وتحرير النفوس من الضعف واليأس والرذيلة، والتحذير من الاندفاع في حياة المتعة والترف والمادة وتقليد الغرب في ذلك إعجابًا بحضارته المادية والتذكير بأصول الحضارة الإسلامية، ونشر الثقافة والتعليم والمحافظة على القرآن الكريم ومحاربة الأمية بإنشاء المدارس والأندية والأقسام الليلية .. وعلاج الآفات الاجتماعية كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء ونشر الدعاية الصحية خصوصًا في القرى والأرياف وإرشاد الشباب إلى الاستقامة ، وتشجيع أعمال الخير والبر وتنظيمها ، والمصالحات بين الأفراد والأسر حتى يقوم التحاكم إلى الحب والإخاء مقام التحاكم إلى القانون والقضاء .ولقد ظهر جليًا مدى أهمية القضايا الاجتماعية في صحف الإخوان ، فقد احتلت القضايا الاجتماعية فيها المرتبة الثانية، وذلك بنسبة بلغت (11.7%).
كان للإخوان المسلمين جهود مشكورة في مقاومة الأفكار الهدامة وإصلاح مظاهر فساد المجتمع وفي قضايا المرأة وفي التعليم والصحة والأدب والشعر والسياسة، وتعاونهم مع الهيئات والجمعيات الدينية.
مميزات دعوة الإخوان في مرحلتها الأولى
يقول الاستاذ جمعة أمين عبدالعزيز في مقدمة سلسلة ( أوراق في تاريخ الإخوان المسلمون ):
وقد تميزت دعوة الاخوان في مرحلتها الأولي ب:
1- الاهتمام بنشر الفكرة الإسلامية بصورة عامة بين مختلف طبقات المجتمع المصري.
2- التوسع في ضم أنصار الفكرة الإسلامية وافتتاح الشعب الجديدة.
3- التركيز على شرح الدعوة في اللقاءات العامة، لذلك كثرت رحلات وزيارات الإمام الشهيد، كما كثرت احتفالات الإخوان المسلمين العامة.
4- الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي وتجنب التعرض للخلافات السياسية القائمة في تلك الفترة والانشغال بنشر الفكرة وتثبيت المفاهيم.
5- المساهمة في أعمال الخير كعمارة المساجد ومساعدة الفقراء والنصح وذلك بكتابة المذكرات الإصلاحية التي تقدم إلى الحكام والمسئولين في هذه الفترة لشرح الفكرة وتقديم ما يراه الإخوان من رؤى وبرامج للإصلاح.
كانت تلك أهم مميزات تلك المرحلة والتي سماها الإمام الشهيد "مرحلة التعريف" وحدد المراد منها في رسالة "المنهج" فقال: "ويراد بها نشر الفكرة بين الناس وإفهامهم إياها بصورة عامة وتعرف القائمين بها إلى الشعب وقد يكون من خطة العاملين للفكر والدعوات الابتداء بالتكوين أولاً ثم بعد ذلك الإعلان وتلك طريق طبيعية، ولكن دعوة الإخوان نشأت في ظروف خاصة وأحاطت بها أسباب خاصة جعلتها تبدأ بالتعريف إلى الشعب كله ثم تسلك بعد ذلك طريق التكوين ثم التنفيذ".
هذا هو المؤسس، وهذه دعوته
ويقول الاستاذ مصطفي مشهور المرشد العام الخامس للجماعة في مقدمة الكتاب الأول من السلسلة :" إن تاريخ الإخوان المسلمين ليس تاريخ أشخاص، أو بلدان، أو مذهب من المذاهب، لكنه تاريخ أمة أظهرها الله على مسرح الوجود في فترة من فترات التاريخ شديدة السواد، أحاطت بأمة الإسلام، وتاريخ عقيدة ربانية، تجسدت في مجتمع مسلم متحاب تجمعه أخوة الإسلام فجعلت منه خير أمة أخرجت للناس، وتاريخ جهاد وكفاح في سبيل الله لاسترداد ما ضاع من أمة الإسلام، وما سُلب منها في فترات الضعف والركود، لقد آمن بها من شرح الله صدره للعمل للإسلام، فصاروا بها كل شيء بعد أن كانوا بغيرها لا شيء، وانطلقوا بها يحملون الحرية والسعادة من جديد للعالم.
لقد أذن الله لهذه الجماعة أن تحمل راية الإسلام بعد أن عمل اليهود - وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا - على إسقاط الخلافة، ثم عملوا على زعزعة العقيدة في نفوس أهلها، ثم جاء الاستعمار فقسم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات، وصارت أمة الإسلام – بعد أن كانت الأمة الواحدة القوية العزيزة – أممًا متعددة ضعيفة بينها من الخلاف أكثر مما بينها من الوفاق، وهكذا فقد المسلمون الراعي الذي يرعاهم، والوحدة التي تدعمهم ، والمنهج الذي يجتمعون حوله، والراية التي ترفرف فوق ربوعهم.
