المرافعة الأخيرة.. للشهيد حنتوس
*المرافعة الأخيرة.. للشهيد حنتوس*
*فهمي الزبيري**
الأحد 6 يوليو 2025م
بعد أيام قليلة من الجريمة البشعة التي ارتكبتها مليشيا الحوثي في محافظة ريمة، وقتل الشيخ صالح حنتوس داخل منزله، واقتحام بيته ونهب الممتلكات والأثاث، بعد جملة انتهاكات منها اغلاق دار القرآن ومضايقته في مسجده ومنعه من تدريس القرآن الكريم ومحاولة إجباره على تدريس ملازم وخرافات حسين الحوثي الطائفية، بدأت الجماعة بإطلاق حملة تضليل ممنهجة، محملةً الشهيد وأقاربه تهما كيدية وأكاذيب ملفقة، بهدف تضليل الرأي العام المحلي والعربي، والتغطية على فداحة الجريمة التي لاقت إدانات واسعة.
هذه الجريمة التي هزت الضمير الإنساني وأسقطت ورقة التوت عن وجه المليشيات، والقناع الزائف الذي خدع به البعض في الدول العربية، لم تفلح في التغطية على بشاعة الفعل ولا على عمق المأساة، وأظهرت بوضوح طبيعة المشروع الدموي الارهابي الذي تحمله المليشيات الحوثية.
لقد كانت دماء الشيخ حنتوس بمثابة صرخة مدوية في وجه الاستبداد، وبيانا أخيرا يفضح طبيعة المشروع الحوثي القائم على البطش والتكفير والخرافة، ويكشف كيف تنقلب المليشيات على كل من يرفع صوته بالقرآن ومنهج الحق أو يتمسك بكرامته في وجه الطغيان.
في واحد من أكثر المشاهد وجعاً وكرامة في آن، تداول اليمنيون مقاطع صوتية، نستطيع أن نقول عنها وثيقة تاريخية وقانونية وإنسانية لجرائم المليشيات ضد القانون والضمير، ظهر فيها الشهيد حنتوس وهو يواجه لحظاته الأخيرة بحزم وشجاعة منقطعة النظير، مدافعا عن حقه الدستوري والإنساني، لقد كانت كلماته في ذلك التسجيل بمثابة مرافعة إنسانية، حقوقية، وقانونية شاملة، كشفت عن حجم الانتهاكات المرتكبة، وأكدت على حق المواطن في الأمان والكرامة، وأحالهم إلى قفص الاتهام، وكانت وثيقة وشهادة حية على الجرائم التي مارستها منذ نشأتها.
في جريمة متكاملة الأركان اقتحمت مليشيا الحوثي منزل الشيخ حنتوس، واستخدمت مختلف الأسلحة، وروعت المدنيين والنساء والأطفال، واختطفت أقاربه وجيرانه، في انتهاك صارخ لكل القوانين الوطنية والدولية، إضافة إلى تم منع دفن جثمانه في النهار ومنع مشاركة أهله وأبناء مدينته في تشييعه، وفرضت إجراءات قسرية على التشييع، خوفا من الغضب الشعبي، وحتى لا يتكرر سيناريو الخروج المهيب الثائر في جنازة البطل الشهيد حمدي المكحل الذي قتلته مليشيا الحوثي في السجن بمحافظة إب، والتي خرجت تهتف بصوت واحد "لا إله إلا الله الحوثي عدو الله"، وذابت مليشيا الحوثي وقتها واختفت رعبا وخوفاً، لتعود لاحقا، كعادتها، وتستفرد بالمواطنين، عبر حملات القمع والبطش والاختطافات.
قال الشيخ الشهيد حنتوس رحمه الله، في رده الموثق على المكالمة الهاتفية مع العنصر الحوثي "يا ذاك، أنا داخل بيتي .. ليش تعتدوا عليّ؟ تقتلوني داخل البيت حقي؟ أتركوني.. أنا داخل بيتي". بهذه الكلمات البسيطة، أعاد حنتوس التأكيد على المبدأ الدستوري والقانوني الذي يجرم اقتحام المساكن دون إذن قضائي، رغم سيطرتهم على المؤسسات القضائية والمحاكم، إخضاعها لهم، ومع هذا عجزوا عن مواجهته عبر الإجراءات القانونية المختلة في مناطق سيطرتهم، لأن ما قاموا به جريمة واضحة ومركبة الأركان تتمثل في انتهاك الحق في السكن الآمن، الاعتداء على حرمة المنزل، الاختطاف بشكل جماعي دون سند قانوني، والقتل خارج نطاق القانون.
