ثورة ٢٦ سبتمبر واعلان قيام الجمهورية

الإعدامات الميدانية في غزة... "الممر الآمن" مصيدة لاعتقال الفلسطينيين وتصفيتهم
يوثق هذا التحقيق الذي نشرته صحيفة "العربي الجديد" جرائم حرب وإعدامات ميدانية واعتقالات على طول "الممر الآمن" الذي أعلنه جيش الاحتلال، والذي يعتمد هذه السياسة الممنهجة ضد الغزيين الذين قتلهم خلال طريق النزوح ومنع مرافقيهم من الوصول إلى جثامينهم.
 
تسيطر مشاعر اضطراب ما بعد الصدمة على الخمسيني الغزي محمد عاشور، منذ وصوله إلى مدرسة مخصصة لإيواء النازحين بمحافظة رفح جنوبيّ القطاع، ولا يغادر مخيلته هولُ مشهد إعدام جنود الاحتلال الإسرائيلي لنازحين عزّل بالقرب منه، خلال طريقه هو وعائلته وجيرانهم إلى الجنوب عبر شارع صلاح الدين، بحثاً عن مأوى من القصف الإسرائيلي المتواصل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
 
ولدى الوصول إلى ما يطلق عليه "الممر الآمن" جنوبيّ وادي غزة ظهر التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، طلب منهم جندي إسرائيلي يتحدث العربية بركاكة السير باتجاه ممر يؤدي إلى غرفة متنقلة مليئة بالكاميرات وأجهزة الكمبيوتر، وبعد خروجهم أمرهم بالتوقف، وطلب من شخصين، أحدهما ملتحٍ، التقدم نحو الدبابة، وفحص بطاقاتهما الشخصية، ثم طلب منهما خلع ملابسهما العلوية، وأطلق عليهما النار فجأةً، وأكمل "ضرب النار في الهواء لإجبار النازحين الآخرين على الابتعاد والمضي في طريقهم".
 
وليست هذه المرة الأولى التي يعدم فيها جنود الاحتلال مدنيين أثناء نزوحهم نحو الجنوب، إذ وثق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة 130 بلاغاً حول وجود جثث شهداء ملقاة في 3 طرق جنوبي مدينة غزة يسلكها النازحون في أثناء انتقالهم، وهي شارع الرشيد الساحلي الممتد على ساحل البحر، وشارع رقم 10، وفي طريق صلاح الدين، منهم عائلات كاملة أُبيدَت، وهؤلاء بحسب رئيس المكتب سلامة معروف، أُعدِموا بدم بارد، إما عبر إطلاق النار عليهم وهم يمشون على الأقدام، وإما عبر استهداف مركباتهم بالقذائف.
 
 
إعدام على الطريق
يجبر الاحتلال النازحين على قطع مسافة تزيد على 12 كيلومتراً سيراً على الأقدام، من غرب مدينة غزة حتى مخيم النصيرات وسط القطاع، مروراً بالمناطق التي تسيطر عليها دبابات وآليات عسكرية إسرائيلية، في طريقهم إلى مدن جنوبيّ القطاع ومخيماته، التي تكتظ منازلها ومراكز الإيواء فيها بمئات الآلاف من النازحين. وبحسب إفادات 11 من النازحين الذين التقاهم "العربي الجديد"، جهز جيش الاحتلال كبائن وحواجز بكاميرات بمعدات رصد للتعرف إلى الوجوه.
 
ووفقاً لما رصده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في تحديثه المنشور بتاريخ 14 نوفمبر 2023، فإن الجيش الإسرائيلي ضغط على سكان شماليّ غزة ليتوجهوا نحو الجنوب عبر الممر المخصص على طول طريق المرور الرئيسي، وهو شارع صلاح الدين.
 
ويصف ستة نازحين، الطريق بأنه "مليء بالخوف والرعب"، بسبب القصف يميناً ويساراً وإجبار الجنود لهم على المرور من الحجرات والكبائن المليئة بالأجهزة والكاميرات، ووضع عوائق على الأرض عند المخارج لإبطاء حركة الناس وإيقاف بعض الأشخاص، والتدقيق في هوياتهم، ليعتقلهم جنود الاحتلال أو يُعدموهم، كما تقول العشرينية أمل ناصر، والثلاثيني عبد الله نصر، اللذين شاهدا اعتقال 12 مواطناً، معظمهم شبان.
 
