عن محاولة انتحار "سارة علوان"..
محاولة انتحار امرأة في محافظة تعز، تُدعى"سارة علوان"، حالة مختلفة عن ظواهر الانتحار التقليدية، أي أنه انتحار لشخص متعافٍ تماماً من أي اضطرابات نفسية. "انتحار صدمة"، كما يحلو للبعض تسميته.
ملابسات قصتها غير واضحة بدقة كافية، غير أن جوهر الحكاية هو أنها حاولت الانتحار نتاج تعرّضها لابتزاز غير أخلاقي. وهل هناك ابتزاز أخلاقي..؟ بالطبع "لا"، لكن قولنا ابتزاز أخلاقي هو أيضا توصيف غير دقيق. هذا أولًا.
في الغالب لا يتّخذ الشخص -أي شخصء قرار الانتحار بشكل مفاجئ. وإن حدث ذلك، نتاج صدمة؛ فهو حالات نادرة، تجد تفسيراتها في الطبيعة النفسية فائقة الهشاشة للشخص المنتحر. أي أن الصدمة وحدها غير كافية لتشخيص الحدث. ذلك أن كل الخسارات الوجودية -مادية كانت أو معنوية- تظل خسارات أقل مرتبة من قيمة الحياة، أدنى من فكرة بقاء الشخص في الوجود أو مغادرته.
لكن المنتحر، حين يفعل ذلك، هو يقدم على خطوته في لحظة فقدان كلي للوعي، وعجز شامل عن التفكير في سلوكه، لحظة تلاشي أي معايير عقلية قادرة على أن تهدِّئه وتمنحه تقييما لحالته. هو ينتحر؛ ليس بسبب ما تعرّض له من صدمة أو خسارة، بل لفشله في فهم حالته، وبأنه لم يخسر كل شيء، وألا مبرر لأي سلوك يلغي بموجبه حياته كليّاً. لو أن خسارته هي سبب انتحاره، لما اتخذ قرارا أكبر بالتخلي التام عن الحياة ومعالجة خسارة أدنى بخسارة كلية. من هنا يكون سبب اتخاذ قرار الانتحار مفصولا قليلاً عن الحدث الذي منحه ذلك الدافع. أي أن هناك مسافة بين تعرّضه للصدمة واتخاذه قراراً بالانتحار.
إنها لم تحاول الانتحار؛ لأنها تعرّضت للابتزاز، لم تحاول؛ لأنها تعرّضت لانكشاف، خسرت سمعتها أو وجدت نفسها تواجه تهديداً بانهيار حياتها. كل هذه الأسباب الظاهرية هي أعراض تضلل وعينا بالمشكلة. توهمنا بأننا فهمنا السبب الجذري، فيما الحقيقة أنها تفسيرات لا تقول لنا شيئاً عن جوهر الظاهرة، ولماذا قد يتخذ المرء قراراً مهولاً بمغادرة العالم؛ لأسباب يمكنه البقاء حتى مع تعرّضه لها.
غير أن محاولة المرء للانتحار نتاج صدمة، حتى لو كانت الصدمة ليست السبب الجذري للحدث، لكنها تؤشر إلى فكرة مهمّة، هي أن وجود الإنسان المعنوي يقع في مرتبة أعلى من وجوده المادي. وعليه فتعرّض كيانه المعنوي للخطر يجعل وجوده المادي بلا قيمة، وفقدان القيمة هو دافع ممكن وقوي للانتحار.