لقد أدرك الأعداء أن سر قوة المسلمين في شريعتهم، وعقيدتهم، وأن الشريعة لا تستكمل مقوماتها إلا في ظل الأخوة والوحدة، وكما قال الإمام الغزالي: "الشريعة أصل، والحاكم حارس، ومن لا أصل له فمهدوم، ومن لا حارس له فضائع".
ويقول الإمام البنا رضي الله عنه- مازال الكلام للأستاذ مصطفى مشهو- في بيان من هم الإخوان المسلمون :"أحب أن تتبينوا جيدًا من أنتم في أهل هذا العصر، وما دعوتكم بين الدعوات وأية جماعة جماعتكم، ولأي معنى جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ".
ثم يقول: "فاذكروا جيدًا أيها الأخوة: أنكم الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به للإنسانية بين الحق والباطل، وأنكم دعاة الإسلام وحملة القرآن وصلة الأرض بالسماء ".
أما ما نريده ونعمل على تحقيقه بكل الوسائل المشروعة فقد تحدث الإمام البنا عنه فقال: "نحن ندعو الناس إلى مبدأ واضح محدود ومسلم به منهم جميعًا، هم جميعًا يعرفونه، ويؤمنون به ويدينون بأحقيته ويعلمون أن فيه خلاصهم، وإسعادهم وراحتهم" إن دعوة الإسلام للبشرية كافة، وللمسلمين خاصة، أن يعبدوا الله وحده، ودعوتنا لكل من أظهر الرضا بالإسلام دينًا، أن يخلصوا دينهم لله، ويزكوا أنفسهم من شوائب النفاق وأعمالهم من التناقض، ودعوتنا لأهل الأرض أن يغيروا ما بأنفسهم، حتى يشعروا بالزمن والأمان والسعادة في الحياة، ونريد للمرأة المسلمة أن تأخذ وضعها الصحيح فهي نصف المجتمع ونصف الأمة والقائمة على تربية وإعداد وتنشئة كل الأجيال، ونريد للمجتمعات الإسلامية أن تؤمن بضرورة الشورى وتعمل على تطبيقها، فأمر المسلمين شورى بينهم، في أمورهم الخاصة والعامة، لإقامة العدل، وتطبيق حكم الله، وتحقيق مصالح المسلمين، حتى لا يستبد فرد أو فئة من الناس في أمر تعم به البلوى وتتأثر به مصالح الغالبية من الأمة، تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان أن يبلغوها للناس وأن تفهمها الأمة حق الفهم، وأن تهب لإنفاذها في عزم ومضاء وأن تجاهد في سبيلها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
رؤية المستشار مأمون الهضيبي
وفي مقدمة الكتاب الثاني لسلسلة " أوراق في تاريخ الإخوان المسلمون " يقول المستشار محمد المأمون حسن الهضيبي المرشد العام السادس للجماعة :
" وقد وفق الله الإمام البنا رحمه الله، العالم المجدد، أن ينهض بهذا العبء، وقد أتت الجهود أكلها وثمارها، واستطاع بتوفيق الله له أن يؤثر في الحياة الإسلامية المعاصرة، وأن يوجد النواة الأولى للدعوة، وأن يبني القاعدة واتخذ عدة خطوات تهدف إلى صياغة الفرد المسلم، وذلك من خلال كتائب يراد بها تقوية الصف بالتعارف ونماذج الأرواح، وفرق رياضية يراد بها تنمية الأجسام وتعويدها الالتزام والطاعة والنظام، وثقافة تستهدف تنمية الأفكار والعقول، ومن الفرد الصالح يتكون المجتمع الصالح والأمة المؤمنة التي تحمل لواء الحق.
وحدد الإمام البنا أهداف الجماعة في تخليص البلاد من ربقة الاستعمار، وإقامة المجتمع المسلم وسبيل ذلك هو التكوين والتربية والإعداد، كما حدد الإمام آليات التغيير المنشود متقيدًا في ذلك بالكتاب والسنة وكان منها طريق النضال الدستوري حتى يستكملوا للمجتمع جوانب النقص التي تعوقه عن المنهج الإسلامي الصحيح.
وبتوفيق الله عز وجل وحده. فقد نجحت الدعوة في أن تصبح معظم قطاعات الأمة، تؤمن بالإسلام الشامل، الذي لا يفرق بين العقيدة والشريعة، والعبادة والسياسة، ولو لم يقدم الإخوان إلا هذه الجوانب لكفى، لكنهم أسهموا إسهامات جليلة ملموسة يضيق المقام عن ذكرها.
