الحوثية من منظور ديالكتيكي
الماركسيّة واحدة من الأيديولوجيات المتصلبة التي فسرت أحداثَ الطبيعية وقوانين الكون من منطلق الجدل المادي والتاريخي، كمنهج وحيد في المعرفة، حد اعتقادها، تدور حوله كل المناهج، وتتمحور حوله كل الآراء؛ باعتبار أن أي حدثٍ لا يمكن قراءته منفصلا عن محيطه المادي والتاريخي مهما بدا منفصلا أو مستقلا عنهما، وأن السّيرورة والصّيرورة هما الأصل في كل شيء، كحتمية أزليّة، فيما السكون استثناء من كل شيء، وبهذه القوانين يتم تفسير وتحليل فلسفة العلوم المختلفة وحركات المجتمع وتطوراته..
قال ماركس ومن بعده نسبه إنجلز ــ الذي أكمل نظريته بعد وفاته ــ: إن قوانين الطبيعة ترتكز على ثلاثة قوانين.
ـ القانون الأول: التراكم الكمي يُفضي إلى التحول النوعي
أي أن حالات التفاعلات الداخلية لأي حدث أو فعل ما تتبلور في طريقها من الجزئي إلى الكلي، ومن الأصغر إلى الأكبر، ومن اللامرئي إلى المرئي، وعند هذه الحالة يكون التحول الحتمي لأي حدث، كالماء مثلا حين تجري عملية تسخينه وغليه، يبدأ بالسخونة رويدا رويدا، وما أن يصل إلى درجة 100% حتى تبدأ عملية التحول لكمية الماء داخل هذا الإناء من البرودة إلى السخونة، فالغليان، ومن الحالة السائلة إلى الحالة الغازية. وهو ما يسميه البعض أيضا بظاهرة "التغير والتغيير" فالتغير نتاج طبيعي لعوامل داخلية في بنية الحركة والحدث، بفعل التطور الطبيعي للمجتمع، يفرزه التراكم الكمي بصورة تلقائية وطبيعية، كعملية الولادة للحامل؛ أما التغيير فهو حالة خارجية، يتم بالتدخل في واحدة من اثنين: إما تسريع للتراكم، أو استجلاب للتحول، بصورة قسرية، تشبه عملية التوليد، لا الولادة، وخطر هذا التغيير أنه قد ينتهي بصورة خارج مساق التصور والرؤى الأولية، وخارج سياقات الفعل الطبيعي، وهذا ينطبق على بعض ثورات الربيع العربي التي حدثت بفعل "التغيير" كتدخل من خارج بنية التراكم، لا بفعل "التغيُّر" كحتمية طبيعية من داخل بنية الظاهرة نفسها، فقد انتهى بها المسار حيث لم يرد لها؛ لأن عملية التغيير استعصت على القياد.
ويكاد ينطبق قانون التراكم الكمي على كل الثورات الناجحة في كل أنحاء العالم؛ حيث أفضت التراكمات الكمية خلال عقود وربما قرون من الزمن إلى خلق حالة من التحول النوعي في التغيير والبناء الجديد، وفقا لشروط المرحلة، ولشروط البناء ذاته؛ إذ تحولت أنظمة من الإقطاع إلى الاشتراكية، وتحولت أخرى من الاشتراكية إلى الرأسمالية؛ ذلك أن عملية التراكم الكمي قد استنفدت كل شروط البقاء، فأفضت إلى التحول الجديد "النوعي" بصورة مفاجئة أو شبه مفاجئة على الأقل في عملية مركبة ومتداخلة يصعب تقييمها أو حصرها في سبب واحد أو عامل وحيد؛ ذلك أن طبيعة الأحداث المركبة لها أكثر من وجه، تتعدد فيها المدخلات، كما تتعدد فيها المخرجات، وهو ما يجعل أمر التحكم بمخرجات "التغيير" صعبة، خلافا لمخرجات "التغير". إنهما علميتان تشبهان "الموت الطبيعي والقتل" الأولى تسير بحالة طبيعية، فيما الثانية اعتراض وخرم أجل بحسب تعبير أدبيات الفقه الإسلامي.
من ناحية أخرى لم تكن الحركات الإرهابية أو النظريات المتطرفة إلا حالة من التحول النوعي بعد حالة طويلة للتراكم الكمي في عملية نقيضة، فأنتج النقيضُ نقيضَه بلا حسبان؛ لأن أقصى اليمين في خدمة أقصى اليسار كما قيل. وما أشبه هذا القانون بالسيول الجارفة، ينظر الناس أحيانا إلى السيل كنتيجة، لكنه ينسى أن هذا السيل العرم أصله من قطرات بسيطة، تراكمت كليا، فتحولت نوعيا.