والآن، علينا أن نضع أمامنا فكرة أساسية: كل تفسيرات الانتحار هي تفسيرات ثانوية، يقوم بها أشخاص أحياء، يفهمون حدثا خارجهم؛ انطلاقا من دوافعهم الخاصة. يخلطون أسباب الحادثة الظاهرية بمخاوفهم وتصوّراتهم للحياة. ونكون بذلك أمام خليط من التفسيرات المتناقضة لدرجة تلاشي أي إمكانية للخروج بتفسير شبه موحّد للحادثة. هذا التباين المهول بين التفسيرات يسقط عنها صفتها الموضوعية، ويجعلها محاولات ذاتية لفهم حدث غامض، وخارج قدرتهم على الإحاطة به. ذلك أن المنتحر -وهو الشاهد الأساسي في القصة- قد غادر ولم يعد أمامنا سوى شهود من الدرجة الثانية، يجتهدون لفك شفرة حدث لا يملكون أدلته الباطنية الكافية.
وعليه يمكننا القول: حاولت سارة علوان أن تنتحر؛ لأسباب تتعلق بخلل في تصوّراتها عن الحياة، خلل في وعيها الوجودي، في تقييماتها الأخلاقية، وليس لكونها تعرّضت لمشكلة عابرة.
كثيرون تعرّضوا لما تعرّضت له وأكثر من ذلك، ومع هذا لم ينتحروا. ما يعني أن صدمتها ليست مفسرا جذرياً لسلوكها. هو دافع فحسب. ذلك أن المرأة نفسها كان يحتمل أن تتخذ السلوك ذاته، لو أنها فقدت ولدها بحادثة سيارة مثلا، أو تعرّضت لأي صدمة ذات طبيعة مغايرة. فجوهر مشكلتها يكمن في اختلال معيارها التقييمي لماهية الحياة، في استناد وجودها لمكاسب وصفات خارجية، السمعة مثلًا. وبوجود اختراق لصفة كهذه، سرعان ما تلجأ إلى اتخاذ قرار بمغادرة الحياة. ما يعني أن القرار نفسه كان ممكن الحدوث، لوجود أي اختراقات أو خسارات في أي زوايا أخرى من حياتها.
باختصار: انتحار الإنسان هو الظاهرة البشرية الوحيدة، التي تتضمّن تفسيرات خاصة نابعة من ذاته الفردية، وكل التفسيرات العمومية للحادثة لا تصح إلا بنسبة هامشية جدا. فكل حادثة انتحار لها جذورها الاستثنائية، ما يجعل كل حادثة انتحار ظاهرة جديدة، مثلما هو الإنسان مخلوق مميز عن بقية المخلوقات، لكنه بالطبع ليس مشابها لبقية البشر، وتحديدا حين يقدم على الانتحار. عند هذه النقطة، يغدو من الصعب محاولة شرح سلوكه باستدعاء تفسيرات عامة، ولا حتى مقارنته بحالات انتحار مماثلة. إنه ذاتٌ غارقةٌ في ذاتها حد العدَم، حد انعدام ذات مماثلة يمكننا القياس عليها. وهنا تكمن عبقرية هذا المخلوق، وما يبعثه من ذهول وحيرة أمام العقل البشري بكامله.
الخلاصة: ظاهرة "الانتحار" هي الظاهرة الوحيدة في علم النفس، التي ما تزال غامضة، ويعترف كل المحللين النفسيين بأنها تظل تحتفظ بنقطة غامضة، لا يستطيع حتى المنتحر نفسه أن يوضِّحها لنا. فيما لو قدر له أن انتحر ثم عاد للحياة مجددا لما تمكّن أن يقول لنا: لماذا أقدم على فعلته تلك. والحال هذه، علينا ألا ندع لتفسيراتنا العاطفية أن تتسبب في تشويش وعينا بالظاهرة. لا بأس بالتعاطف مع الضحيّة، ومحاولة إزاحة بعض أسبابها الظاهرية، والتصدّي لها. غير أننا ملزمون -جوار تفاعلاتنا العفوية هذه- بأن نخبر الناس أن كل ما نقوله يظل محاولات جزئية وهامشية لشرح الظاهرة وليس هو السبب النهائي لها. احتراز كهذا ضروري؛ كي لا نسهم في مراكمة وعي مختل عن هذه الظاهرة مع كل حدث وقصة انتحار جديدة.
(بلقيس)
التعليقات