الأستاذ عاكف.. اقتلاع جذور الفساد
ويقول أ.محمد مهدي عاكف المرشد العام السابع للجماعة:
ولما كانت دعوة الإخوان المسلمين امتدادًا لدعوة الإسلام الحنيف، والتزامًا كاملا بها؛ فقد بدأت مبكرًا الاهتمامَ بجوانب التربية؛ لأن المسلم العامل لدينه سيواجه تيارات مناوئة لدينه وعقيدته، وفِتنًا كثيرة، ومحاولات للانقضاض على العمل الإسلامى؛ لذلك كان الاهتمام بالتربية والإعداد -كما نرى فى هذا الجزء من التاريخ- أمرًا موفقًا؛ عن طريق الكتائب والمخيمات والتربية الجهادية بمعناها الواسع؛ لأنها تَعنى بذل كل جهد ممكن لاقتلاع جذور الفساد فى الأرض، ولن يستطيع المسلم ذلك إذا كان الفساد يعيش داخل نفسه. ومن هنا بدأ الإخوان بجهاد نوازع الشيطان فى نفوسهم امتثالا لقوله تعالى: ]وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ[ [الحج: 78]. لقد انتشر هذا النوع من التربية فى هذه الفترة من خلال المعسكرات التى التزمت فى جميع أنحاء الأمة.
شهادة روبير جاكسون
وختاما .. نسوق هنا شهادة الكاتب الأمريكي روبير جاكسون في الإمام البنا ودعوة" الإخوان المسلمون " بعد لقاءاته ونقاشاته الطويلة معه -يرحمه الله - خلال زيارته للقاهرة والتي سجلها في سطور طويلة نقتطف منها قوله :" في فبراير سنة 1946 ، كنت في زيارة للقاهرة .. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص ، وكتب جاكسون في صحيفة التيويورك كرونيكل الأمريكية بالنص :
" زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر ، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان"
ثم عاد للكتابة مرة أخرى عام 1951م وكان قد تم اغتيال الإمام البنا ..قائلا :هذا ما كتبته منذ خمس سنوات ، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه ، فقد ذهب الرجل مبكراً .. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر ، كان الشرق يطمح إلي مصلح يضم صفوفه ويرد له كيانه ، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدني انتهت حياة الرجل علي وضع غير مألوف .. وبطريقة شاذة ..
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده . لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب .. خلاب المظهر .. دقيق العبارة ، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية .
لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني ، وظل الرجل صامتا حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له : هل قرأت عن محمد ؟ قلت : نعم . قال : هل عرفت ما دعا إليه وصنعه ؟ قلت : نعم . قال هذا هو ما نريده . وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير .
كان يترقب الأحداث في صبر ويلقاها في هدوء ، ويتعرض لها في اطمئنان ويواجهها في جرأة . لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من أضخم الأحداث في الشرق فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشواي . ومات عام 1949 ، وهو عام إسرائيل التي قامت شكليا سنة 1948 وواقعيا سنة 1949 .
وقد لفت نظري إلي هذا الرجل سمته البسيط ، ومظهره العادي وثقته التي لا حد لها بنفسه ، وإيمانه العجيب بفكرته . كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها ، بل في الشرق كله .
بين البنا وقادة الإصلاح في زمانه
وسافرت من مصر بعد أن حصلت علي تقارير وافية عن الرجل وتاريخه ، وأهدافه وحياته ، وقارنت بينه وبين محمد عبده وجمال الأفغاني ، والمهدي والسنوسي ، ومحمد بن عبد الوهاب . فوصل بي البحث إلي أنه قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا وتفادي ما وقعوا فيه من أخطاء . ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين جري علي إحداهما الأفغاني وارتضي الأخرى محمد عبده . كان الأفغاني يري الإصلاح عن طريق الحكم ، ويراه محمد عبده عن طريق التربية .. وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين ، ووصل إلي ما لم يصلا إليه ، لقد جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلي مذهب موحد وهدف موحد .
ثم أخذت أتتبع خطواته بعد أن عدت إلي أمريكا وأنا مشغول به ، حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا مما انتهي إلي اعتقال أنصاره .. وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته . وبالرغم من أنني كنت اسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن وإنه لم يزد علي جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله ، غير أن حركة فلسطين ومعركة التحرير في القناة قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة .. قل أن تجد مثلها إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية . . كل ما أستطيع أن أقوله أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه وهي المغريات التي سلطها المستعمر علي المجاهدين ، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه .. وقد أعانه علي ذلك صوفيته الصادقة وزهده الطبيعي . لقد تزوج مبكرا وعاش فقيرا وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التقوا حوله ، ومضي حياته القصيرة العريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة ، وأسباب الترف الرخيص .
التعليقات