يونيو.. الموعد الدامي لرؤساء اليمن
خلال لقاء متلفز قال الرئيس الراحل علي عبدالله صالح إن "حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الثعابين"، لم يدر "الزعيم" بعد 33 سنة من حكمه الأطول في تاريخ البلاد أن رقصته التي لطالما تفنن في أدائها بليونته المشهودة، ستزل فيها قدمه وتخذل دهاءه المعهود على إيقاع "الزامل" الأخير لـ"فرق الموت" القادمة من كهوف مران ورازح وضحيان بمحافظة صعدة، معقل الجماعة الحوثية التاريخي ومنبع انتشارهم، الذين خاض ضدهم ست حروب ضروس قبل أن يتحالف الضدان وفق مقتضيات المرحلة، ليبقى الزامل ويغادر الراقص الماهر خارج فعل الزمن وتأثيره.
كان صالح يعي أن فترة أسلافه تنتهي قبل أن "يحمى الشرح" في ملعب السياسة الصاخب، وقبل أن يصل "البرع" للحظة الذروة ليعبر عن انفعاله الذي يجسده التماع "الجنابي" في الجو، فهو الملم بتفاصيل السباق الشرس للعبة الموسيقى السريعة للجلوس على كرسي الأفاعي الأكثر سمية في المنطقة العربية، ولكن جرته كسرت هذه المرة على يد حلفائه السابقين الحوثيين بعد فترة حكم مليئة بالأحداث الجلال ما تزال تثير جدل الناس واهتمامهم حتى اليوم، ليلتحق بمن سبقه ممن قضوا على مذبح الكرسي السام.
التجريد والتصفية
منذ الإطاحة بالإمامة الزيدية في اليمن "شمالاً" عام 1962، وطرد الاستعمار البريطاني "جنوباً" 1967، تم الانقلاب على 10 رؤساء في شطري البلاد، إما قتلاً أو انقلاباً، قتل منهم خمسة اغتيالاً، فيما نجا آخرون في مقابل التخلي عن الكرسي المتفجر، أما الذين تنازلوا عن السلطة بشكل سلمي فلا يكادوا يذكرون.
إلا أن اللافت أن معظم الإزاحات الدامية التي شهدها منصب الرئاسة صادف زمن حدوثها شهر يونيو (حزيران) وكأنه موعد مبرم للإطاحة بزعماء البلد نتجت منه صراعات لا تنتهي، إذ تم الانقلاب على ستة رؤساء في هذا الشهر اللاهب بقيظه، وتولى آخرون المنصب ذاته في الشهر عينه.
ولم تكن خسارة اليمن منحصرة فقط في الصراع الرأسي على السلطة، بل سرى ليجر معه خسائر وصراعات أفقية تسببت في فقدان البلد شمالها وجنوبها، مئات الكوادر والقيادات السياسية المؤهلة بسبب الحروب التي نتجت منها موجات الصراع هذه، فضلاً عما كابده مئات آخرين من التصفيات والاعتقالات والنفي واللجوء القسري والإبعاد عن الوظيفة وغيرها.
قحطان الشعبي... الكوخ المميت
كان أول من أطيح به في هذا الشهر بعد عامين من توليه السلطة، هو رئيس جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية التي عرفت في ما بعد بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بعد استقلالها عن التاج البريطاني.
نشأ الصراع داخل كيان الثورة الفتية بالسخط من الرئيس المولود في محافظة لحج (جنوب) بعد أن اتسم عهده بانتهاج الطريقة الاشتراكية العربية الشبيهة بمصر والجزائر. أدى ذلك إلى خلاف مع الجناح اليساري المتشدد داخل "الجبهة القومية" التي رأت أن المرحلة تقتضي الحسم مع بقايا العهد الاستعماري وانتهاج سياسات تثبت أركان الجمهورية. وعقب صراع مرير مع هذا الجناح قدم الشعبي استقالته في الـ22 من يونيو 1969، وبعدها احتجز في منزله لفترة قصيرة، ثم نقل لاحقاً إلى "معتقل الفتح" في أواخر مارس (آذار) 1970 ثم نقل إلى كوخ خشبي حيث ظل هناك تحت الإقامة الجبرية من دون محاكمة إلى أن أعلنت وفاته في 1981.
