ذكرى الإصلاح: عُمر جيل كامل..
لطالما تساءلت: لماذا كلما فُتح نقاش حول حزب "الإصلاح" تحتدم النقاشات بشكل مثير، ويكتسب الجدل حيوية كبيرة..؟ وبصرف النظر عن طبيعة النقاشات نفسها، مشيدة بالحزب وتجربته أو ناقدة له. في كل الأحوال، لمجرد أن الكيان السياسي يحظى بهذا القدر من التفاعلية، فالأمر مؤشر مبدئي على قدرة هذا الحزب على تحريك المياه الراكدة، أينما وجَّه نشاطه وعند أي قضيّة متعلقة به.

قوة الإصلاح في ثراء تجربته، في تكوينه الخصب، وتداخله الواسع مع كل قضايا الواقع، وكامل جغرافيا البلد تقريبا. أنت أمام إطار سياسي أشبه بفضاء تعددي يضم بداخله أجيالا بلا عدد، بكل ما يختزنه هذا الطيف الشامل من خبرات واهتمامات وعلائق كثيرة. عناصر تجاوزت السبعين والثمانين، وشبان تفتح وعيهم السياسي اليوم. وما بين أولئك وهؤلاء تشكيلة واسعة من الأذهان الخلاقة، رؤى متنوِّعة، تكاد تحوي تصوّرات كافية لإعادة تعريف الوجود كله، وليس فقط تجديد الرؤية السياسية العامة للحزب.

على العكس مما يعتقد البعض، تكاد تكون طبيعة تكوين الحزب وتصوراته الأولية عامل أسهم في إثرائه. إذ مهما مجّد البعض ضرورة فصل البُعد التربوي عن المهمَّة السياسية للحزب، يظل التصور الوجودي والخلفية الفكرية للحزب سمة خلاقة وفّرت لعناصر الحزب ما يشبه تفسيرا مبدئيا لحياتهم، بُعد ثقافي يتجاوز الموقف السياسي. لربما يكون هذا مأخذ على الحزب من منظور التعريف الليبرالي لمفهوم "الحزب"، لكنّ يقول إن طبيعة المجتمع اليمني لا تقبل التصورات الحدّية، ولديه طريقته في موازنة المفهوم المثالي، بالحاجة الواقعية. أعني أن ما يؤخذ كملاحظة على الحزب: خلطه بين البُعد السياسي والتربوي، من الواضع أنه ميزة ضاعفت من خصوبة التنظيم، ومنحته قدرة متواصلة على التجدد الذاتي.  

حسنا، لربَّما يحتاج الإصلاح أن يضع أمام عينيه الآثار الداخلية التي تركتها الحرب في بنية الحزب. النظر في عافيته التنظيمية، ومدى الصلابة أو الخلخلة في قاعدته المجتمعية. حيث سنوات من الشتات، وتجمّد نشاطاته في المدن الخاضعة للانقلاب، لا بُد أن تحمل معها احتمالات تفكك بشري أو ضمور جزئي هنا وهناك، يتوجب التنبه لها، والعناية بكامل بنية الهيكل التنظيمي وعناصره.

ثقة الإصلاح بقوة الرابط الفكري والأيديولوجي لدى عناصره هو أمر لا يجب أن ينسيهم الحاجة التنظيمية إلى تنشيط التواصل مع الكتلة البشرية الواقعة تحت حكم السلالة الحوثية، واستعادة فاعليتهم؛ باعتبارهم قواعد يتأسس عليها المصير الوجودي للحزب في مناطق الانقلاب حاضرا ومستقبلا.