وفوجئ بعض النازحين بإطلاق النار والقصف بعدما دعاهم الجنود للتقدم إلى الأمام، كما يقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل ثوابتة، موضحاً أن بعضهم ظلت جثثهم في مكانها، وآخرون استطاع ذووهم إسعافهم إلى مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط القطاع.
 
ودوّن المكتب الإعلامي شهادات مروعة عن إعدامات بدم بارد في تلك المناطق، ومنها إعدام السبعيني بشير حجي من سكان حيّ الزيتون في مدينة غزة، الذي استخدم جنود الاحتلال صورته للترويج لـ"أكذوبة الممر الآمن" في أثناء نزوحه نحو الجنوب في 10 نوفمبر الجاري، إذ التقط أحد الجنود صورة برفقته يتظاهر فيها بمساعدته على قطع الطريق، وبعدها مباشرة قتلوه برصاصة في رأسه، وأخرى في ظهره، كما تؤكد حفيدته هالة حجي، التي عبّرت عن ألمها قائلة: "جدّي مات وهو متعب وجائع وعطِش".
 
شاهد الستيني إبراهيم عبد العاطي ظهر الثالث عشر من الشهر الجاري، دبابة إسرائيلية تدهس شابيْن قرب مستشفى القدس المحاصر، قائلاً لـ"العربي الجديد": "كان العشرات يسيرون في طريق النزوح من غزة، وفجأة انطلقت دبابة بصورة مفاجأة تجاه شابين، ودهستهما بجنازيرها، ثم تراجعت، وسط ذهول المارة، ممن منعوا من الاقتراب منهما".
 
ويعتبر الأهالي مَن فقدت آثارهم خلال نزوحهم نحو الجنوب في عداد الشهداء، ومن بينهم العروسان إيمان أحمد السيد، ومعتز أحمد لبد، اللذان فُقدا في الثاني من الشهر الجاري، بعد أن استقلا مركبة وحاولا النزوح إلى مدينة دير البلح، عبر الممر الآمن، لكن فُقد الاتصال بهما بعد ساعة من مغادرتهما، وفق ما روته الأسرة لـ"العربي الجديد"، مرجحة أنهما استشهدا، خصوصاً بعد تلقي شهادات تفيد باستهداف مركبتهما بالقذائف.
 
والحال ذاته مع المسنّ نصر الدين كحيل، الذي تعرض وعائلته لإطلاق نار مباشر من دبابة إسرائيلية قرب مفترق الشفاء، وشوهد يسقط أرضاً، بعدها فقدت آثاره، ويعتقد أن جثامينهم موجودة مع عشرات الجثامين على طول شارع الرشيد، بحسب توثيق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
 
ويتطابق ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" مع ما يؤكده المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في تقريره بتاريخ 13 نوفمبر 2023 بعنوان "إسرائيل تعدم عشرات الفلسطينيين في ممرات النزوح من غزة وشمالها"، والذي وثق استمرار إعدام فلسطينيين خلال نزوحهم من مدينة غزة وشمالها باتجاه الجنوب، على الرغم من عدم تشكيلهم أية خطورة على الجيش، وجرت عمليات قتل مماثلة بحق نازحين داخل مدينة غزة وشمالها لدى محاولتهم الخروج من مستشفيات ومدارس ومقر لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بعد أن لجأوا إلى تلك الأماكن للاحتماء.
 
وبحسب شهود عيان، ينقل التقرير إفاداتهم، قُتل شابان وأُصيب خمسة آخرون بجروح خلال نزوحهم في ثلاث مجموعات متتالية في شارع الوحدة الرئيسي، بعد وقت قصير من خروجهم من مجمع الشفاء الطبي، وكما يقول مسؤولون في إدارة المجمع الطبي، فإنهم تلقوا اتصالات هاتفية تهدد بضرورة إخلاء الأطقم الطبية والنازحين عبر الممر الآمن، وعند استجابتهم لذلك، أطلق عليهم الجيش الإسرائيلي النار، وجثثهم توزعت في محيط المجمع.
 