الحمدي... انقلاب واغتيال
الشمال اليمني لم يسلم هو الآخر من موجات الصراع الشبيهة، ففي 13 يونيو 1974 قاد المقدم إبراهيم محمد الحمدي "الحركة التصحيحية" التي كانت بمثابة الانقلاب الأبيض في الجمهورية العربية اليمنية "الشمالية"، التي بموجبها أطاح بالقاضي عبدالرحمن الإرياني الذي كان رئيساً للبلاد حينها بتهمة الانحياز للقوى القبلية والمعادية لثورة سبتمبر (أيلول) التي قضت على حكم الأئمة، من دون أن يعلم أن هذه السياسات التي سعى إلى إيجاد قاعدة جماهيرية تدافع عنها ستعمل على إنشاء تيارات رافضة قضت عليه.
كان الحمدي لا يستهدف الإرياني تحديداً، وإنما القيادات القبلية ومراكز النفوذ في الجيش وسلك الدولة بعد أن بلغ الفساد والتخلف مبلغاً عظيماً وفقاً لمؤرخين، إلى حد تقاسم قبائل معينة مقدرات الدولة ومؤسسات الجيش والأمن والمحافظات والسواحل والعزل. إذ عمل الحمدي فسارع منذ توليه مجلس الرئاسة إلى التقليل من دور مشايخ القبائل في الجيش والدولة وألغى وزارة شؤون القبائل (كانت تقدم تسهيلات وتمويلات مالية ضخمة لزعماء القبائل ومعاونيهم) وجمد العمل بالدستور وحل مجلس الشورى الذي تشكل أغلبه من زعماء القبائل الذين كانوا يمثلون مراكز نفوذ اجتماعي وخاض ضدهم حرباً خفية وظاهرة سعياً في تحجيم دورهم.
الغداء الأخير
وفي الـ27 من يوليو (تموز) 1975 الذي أطلق عليه "يوم الجيش" أصدر الحمدي قرارات بإبعاد عديد من شيوخ القبائل من قيادة المؤسسة العسكرية وقاد نهضة اقتصادية وتنموية ما يزال اليمنيون يتذكرونها بكثير من الاعتزاز.
منذ ظهيرة يوم الثلاثاء في الـ11 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1977، اختفى الرئيس الحمدي وذلك بعد تلبية دعوة غداء في منزل رئيس أركان جيشه، أحمد الغشمي. وبعد ساعات، بثت إذاعة صنعاء بياناً أعلن فيه مقتل الحمدي وأخيه عبدالله، ووجه أنصار الحمدي اتهامات للغشمي والرائد يومذاك علي عبدالله صالح وعدد من المشايخ بقتل الحمدي.
الغشمي... الشنطة اللغز
تولى الغشمى مقاليد السلطة في الـ11 من أكتوبر 1977 خلفاً للحمدي، ليأتي الدور عليه هذه المرة، إلا أن قصة اغتيال الغشمي أشبه بفيلم بوليسي معقد، فالشنطة الملغومة وحاملها والاتصالات التي جرت قبل وصولها ما تزال مليئة بالتفاصيل الغامضة والمثيرة للاهتمام حتى اليوم.
إذ اغتيل الغشمي في مكتبه بواسطة "حقيبة دبلوماسية" مفخخة نقلها مبعوث من رئيس الشطر الجنوبي في الـ24 من يونيو 1978 الذي وصل إلى صنعاء صباح يوم الاغتيال على متن طائرة خاصة كمبعوث شخصي من الرئيس سالم ربيع علي.
