"الأغلبية الصامتة" وذكرى الوحدة اليمنية
ما لا يتوقّف عنده الكثير هو أن غالبية الشعب اليمني تحوّلت إلى فئة صامتة.
صحيح أن السِّمة العامة للشعب هي أنه "شعب مسيّس" كما يُوصف غالباً، أي أن له اهتماما كبيرا بالشؤون السياسية للبلاد. غير أن اهتمامه هذا لا يعني أن القطاع الأكبر منه منخرط بشكل فاعل داخل القوى السياسية العاملة في البلد.
تحاول القوى السياسية في كل أحاديثها، ادّعاء تمثيلها للشعب أو قسط منه؛ غير أننا لو تنزلنا للواقع الاجتماعي؛ لنقيس حجم الجمهور الحاضر، والمتفاعل بشكل حي مع كل القوى السياسية؛ سنجد أن الفئة المنخرطة بشكل مباشر مع هذه القوة وتلك هي فئة صغيرة؛ فيما القطاع الأكبر من الجمهور اليمني منهمك في مشاغله اليومية، بعضهم ملّ من الاهتمام بالسياسة، والبعض فقد ثقته بكل القوى العاملة في الميدان، والبعض صار محبطا ولا يجد أي أمل في أي قوى تمثيلية، بل إن البعض صار يعتقد بأن الدولة اليمنية يمكنها أن تستقر وتخلق حياة لهؤلاء البشر القاطنين في هذه القطعة الجغرافية من العالم.
وبالرغم من أن هذه هي الحال، إلا أن القوى السياسية لا تتوقف عن مزاعمها بتمثيل الشعب، لدرجة أن مفردة "الشعب" صارت بلا أي معنى، مجرد شعار يتلفظ به الكثير، ولا يحمل أي دلالة واقعية تشير إلى نسبة تمثيل حقيقي.
فالشعب، الذي يتصرفون تحت دعاوى مصلحته، لا يدري عن هذه القوى شيئاً، ويعيش في عوالمه. فيما تعتقد القوى السياسية أن المجموعة الصغيرة العاملة تحت إمرتها هي كل الشعب الذي تدَّعي تمثيله.
قولنا إن القطاع الأعظم من الشعب صامت لا يعني عدم وجود أي لحظات وقضايا تشير إلى موقفه. فالرأي العام الحقيقي يحضر بشكل عفوي عند محطات كثيرة. منها: ذكرى قيام الجمهورية، وهذا العام تبدو قضية الوحدة نشطة بشكل يُؤشر إلى رأي عام، ومزاج ميّال باتجاه التمسّك بالوحدة.
في كل عام، كانت تمر ذكرى الوحدة دونما تحفز جماهيري لقول موقف حولها. فيما بوادر كثيرة تؤكد أن المزاج العمومي اليمني صار يقظا تجاه ما تتعرّض له فكرة الوحدة من تهميش، ومحاولة بعض القوى مصادرتها، والتمهيد لخطوات تنحو باتجاه تفكيك الكيان الوطني اليمني الواحد.
يدرك اليمنيون أن قضية الوحدة تعرّضت لالتباسات كثيرة؛ غير أن الناس بوعيهم البدهي يفصلون بين ما تعرّضت له الوحدة من خلخلة وبين الدعوة المشبوهة إلى تفكيك جغرافيا البلد.
وكلما تصاعدت الدعوات القسرية نحو الانفصال، احتشد الناس للتصدِّي لها.
ومن يتابع تفاعل الناس مع قضية الوحدة هذا العام يدرك أن هناك مزاجا عموميا حيا، وجاهزا للدخول على الخط، وقول موقفه حينما يلاحظ أن هناك تصاعدا لدعاوى وسلوكيات انفصالية لا تملك الحق في تقرير مصير الناس بشكل تعسفي ومشبوه.
هناك مثلًا: ما يُسمّى بالمجلس الانتقالي الجنوبي، وهو قوة سياسية ومليشاوية، يزعم الحق في قيادته للجنوب، والحق بتمثيل شعب الجنوب، والدعوة إلى تقرير مصيرهم. تسيطر هذه القوة على الفضاء العام في الجنوب، وتتوّهم أن سيطرتها تمنحها الحق بالسير نحو خطوات تفكك البلد، وصولا إلى تنظيم استفتاء شعبي لتقرير مصير الجنوب.
هذه الدعوات كلها تستند إلى مجموعة من المزاعم، وبصرف النظر عن طبيعتها، فهي مزاعم لا تمنحهم الحق في تقرير مصير الناس لمجرد امتلاكهم قوة عسكرية، حتى لو أتيح لهم تنظيم استفتاء بما يزعمون. فالأمر بكامله هو مواصلة لحجب الحقائق، حتى لو نظموا استفتاء نزيها بذلك. ففي كل الأحوال تظل الكتلة الصامتة في الشعب واقفة في الظل، أو واقعة تحت تأثير دعاية مضللة؛ ما ينفي وجود أجواء صحية لاختبار إرادة الناس.
مهما يكن الأمر، فالزيف لا يتعلق بأن تقرير مصير الوحدة أمر غير ممكن، وأن الغالبية من الشعب في وضعية صمت وانكفاء على ذاتها. فبالعودة إلى المسألة بشكل جذري، تكون فكرة الانفصال أضعف من فكرة الوحدة. فالأخيرة ما تزال تتمتع بكونها واقعا سياسيا وقانونيا تصعب إزاحته، وهي قبل ذلك تمثيل لمزاج الجمهور العام.
"الأغلبية الصامتة" شمالا وجنوبا تقف إلى جانب فكرة الوحدة، ولا أحد بمقدوره تقويض هذه الحقيقة. ذلك أن اليمن يمثل سياقا حضاريا وثقافيا متوحدا طوال فترات التاريخ، ولو لم يكن سياسيا واقعا تحت سلطة واحدة.
الخلاصة: لو أن قوى الانفصال تحترم إرادة الناس، لتوقفت مع الكتلة الصامتة، وتساءلت ما موقف القطاع الأعظم من الناس الذين لا يكترثون بالوضع السياسي؟ وهل من المنطقي ادعاء رغبة الجمهور بالانفصال لمجرد وجود فريق محدود يتزعم تلك المطالب؟
"إرادة الناس" ليست شعارا فضفاضا يمكن إطلاقه والتلاعب به كما يشاء المتاجرون بقضايا الشعوب؛ إنها حالة عمومية تتكشف بشكل عفوي حر، حين يحتشد الناس لمناهضة كل الدعاوى الهادفة إلى إزاحة الجمهورية، أو تقويض وحدة البلاد.
تلك المظاهر التلقائية تحمل إيحاء بالموقف العمومي، أو في حالة وجود سلطة سياسية محايدة، وظروف صحية جيدة، بهذه الحالة يمكن لنتائج الاستفتاء المنظم أن تكون تمثيلا دقيقا لمزاج الأمة اليمنية. تلك هي إرادة الناس وليس ما يقرره الزبيدي ومن يموله من الخارج؛ حين يتحدثون باسم الشعب، ويسعون إلى التلاعب بمصيره العام، دونما خجل.
التعليقات