 وتكررت الحادثة نفسها في 11 نوفمبر، عند محاولة عشرات النازحين من النساء والأطفال والمسنين إخلاء مستشفى النصر للأطفال، وهم يرفعون رايات بيضاء، إلا أنّ النار أُطلقت عليهم ليعودوا أدراجهم إلى داخل المستشفى.
 
وواجه الغزيون الذين كانوا يحاولون الاحتماء بالكنائس المصير ذاته، وهو ما حصل مع إلهام فرح، التي أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي النار عليها وأصيبت في ساقها في 12 نوفمبر الجاري، خارج كنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة، حين كانت تبحث عن مأوى في الكنيسة هرباً من القصف الإسرائيلي المتواصل، وبعد إصابتها تُركت تنزف، ولم يتمكن الموجودون في الكنيسة من مساعدتها بسبب شدة القصف.
 
"باتت عمليات الإعدام الميدانية التي ينفذها جنود الاحتلال سلوكاً متكرراً بشكل منهجي، وهي مسؤولية مشتركة للجنود والهيئات القيادية العليا وصانعي السياسات من جهة أخرى. فقد دأب الاحتلال على استهداف كل ما هو فلسطيني واعتبره هدفاً مشروعاً، وهو ما يشكل جزءاً من إرهاب الدولة المنظم، ويخالف قواعد الأسلحة المستخدمة في الجيوش النظامية، التي تقضي بأن يصرخ الجندي في حالات الخطر الداهم باللغة التي يفهمها الشخص لجذب انتباهه؛ وإذا استمر في الاقتراب وشكل خطراً عليه، أطلق الرصاص في الهواء لتخويفه؛ وإن لم ينتهِ الخطر الجسيم حينها، يمكن للجندي أن يطلق النار على قدميه لشلّ حركته فقط. ويجب عليه تقديم المساعدة الطبية للمصابين، ما يجعل عمليات الإعدام الميدانية التي ينفذها جنود الاحتلال دون أي خطر عليهم وفي ظل قدرتهم على تحييد الجرحى بسهولة بالغة، مجرد انتهاك للقانون الدولي الإنساني دون مراعاة مبادئ الضرورة"، بحسب تقرير صدر بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 2021 عن مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية "شمس" (مؤسسة أهلية فلسطينية)، بعنوان "إسرائيل تُشرع عمليات الإعدام الميداني للمدنيين الفلسطينيين، وتوسع نطاقها المستهدف، فيما يرتكب الجنود جرائم دون عقاب".
 
ووثق المركز 18 حالة إعدام ميداني، خلال عامي 2021 و2020 على يد جنود الاحتلال دون تقديم أحد إلى محاكمة جدية، حيث أُغلقت غالبية هذه القضايا، لأن البيانات التي جُمعت لا تبرر اتخاذ إجراءات قانونية، على الرغم من أن العديد من الضحايا كانوا من الأطفال والمراهقين، وأن مقاطع الفيديو في بعض الحالات وثّقت عمليات إعدام متعمدة.
 
ولا تُعَدّ سياسة الإعدام التي تطبقها إسرائيل في هذه الحرب وما سبقها أمراً جديداً، بل هي "أسلوب دموي قديم طبقه الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين منذ عقود"، كما جاء في بيان صادر عن "أوتشا" في ديسمبر 2007، تحت عنوان "إسرائيل/الأراضي الفلسطينية المحتلة: الإعدام خارج نطاق القضاء"، مشيراً إلى أن قائمة ضحايا هذه الممارسة طويلة جداً، ولجأت دولة الاحتلال إلى تطبيق سياسة التصفية والإعدام الميداني بقوة خلال انتفاضة الأقصى عام 2000، وتشهد هذه الممارسات تصعيداً مستمراً منذ ذلك الحين.
 
ويشكل إصرار إسرائيل على مواصلة سياسة القتل هذه وتخويف المدنيين الفلسطينيين انتهاكاً خطيراً للمادتين 27 و38 من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب. ووفقاً لقانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، يحق للفلسطينيين التمتع بحقوق كبيرة تهدف إلى حمايتهم من إراقة الدماء غير الضرورية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي يومياً.
 