واستقبله في مطار صنعاء الرائد على حسن الشاطر مدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة اليمنية آنذاك. وعندما وصل المرسول إلى مكتب الغشمي طلب الأخير من الشاطر الانتظار في المكتب المجاور كونه يريد الانفراد بالمبعوث بناء على اتفاقه مع الرئيس سالم ربيع على الذي أخبره هاتفياً بأن مبعوثه سيبحث معه أمراً مهماً ولا يفضل أن يطلع أي شخص على تفاصيله. وبعد مغادرة الرائد علي الشاطر مكتب الرئيس الغشمي سارع المبعوث بفتح الحقيبة التي تفجرت وقتلت الاثنين معاً.
وخلفاً للغشمي شكل مجلس قيادة برئاسة عبدالكريم العرشي رئيس مجلس الشعب، وعضوية كل من علي الشيبة وعبدالعزيز عبدالغني وعلي عبدالله صالح، وفي الـ17 من يوليو 1978 انتخب مجلس الشعب بأغلبية أصوات العقيد علي عبدالله صالح رئيساً للجمهورية.
سالم ربيع... إعدام أبو المساكين
استمر يونيو في الإطاحة بزعماء اليمن، وهذه المرة جنوباً مع الرئيس الثاني سالم ربيع علي (سالمين) الذي تولى المنصب في الشهر ذاته قبل 10 سنوات وشهد الإطاحة به وإعدامه.
فمثلما لم تمنحه الظروف السياسية فرصة مختلفة للمنصب الذي تسلمه إثر انقلاب بدأ سلمياً على سلفه قحطان الشعبي، لم تمنحه أيضاً نهاية مختلفة بعد أيام قليلة من استقباله عضو الكونغرس الأميركي بول فندلي وتأكيده له أن "عدن لا ترغب في الانعزال عن الولايات المتحدة" وأن رئيسها - أي سالمين - يحبذ "إقامة علاقات مع الولايات المتحدة بحيث تكون ذات صلة بالأمور التي يشكو منها الشعب اليمني".
كان ربيع قائد الجناح اليساري في جبهة التحرير الوطني اليمنية التي أجبرت قوات الاحتلال البريطاني على الانسحاب من الجنوب العربي في الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1967.
أثناء عهده غير اسم الدولة من جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ذات النهج اليساري الشبيه بالصين وكوبا.
جرى الانقلاب على سالمين وقتله من الجناح الراديكالي داخل "التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية" (يقوده الرئيس عبدالفتاح إسماعيل وكان سالمين محسوباً عليه)، وهو الجناح الذي تولى قيادة الجنوب عقب الاستقلال والإطاحة بقحطان الشعبي.
في حوار صحافي سابق كشف أركان حرب أمن رئاسة سالمين محمد سعيد عبدالله عن أسباب ودوافع اغتيال الرئيس سالمين التي قال إنها "كانت كثيرة ومتشعبة وليست وليدة يوم الانقلاب، ولكن السبب الذي ظهر علي السطح بدأ بعملية اغتيال الرئيس الغشمي"، إذ يتهم سالمين بإرسال الحقيبة المفخخة إلى الغشمي المتهم بتصفية الرئيس الحمدي الذي كانت تربطه بسالمين علاقات قوية.
وأوضح أن اللجنة المركزية دعت إلى اجتماع استثنائي الساعة العاشرة صباحاً لغرض تحميل الرئيس سالمين قضية اغتيال الغشمي كمخرج من المأزق الذي كان يحيط بالدولة في الجنوب بسبب الاغتيال الغادر من جهة، وكون القيادة السياسية في الحزب كانت تبحث عن سبب لإزاحة الرئيس سالمين عن السلطة. وبالفعل اتخذت "قراراً بتنحية سالمين وإحالته إلى المحاكمة وكلفت المكتب السياسي بالتنفيذ". إلا أنه عقب حوارات ووساطات دفع بها للرئيس الذي كان يلقب بـ"أبو المساكين" لارتباطه الوثيق بالطبقات الفقيرة، اتهم حارسه الطرف الآخر باستغلال الوقت للتجهيز للانقلاب وقال إن الرئيس سالمين سلم الوساطة استقالته "وطلب السفر إلى الصين ولا داعي لتفجير الموقف".
