انهيار الدولة في اليمن؛ كارثة على الشعب وليلة قدر للنخبة
ذكرت صحيفة واشنطن بوست في مارس 2022 أن خالد بايندا، آخر وزير مالية في الحكومة الأفغانية قبل سيطرة طالبان، يعمل سائقًا لشركة "أوبر" في العاصمة الأمريكية واشنطن. وفي مدينة لايبزغ الألمانية، أوردت عدة وسائل إعلام في أغسطس 2021 أن سيد سادات، وزير المواصلات الأفغاني الأسبق، يعمل في توصيل الطعام على دراجة هوائية.
تكشف هذه الوقائع عن حجم المعاناة التي تواجه النخب السياسية حين تضطر إلى مغادرة بلدانها بسبب الحروب أو لأسباب أخرى؛ فإذا كان هذا هو حال من تولى منصب وزير، فكيف يكون حال بقية النخب الأفغانية ذات المكانة الأدنى؟
في اليمن "السعيد"، تبدو القصة معاكسة تمامًا. فالغالبية الساحقة من النخبة اليمنية* – وتحديدًا تلك التي صعدت وتضخمت كالبكتيريا بعد عامي 2011 و2015 – شهدت معيشتها ارتفاعًا صارخًا عقب انهيار وتفكك الدولة اليمنية. ويعود ذلك إلى عاملين أساسيين: طبيعة الدول المتدخلة في الشأن اليمني، وطبيعة الأزمة اليمنية نفسها.
فالدول الباحثة عن النفوذ والهيمنة، ذات الأطماع الواضحة في اليمن، هي من أغنى دول العالم، وما تنفقه هناك لا يشكل بالنسبة لها عبئًا يُذكر. أما طبيعة المشكلة اليمنية، فتنطلق من رغبة أطراف محلية عديدة في إلغاء الدولة عبر تفكيكها إلى دولتين أو أقاليم، وهو ما ينسجم تمامًا مع أهداف ورغبات الدول المتدخلة. وإلغاء الدولة اليمني لا يمكن إنجازه هذا من دون غطاء سياسي وفكري توفره النخب اليمنية، إذ يستحيل على تلك الدول تحقيق غاياتها بمعزل عن مشاركة هذه النخب. وهذه المشاركة تتجسد في أشكال متعددة: التنفيذ المباشر، أو التبرير السياسي والفكري، أو حتى الصمت.
ولهذا، ضُخت الأموال من الدول المجاورة وإيران لاستقطاب النخب اليمنية القديمة والجديدة، كما جرى تخليق نخب جديدة بمواصفات أكثر رداءة وبأعداد أكبر. ونتيجة لذلك، تحول كثير من الشخصيات المغمورة أو المعدمة إلى أثرياء بمقاييس الداخل اليمني.
ولإضفاء مظهر رسمي على هذه العملية، عُيّن الكثير من هذه النخب في وظائف حكومية، معظمها وهمية أو مجمدة – كحال أعضاء مجلس النواب – ومنحوا مخصصات مالية من أكثر من جهة، بعضها من بقايا موارد الدولة اليمنية، وبعضها الآخر من أموال الدول المتدخلة. وهذه المخصصات ضخمة جدًا مقارنة بما كان يحصل عليه أقرانهم قبل انهيار الدولة؛ فعلى سبيل المثال، لم يكن راتب وكيل الوزارة، وهو أعلى منصب إداري في الجهاز الحكومي، يتجاوز ألف دولار شهريًا، بينما أصبح متوسط مخصصات من يشغلون مواقع مشابهة اليوم يتجاوز عشرة آلاف دولار، تشمل الرواتب من ميزانية الحكومة إلى جانب المخصصات الخارجية.