ـ القانون الثاني: وحدة وصراع الأضداد
وأساس هذا القانون المقولة السائدة أن الشيء يولد ويولد نقيضه معه، وأن كل ظاهرة حين تولد فإنها تحمل بين ثناياها بذور فنائها، كالحياة التي تأتي من الموت، والموت الذي يأتي من الحياة، ولولا كلٌ منهما منفردا، ما كان الآخر، فحتى الخلايا الجذعية داخل جسم الإنسان، يموت بعضها على الدوام، لتحيا أخرى، فمثلا، ومن وجهة نظر علمية: الذرة تتكون من بروتونات ونيوترونات والكترونات، ومعروف أن شحنة البروتونات موجبة دائما، وشحنة النيوترونات متعادلة دائما، أي لا سالبة ولا وموجبة؛ أما الإلكترونات فشحنتها سالبة دائما، وكل هذا داخل الذرة، وكلها تعيش في وحدة واحدة رغم تناقض هذه الشحنات وتنافرها. ومن وجهة نظر اجتماعية الأقرب إلى فكر ماركس نفسه فإن حالات الاضطراب والصراع داخل المجتمع الواحد بين رأس المال المتوحش وبين الطبقة الكادحة "طبقة العمال" مثال على ديمومة الحياة الطبيعية داخل المجتمع المتصارع طبقيا في حالة من الجدل المستعر والاضطراب بين طبقتي البرجوازيين والعمال. وهو ما أشرنا إليه سابقا من أن الأصل في كل شيء الحركة، فيما السكون استثناء. وينطبق هذا القانون أيضا على الصراعات السياسية في المجتمع الواحد.
ولعل أفضل ترجمة شعرية لهذا القانون فيما أشار إليه الشاعر البردوني في واحدة من عيون قصائده؛ حيث يقول:
نعرف الموت الذي يعرفنا
مسنّا قتلا ودسناه قتـــال
وتقحمنا الدّواهي صورا
أكلت منّا أكلناها نضــــال
موت بعض الشّعب يحيي كلّه
إنّ بعض النقص روح الاكتمال
ها هنا بعض النّجوم انطفأت
كي تزيد الأنجم الأخرى اشتعال
تفقد الأشجار من أغصانها
ثمّ تزداد اخضرارا واخضلال
إن الحياة جميعا ــ وفقا لهذه القانون ــ هي حياة الأضداد وتصارعاتها التي لا بد منها: الخير والشر، الظلمة والنور، الحر والبرد، المعرفة والجهل، الحرب والسلام، الاستبداد والعدل، الديكتاتورية والديموقراطية، الهدم والبناء، الحب والبغض، الأسود والأبيض، الذكر والأنثى، الغنى والفقر، الموت والحياة، والليل والنهار... إلخ. هذا هو قانون وحدة وصراع الأضداد، وهو أساس التطور والنماء. وللقارئ أن يتخيل ما ذا لو كانت الحياة كلها لونا واحدا..1. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ).
ـ القانون الثالث: نفي النفي أو سلب السلب
وهذا القانون مرتبط بالقانون الأول، على اعتبار أن التراكمات الكمية التي تفضي إلى التحولات النوعية تنفي عن نفسها خصائصها السلبية، مبقية على الخصائص الإيجابية، وهو ما يشير إليه البعض بقوله: إن التاريخ يعيد نفسه، ولا يستسيغ الماركسيون هذه المقولة بطبيعة الحال؛ لأن حركة التاريخ ومسيرة الأحداث لولبية في مظهرها، الأمر الذي يجعل الناظر للأمور بسطحية وكأنها إعادة إنتاج لها مرة ثانية، فيما هي عملية نفي للمرحلة السابقة، تبدو منها وليست في الواقع منها، وقديما قيل: لا تستطيع أن تسبح في النهر مرتين. والمتأمل في حركة المجتمع الأوروبي على وجه التحديد وتطوره يدرك ــ بوضوح ــ ملامح هذا القانون، من مجتمع العبودية والإقطاع التقليدي إلى الإقطاع الرأسمالي الذي ولَّد بدوره المجتمع الصناعي وطبقة البروليتاريا التي أفضت بالنهاية إلى تكوين النقابات ثم الثورة من أجل الحقوق، وصولا إلى المساواة بين الجميع. وإلى هذا أشار إنجلز فيما سماه النفي الإيجابي، وضرب لذلك مثلا بخروج الشرنقة من البويضة التي هي عملية نفي لمرحلة البويضة، لتبدأ مرحلة تراكم كلي جديدة حتى تنضج الفراشة جنسيا، وتصبح مؤهلة للتزاوج، فيتم التزاوج لتضع البيض وتموت، نافية النفي، وهو مثال ينطبق على بقية الكائنات. وقبل مثال إنجلز لدينا الإشارة القرآنية إلى هذه المتوالية من قانون نفي النفي في قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج).