و"تعتقل القوّات الإسرائيلية المُهجّرين عبر نقطة تفتيش مزودة بنظام مراقبة، وفضلاً عن ذلك، تعرّض المُهجّرون للتفتيش العاري والضرب وغيرها من أشكال العنف حسب إفاداتهم" التي وثقتها "أوتشا" في 14 نوفمبر الجاري، ويؤكد ثوابتة ما سبق، واصفاً الممر الآمن بأنه "مصيدة إسرائيلية لقتل الفلسطينيين واعتقالهم"، إذ عمد الاحتلال إلى إقامة هذه الكبائن والحجرات ونصب كاميرات للتعرف إلى الوجوه، بينما يستوقف ضباط "الشاباك" (الاستخبارات الداخلية) الشبان ويفتشونهم، مشيراً إلى تلقي المكتب 180 بلاغاً حول اعتقال مدنيين في أثناء نزوحهم عبر الممر الآمن، أمام أقاربهم ومعارفهم، وهو ما يؤكده ثلاثة نازحين، من بينهم الخمسيني أحمد مطر، الذي أكد أنه شهد على تفتيش شبان واستجوابهم، وبعضهم اعتُقِل، وآخرون أُعدِموا، وتتطابق إفادته مع النازح محمود صبح، الذي شاهد إعدام مواطنين، واعتقال سبعة آخرين في الرابع عشر من الشهر الجاري، غربيّ وادي غزة، أي المنطقة التي أُعلنت أنها ممر آمن.
 
ويعتمد جيش الاحتلال على "منظومة الذئب الأزرق"، القائمة على كاميرات متطورة مخصصة للتعرف على الوجوه، وهي مزودة بتقنيات محوسبة تعتبر بمثابة حاسوب متنقل، يتم دعمها بقاعدة بيانات تضم آلاف الصور لأشخاص وبياناتهم مأخوذة من السجل المدني الفلسطيني، وبعد أن تلتقط كاميرات عالية الدقة صورة للشخص المستهدف، تُعالج، ويتم البحث عنها لمقارنتها بقاعدة البيانات في ذاكرة الحاسوب، وخلال ثوان يحدد هوية الشخص، ومدى خطورته من المنظور الإسرائيلي، ونوعية الإجراء الذي سيُتخذ بحقه، سواء تركه، أو اعتقاله، أو قتله، وفق توضيح المتخصص في أمن المعلومات وتكنولوجيا البرمجيات الاستاذ بكلية العلوم والتكنولوجيا بغزة، عبد الفتاح الفرّا.
 
ووظف جيش الاحتلال هذه المنظومة صباح الحادي عشر من نوفمبر الجاري حين داهمت دباباته المتمركزة غرب مدينة غزة، مدرسة ذكور غزة الجديدة في حي الرمال غرب المدينة، والتي تحولت خلال العدوان إلى مركز إيواء للنازحين، وحاصرت أكثر من 1500 نازح كانوا فيها، وطلبوا من الشبان الخروج إلى الساحة، والمرور من أمام كاميرا كبيرة وضعوها في الوسط، وكل من جرت تسميتهم بعد ذلك رُبطت أيديهم إلى الخلف بأصفاد بلاستيكية، وعُصبت أعينهم، ونقلوهم إلى مدرعات، بعد تفتيشهم جسدياً، كما تروي لـ"العربي الجديد" النازحة التي تواجدت في المدرسة، منى إسماعيل.
 
وتكرر الأمر في مجمع الشفاء الطبي وفق إفادة الثوابتة والمتحدث باسم وزارة الصحة أشرف القدرة لـ"العربي الجديد"، عندما اقتحمه جنود الاحتلال في 15 نوفمبر الجاري، وجمعوا النازحين والأطقم الطبية وكذلك مرافقي المرضى في ساحة المستشفى، وأجبروهم على المرور من أمام كاميرات، وتلا ذلك اعتقال 100 شخص منهم.
 
(العربي الجديد)

أقراء أيضاً

التعليقات

ممارسات أدت إلى قرار البنك المركزي اليمني في عدن.


أخبار مميزة

مساحة اعلانية

رغم الحرب التي تشهدها اليمن، إلا أن عيد الأضحى والطقوس المرتبطة به ما زالت موجودة وتحظى بأهمية كبيرة بين الناس في اليمن.