"الغزاة" تحيط بالقصر المدور
يروي أنه في تمام الثانية بعد منتصف الليل "أطلقت الشرطة العسكرية ست طلقات نارية في الهواء من ميدان الشرطة العسكرية المقابل لقصر الرئاسة، وكانت إشارة البدء بالهجوم على الرئيس، ثم قاموا بقطع التيار الكهربائي على منطقة الفتح بالكامل، وما هي إلا دقائق حتى بدأ إطلاق النار علينا من جهات متعددة من جبل هيل ومن مربط ومن وزارة الدفاع ومن الشرطة العسكرية، وكانوا مطلين على قصر الرئاسة واستمرت المعركة بيننا حتى الخامسة من صباح الـ26 من يونيو 1978 من دون أي تقدم من الجهتين".
في حواره يروي حارس سالمين أن "القوات المهاجمة بقيادة علي شائع بدأت تتقدم بشراسة وكان ينادي عليهم بالميكرفون من أحد المنازل القريبة منا قائلاً: تقدموا عليهم لا تخافوا منهم إنهم غزاة جبناء فاستغربنا لكن تبين لنا السبب بعد أن استطعنا اعتقال مجاميع من قوات علي شائع، وكانوا في عربتين مدرعتين تقدمتا على القصر المدور الذي نحن فيه، وعندما سألناهم عن معنى قول علي شائع "إنهم غزاة" أفادوا بأنهم لا يعلمون بأنهم يقاتلون رئيسهم، إنما أخبروهم بأنه حصل إنزال جوي أجنبي لاحتلال الرئاسة ليلاً وفوجئوا بأنهم كانوا مخدوعين مما دفعهم إلى القتال معنا بشراسة غضباً على خديعتهم".
تتابعت المعركة حتى قتل عديد من حراسة سالمين الذين نفدت ذخيرتهم فاضطر سالمين إلى كتابة رسالة استسلام فلم يجد ورقاً فكتبها على أوراق السجائر إلا أنه على رغم استسلامه صُفي هو وعدد من مرافقيه بداخل مبنى وزارة الدفاع في اللحظة نفسها.
صالح وتفجير مسجد الرئاسة
من أهم الأحداث التي شهدتها اليمن في عام 2011 محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس السابق على عبدالله صالح، بتفجير الجامع الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة ونجا منه بأعجوبة.
فعندما بلغت الأزمة السياسية في البلاد أوجها عقب اندلاع مواجهات عنيفة في العاصمة صنعاء بين القوات الحكومية الموالية للرئيس صالح ومسلحين قبليين يتبعون أبناء الشيخ الأحمر في منطقة "الحصبة" يساندهم اللواء الركن علي محسن صالح الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، تعرض الرئيس صالح في الثالث من يونيو 2011 لمحاولة اغتيال بتفجير جامع دار الرئاسة أثناء تأديته ومسؤولي الصف الأول في الدولة صلاة الجمعة، تعرض إثرها لحروق بالغة وقتل في العملية نحو 11 من حراسه الشخصيين، إضافة إلى رئيس مجلس الشورى عبدالعزيز عبدالغني لاحقاً.
نجاة الرئيس العليمي
من ضمن الشخصيات التي طاولها ضرر التفجير وزير الداخلية السابق، ومستشار صالح الضابط رشاد العليمي، رئيسي مجلس القيادة اليمني الحالي.
تعرض العليمي كرئيسه صالح لجروح وتهتكات جسدية بليغة، غير مدرك أن الأحداث التي كادت أن تفقده حياته هيأته للجلوس على كرسي السلطة الأول للبلد في مهمة جديدة معقدة يتطلب إخراجها من الحالة الشبيهة للتي تعرض لها جسده قبل أن تبادر الجارة السعودية لإنقاذه وبقية المصابين للعلاج في مشافيها حتى عودته إلى صنعاء في الشهر الأسود ذاته، وتحديداً في الـ13 من يونيو 2012 خلال الفترة التي تلت تنحي صالح وانتقال السلطة إلى هادي بموجب المبادرة الخليجية، وحظي يومها باستقبال جماهيري كبير.
التعليقات