يُقال في علم التحقيب الزمني للتاريخ إنّ القرن الواحد ينقسم إلى ثلاثة أجيال؛ الجيل بالمفهوم التاريخي يوازي 33 عاما. وها هي الذكرى الثالثة والثلاثون من عمر الإصلاح؛ إنّها فترة زمنية كافية لبلوغ المشاريع الكبرى ذروة تحققها. فترة تبرهن على صلاحية فكرة ما من عدمها. هل نجح حزب الإصلاح في تقديم برهان تاريخي واضح وقوي؛ يؤكد به جدواه الوجودية والسياسية وجدارته أمام الأجيال..؟

السؤال مركزي والجواب لا يمكن اختزاله بالنفي أو الإيجاب. لهذا تكون الحاجة إلى مؤتمرات وندوات وكتب تحكي تجربة الحزب من منظور وجودي وتاريخي، وليس مجرد تقييمات سياسية لحظية ومبتورة. أما هنا، فيكفي أثناء افتتاح الكلام عن حزب الإصلاح أن نتحدث عن كيان مركزي في الفضاء العمومي اليمني، كي يغدو العنوان دليلا على أننا أمام تجربة راسخة ما تزال تدخر عوامل واسعة للبقاء والمساهمة في صياغة مصير البلاد والشعب.

فكرة أخرى: عند تعريفه لنفسه؛ يقول الإصلاح إنّه "حزب سياسي يمني مدني، لا علاقة له بأي امتدادات تنظيمية خارجية". ويريد بذلك نفي أي محاولة لإدراجه في إطار "جماعة الإخوان المسلمين". ذلك أنّ الجماعة تتعرض لحرب وحظر في دول عربية عديدة. لكن حتى مع التسليم بهذا التعريف البرجماتي، الذي يقدمه الحزب عن نفسه؛ يظل الرابط الفكري الحر والخلفية المتقاربة مع بقية حركات "الإسلام السياسي" أمرا أشبه بمسلمة طبيعية، لا تنطوي على تهمة، ولا داع لنكرانها. غير أن هذا ليس موضوعنا. فقط أردت التمهيد بهذا؛ كي أقول:

لعلّ حزب الإصلاح هو التجربة السياسية الإسلامية الوحيدة، التي تمكنت أن تنجو من كل عواصف المحيط والعالم، وخلقت مسارات داخلية أمنية؛ بل ونجحت بشكل لا بأس به في تحييد قدرة المحيط على ضربها، أو إزاحتها جذريا من الفضاء السياسي، وتجريدها من حقها في الحضور. حتى مقارنة بالتجربة التونسية؛ يظل الإصلاح أكثر حيازة لعوامل أمان وضمانات تنفي قدرة أي طرف على تجريدهم الكلي من أي موقع فعال، أو دور لرسم مستقبل البلاد.

لا شكّ أن وصول حزب الإصلاح لهذه اللحظة من عمره، وقد مر بمحطات تاريخية حساسة وخطيرة؛ كانت كافية لخلخلته وإضعافه؛ لكن مجرد نجاحه في احتوائها شهادة موازية على ما يتمتع به من حيوية وجاهزية للحضور والاستمرار، تحت أي شرط وظرف.

محطات كثيرة ليس آخرها تعرّضه لتجريف كامل في مناطق الانقلاب الحوثي، ومصادرة شبه كلية لحقه السياسي في النشاط والتواجد في كثير من مدن الجنوب. ومع هذا؛ أظهر الحزب مرونة سياسية عالية، وقدرة تنظيمية فعّالة ودقيقة، إذ لم تمر أسابيع وبالكثير شهور قليلة حتى نجح في لملمة جهازه الإداري، ومعاودة الدوران في فلك السياسة والنضال، لعب دور وطني مركزي وفي الصدارة. مرت الأيام وخلق الكيان فضاءه الواسع لممارسة نشاطاته. وما يزال يتمتع بحضور كبير، قدرات تنظيمية حية، ورصيد وطني يمنحه جدارة للصمود، وفسحة لتطوير التجربة على امتداد الزمن القادم.

 الخلاصة:

يحتاج الإصلاح إلى تكثيف نشاطاته الموحية باستمرار الطابع الحيوي للتنظيم. من الجيد عدم الاكتفاء بتأدية الدور الروتيني، واتخاذ ظرف الحرب كمبرر لجمود الحراك السياسي الخاص بالحزب. هو الآن يتخذ من رصيده التنظيمي لعقود خلت كسند يواصل به تأدية دوره العام؛ لكنه يظل بحاجة إلى نشاطات داخلية مكثفة، تمكنه من تقوية أوردته الخاصة، واتصاله القوي بجمهوره؛ بل وتأطير قوى جديدة تضمن عافيته لفترات زمنية طويلة مستقبلًا.

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية