اليمن الكبير|| المهرة بوابة اليمن الشرقية

ادفن وجودك في أرض الخمول: طريق الخلاص من مآسي المسلمين

يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه.

هذه ليست مجرد حكمة زهدية تُقال في حلقات الوعظ، بل قانون رباني في بناء الأفراد والأمم، لو وعاه المسلمون اليوم، لعرفوا طريق الخلاص من كثيرٍ من مآسيهم.

بين البذرة والثمار… وبين الخفاء والظهور

كما لا يمكن للبذرة أن تنبت إلا بعد أن تُدفن في الأرض، كذلك الإنسان لا يبلغ كماله إلا بعد أن يُدفن وجوده في تربة الصدق والإخلاص والتزكية. كل نبتٍ لم يُدفن لا يُثمر، وكل حركةٍ لم تمر بمرحلة تربية خفية، تُولد ناقصة وتموت قبل الأوان. إن الله يُنضج عباده في الخفاء، فإذا آن الأوان أخرجهم للناس على قدر صفائهم. أما من استعجل الظهور قبل الدفن، فقد نبت سطحياً، لا عمق له، ولا جذور تحميه من رياح الفتنة.

مأساة المسلمين اليوم: ظهور قبل دفن

أزمة الأمة الإسلامية ليست في قلّة عددها، ولا في ضعف شعاراتها، بل في سطحية تكوينها الداخلي. نريد النصر قبل التزكية، والسيادة قبل التربية، والشهرة قبل الإخلاص. أردنا أن نكون "ظاهرين على الناس" قبل أن نكون "خالصين لله"، فكانت النتيجة:

  • جماعات تتنازع باسم الدين.
  • دول ترفع رايات الإسلام وتخالف مبادئه و روحه.
  • أفراد يتكلمون باسم الدعوة وقلوبهم لم تُطهّر بعد من حب النفس والمقام.

لقد استعجلنا الظهور قبل النضج، فابتُلينا بمآسي التمزق، والتشويه، وضياع البوصلة. كل فشل سياسي، وكل انقسام فكري، وكل مشروع إسلامي انهار من داخله، إنما هو ثمرة نبتٍ لم يُدفن، فخرج هشًّا، أجوفَ من الداخل.

الفرد المسلم: الإصلاح يبدأ من باطنك

ابن عطاء الله يذكّرنا أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من باطن النفس لا من ظاهر المنابر. حين يتطهّر القلب من طلب المقام، يتحوّل العمل الدعوي والسياسي والاجتماعي إلى عبادة خالصة. لكن حين تبقى النفس أسيرة حبّ الظهور، فإن كل حركة تتحوّل إلى تنافسٍ على الأسماء، لا على المعاني. لقد علّمنا القرآن أن أول طريق الإصلاح هو الخفاء:

"واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة"

فمن لم يذكر الله في نفسه، لن يستطيع أن يذكره في الناس بصدق.

المجتمع المسلم: البناء الصامت أقوى من الصخب

المجتمعات التي تتكاثر فيها الخطب والشعارات ولا تتعمق فيها القيم، تُصبح سهلة الاختراق والانقسام. الأمة التي لا تدفن وجودها في أرض التربية، ستبقى أسيرة ردود الأفعال والانفعالات. إن نهضتنا لن تكون بعلوّ الصوت، بل بعمق العمل. فلنزرع في مدارسنا ومساجدنا وبيوتنا ثقافة الإخلاص قبل الحماس، وثقافة العمل الصامت قبل المهرجانات.

الحركات الإسلامية: مأزق الظهور قبل التزكية

كثير من الحركات الإسلامية خرجت إلى الساحة السياسية قبل أن تُكمل بناءها الروحي والفكري، فحملت مشروعًا ناقصًا في الوعي والتربية. فتنازعت، وتنافرت، وبدل أن تكون نموذجًا للأمة، أصبحت مرآةً لصراعاتها. والسبب في جوهره أنها لم تُدفن أولاً في أرض الخمول. لم تمرّ بمرحلة الخفاء التي تُهذّب النفوس وتُنضج الرجال. كل حركة إسلامية تحتاج إلى "مدرسة دفن" — مدرسة تربية داخلية، يتربّى فيها القادة على الصبر، والمجاهدون على الإخلاص، والدعاة على الصمت الحكيم. حينها فقط يمكن للظهور أن يكون رحمة لا فتنة.

الدفن ليس موتًا… بل بداية الحياة

حين يقول ابن عطاء الله "ادفن وجودك" فهو لا يدعو إلى الانعزال، بل إلى الإعداد الحقيقي قبل الظهور. فالدفن ليس فناءً، بل هو المرحلة الأولى من الحياة. البذرة لا تموت حين تُدفن، بل تبدأ رحلتها إلى الحياة. وكذلك المؤمن والجماعة والأمة، لا يبدؤون نهضتهم إلا حين يُدفنون في تربة الإخلاص والصدق، بعيدًا عن ضجيج الإعلام ومنافسة المظاهر.

من الدفن إلى الظهور: حين يأذن الله

الظهور الذي يأتي بإذن الله لا يُستدرج صاحبه، بل يُثبّت. أما الظهور الذي يأتي باستعجال النفس، فهو بداية الانحدار. إن الله لا يُخرج عباده إلى العلن إلا بعد أن يطمئن إلى صفاء نيتهم. فإذا خرجوا قبل الإذن، فذلك عقوبة لا تكريمًا. وكم من جماعةٍ أو قائدٍ سطع نجمه سريعًا ثم خبا، لأنه لم يُدفن في الأرض أولًا.

خلاصة القول؛ حكمة ابن عطاء الله ليست حكمة تصوفٍ شخصي، بل قانون نهضةٍ للأمة كلها. إن مآسينا اليوم ليست قدَرًا محتومًا، بل نتيجة طبيعية لمخالفة هذا القانون: ظهرنا قبل أن نُدفن، ففقدنا النضج، وفقدنا الثبات، وفقدنا الصدق في المقاصد. فلنبدأ من جديد، من تحت الأرض لا من فوقها. من بناء السرّ لا المظهر. من دفن الأنا لا إعلانها. ومن تحت تراب الإخلاص والصبر، ستنبت بإذن الله شجرة أمةٍ جديدة، جذورها في الأرض، وثمارها في السماء...

 


       اليمن الكبير || عين اليمن "عدن"


أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية

اليمن الكبير || “سقطرى جزيرة الدهشة”



وسيبقى نبض قلبي يمنيا