خاطبهم بلغة القانون والدستور الذي انقلبت عليه مليشيا الحوثي واعتدت على مؤسسات الدولة، تابع الشهيد خطابه للمليشيات "من معه عليّ دعوة، يتحرك النيابة، وأنا سأوكل محامي". هنا، نسف الرجل كل اكاذيبهم وافتراءاتهم، بل كان متمسكا بسيادة القانون الغائب أصلا، ومبدأ المحاكمة العادلة، وهو ما ترفضه المليشيا التي استبدلت القانون بالإرهاب، والمحكمة بالسلاح، والحقيقة بالدعاية الكاذبة.
في المقطع الصوتي، لم يدافع الشيخ حنتوس عن نفسه فقط، بل حمل همّ كل الأبرياء، قائلاً "فلتوا أصحابي، ما عليكم منهم اتركوهم، لا علاقة لهم بالقضية، اليوم عندي وبكرة عندكم". في هذه العبارة، يحمل المعتدين مسؤولية جماعية، وينبه إلى أن استمرار الانتهاكات تهدف إلى تهديد عام للمجتمع بأسره، وليس استهدافا فرديا.
هذا الإقرار الموثق يثبت أن استخدام القوة كان مفرطا، لا يتناسب مع أي مزاعم قانونية، ويشكل انتهاكا للقوانين والمعاهدات الدولية واتفاقيات جنيف التي تحظر الاعتداء على المدنيين أو معاملتهم بشكل لاإنساني، وانتهاك صارخ للدستور اليمني النافذ، في المادة 53 التي تنص على "للمساكن حرمة، ولا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا في الأحوال المبينة في القانون وبالكيفية المنصوص عليها فيه" وبالتالي، فالجريمة تصنف كـتصفية خارج نطاق القانون وانتهاك جسيم لحقوق الإنسان.
يجب فتح تحقيق عاجل ومستقل في جريمة مقتل الشيخ حنتوس والاعتداء على منزله بالقصف الوحشي والاقتحام والاختطافات، وتلفيق التهم الكيدية، وتحديد المسئولية الجنائية وإحالة المسؤولين عن الجريمة وسلسلة الانتهاكات الجسيمة التي رافقتها كالقتل والحصار إلى العدالة المحلية والدولية، والإفراج الفوري عن جميع المعتقلين من أقارب الشهيد وأبناء قريته، واستمرار الحملات الإعلامية والحقوقية لكشف الحقيقة للعالم.
في ختام المرافعة التي تحولت إلى عهد، بعد مواجهتة للظلم وقوى القهر التي لم تنل من شموخه وإرادته، قال الشيخ البطل حنتوس "اليوم إن شاء الله شهيد أنا خصمكم أمام الله". بهذا الإعلان، لم يختم حنتوس حياته فحسب، بل فتح سجلا أخلاقيا وقانونيا سيظل مفتوحا، يوثق الجريمة، ويلزم الضمير الإنساني العالمي بملاحقة القتلة، ويلهم الأحرار في كل مكان لمقاومة الطغيان.
لقد جسد الشهيد الشيخ صالح حنتوس، في لحظاته الأخيرة، بطولة استثنائية وموقفا نادرا في مواجهة الظلم، قاوم بصلابة وعزيمة، حمل صوت المقهورين، وجسد الكلمة الحرة، فكان موقفه مرافعة خالدة، ووصية للأجيال القادمة أن لا يسكتوا على الظلم، ولا يرضخوا للاستبداد، مهما عظمت التضحيات.
سيظل الشهيد حنتوس درسا في الشجاعة، ونشيدا تردده الأجيال في ميادين الكرامة، لقد رحل جسده، لكن صوته سيبقي محفورا في ذاكرة اليمنيين، وفي ضمير كل من يرفض القهر ويؤمن بالعدالة.
*مدير عام مكتب حقوق الإنسان بأمانة العاصمة
اليمن الكبير|| مأرب التاريخ والعراقة (الجزء الأول)
التعليقات