وهكذا هي سنة التطور القائمة على نفي النفي، في متوالية زمنية من عمليات التجديد المستمر للحياة. (كل يوم هو في شأن).
بعد هذه المقدمة لنا أن نتساءل: كيف نقرأ الظاهرة الحوثية وفقا لهذه القوانين الثلاثة؟
لنعد إلى القانون الأول: "التراكم الكمي يُفضي إلى التحول النوعي".. إنها ذات الفكرة التي ولدت منها الظاهرة الحوثية، وبها ستنتهي كنتيجة حتمية لطبيعة السيرورة الزمنية التي تخلّقت بها سابقا، ستتشبع بالعنف وبالجنون حتى يفيض الكأس، وتنتهي فجأة إما بعملية "تغيير" من خارجها، يخترم أجلها، أو "تغيُّر" من داخلها؛ كونها فكرة خبيثة في الأساس، وبحسب ماديسون: "ما من قضية خبيثة إلا وتخون نفسها". وأي خبث أكبر من فكرة الاستعلاء "الشيطانية" على أساس الجنس أو العرق؟! وإذا كانت قد سقطت سابقا وهي دولة قائمة، فمن المستحيل العودة والبقاء وهي مجرد مليشيا مسلحة، مفتقرة لكل شروط البقاء ومؤهلات الاستمرار.
ستتغول في العنف كثيرا، حد الهوس والجنون، وستقع فجأة، ومنطق السيرورة والصيرورة يؤكد ذلك، فكل صورة من العنف اليومي الذي تقترفه هو تسريع لحتمية السقوط، وكلما زادت حدة العنف أكثر كان السقوط وشيكا. ومن يتأمل ــ باستبصار ــ ثورة 26 سبتمبر 62م النظام الذي أتت منه الجماعة يجد أنه انتهى عمليا من داخل تركيبته البنيوية، ولم تكن الثورة/ الفعل إلا القطرة التي أفاضت الكأس، لاجترار التحول النوعي أكثر منه للتسريع بالتراكم الكمي. الثورة كفعل وحدث كان التحول النوعي، لأن التراكم الكمي "النظام السابق" كان قد استنفد شروط البقاء وأنفاس الحياة فكان التحول النوعي..
أما عن القانون الثاني: وحدة صراع الأضداد، فنستطيع القول أنه لم تكن الظاهرة الإمامية يوما ما منسجمة مع نفسها أو متناغمة مع ذاتها، فهي أشبه بالقنبلة الانشطارية، تحمل بذور فنائها داخل مكوناتها، ويكفي ظاهرة الخروج والخروج المضاد الذي تميزت بها تاريخيًا، إذ تعتبر نظرية فوضوية وعشوائية، ما أن يتحكم إمام حتى يخرج عليه آخر، من لدن المؤسس الأول وحتى آخر إمام، ذلك لأن كل أفراد هذه العائلة يرى كل منهم أنه الأحق بالإمامة، وأن الشروط كلها مجتمعة فيه..! وكلهم في الادعاء سواء. ليس كذلك فحسب؛ بل إنها ــ كأي أيديولوجية متصلبة ــ لا تقبل القسمة إلا على نفسها، ولا تؤمن بالآخر شريكا أو متشاركا أو ندًّا؛ الأمر الذي يفضي إلى الرفض المطلق والقطيعة التامة من قبل المكونات الأخرى، وهي كثيرة، فيفضي الأمر في النهاية إلى حالة من الصّراع والاضطراب الذي لن يستقر معه قرار، وما قيمة أي حكم أو نظام سياسي يعيش حالة من التنافر مع كل المكونات المجتمعية التي يحكمها أو يسعى لحكمها؟! وكما جاءت هذه الجماعة من نقيضها فحتما ستنتهي إلى نقيضها، عرفت أم لم تعرف.
وعن القانون الأخير نفي النفي، فإن دورة الفلك وصيرورة الحياة لم تتسمرْ في مدارها أو تقف عندها، فالحياة قابلة للتطور، وهذه النظرية غير قابلة للتطور أساسًا، فهي أشبه بالساكن الذي لا يتحرك، فيما حركة الكون من حولها متسارعة، وعادةُ الحركة أن تنفي السكون وتتقدمه وتقضي عليه في زمن أصلا عرف بالتسارع والجدلية وسرعة الحركة.
التعليقات