وينطبق الأمر ذاته على من يُطلق عليهم "الإعلاميون"، الذين أوكلت إليهم مهمة تلميع سلوك أمراء الكانتونات، والترويج للتدخلات الخارجية، وتبرير تفكيك الدولة. فقد تحولت الكارثة اليمنية بالنسبة لغالبية هؤلاء إلى مصدر رزق وفير. فقبل الحرب، كان معظمهم عاطلين عن العمل أو يمارسون مهنًا لا علاقة لها بالإعلام، ولم يكن دخل الإعلامي المحظوظ منهم – ممن عملوا فعلًا في المجال – يتجاوز خمسمائة دولار شهريًا (باستثناء القلة التي عملت في وسائل إعلام خارجية). أما اليوم، فقد أصبح متوسط دخلهم نحو أربعة آلاف دولار شهريًا، فضلًا عن امتيازات أخرى.
وإلى جانب هؤلاء، برزت نخبة جديدة تعمل تحت لافتات "بناء السلام"، و"الوفاق"، و"حقوق النساء والأطفال والنازحين"، و"المهمشين"، وغير ذلك، وهم من أطلقتُ عليهم في كتابات سابقة اسم "تجار السلام" أو "أمراء الحرب الناعمون". هؤلاء استفادوا على طريقتهم الخاصة من انهيار الدولة، عبر الأموال التي خصصتها بعض الدول الغربية لما يسمى زورًا "عملية بناء السلام والتعايش"، والتي بلغت مئات الملايين من الدولارات. وقد جرى إنفاق معظمها، عبر مؤسسات وشخصيات تابعة للدول المانحة وشركائهم اليمنيين، على ورش عمل وندوات وسفريات ومشاريع شكلية، من دون أن تترك أثرًا فعليًا في اليمن.
ولم تقتصر مكاسب تجار السلام على المال والسفريات، بل حصل معظمهم على حق اللجوء في دول غربية وجنسياتها. كما أن كثيرًا منهم يتلقون مخصصات مالية من الدول المتدخلة، ومن الحكومة، ومن الكيانات التابعة للكانتونات المصنوعة.
النخبة اليمنية التي ذكرناها– رغم تباين مشاربها وأفكارها وأجنداتها – اجتمعت على هدف واحد: إبقاء اليمن في حالة اللادولة، بما يعنيه ذلك من تمزيق داخلي وسيطرة خارجية. فهذه الحالة هي التي وفرت لهم الامتيازات غير المسبوقة التي حصلوا عليها، وديمومة الكارثة تضمن استمرار انتعاشهم المالي، وتضخم نفوذهم، وتوسع سلطاتهم.
والخلاصة أن الغالبية الساحقة من النخبة اليمنية استفادت إلى أقصى درجة من انهيار الدولة، بعد أن فُتحت أمامها خزائن الارتزاق وورش العمل والسياحة السياسية. فباستثناء قلة قليلة رفضت مسايرة هذا الوضع وامتنعت عن بيع مواقفها ومبادئها أو تبرير التدخلات الخارجية – بما في ذلك تلك التي ارتدت لافتات "السلام" و"الحقوق" و"الحريات" – فإن الأغلبية العظمى باتت تملك منازل في الخارج، وإقامات دائمة، وحصل بعضها على جنسيات جديدة عبر اللجوء أو الاستثمار.
إن كشف هذا السلوك وفضحه واجب على من تبقى من الشرفاء الذين لم يساوموا على مبادئهم، حتى يدرك الأربعون مليون يمني حقيقة هذه النخب، ويدينوهم إدانة معنوية، وينزعوا عنهم صفة تمثيل اليمن. فهؤلاء شركاء بشكل أو أخر في كل ما أصاب البلاد من دمار وما قد يحل بها مستقبلًا؛ إذ إن مشاركتهم أو تبريرهم أو صمتهم عن التدخلات الخارجية وتمزيق الدولة يُعد مشاركة فعلية في هذه الجرائم.
وعندما نقول "النخبة اليمنية"، فإن المقصود كل الأشخاص القادرين على التأثير بمختلف أشكاله، من السياسيين والمثقفين ورجال الدين وشيوخ القبائل، وصولًا إلى الشتامين والمهرجين في يوتيوب وتيك توك.
اليمن الكبير || “سقطرى جزيرة الدهشة”
التعليقات