الحياة بالموت!!
يدلفُ اليمنيون سنة جديدةً، ليست مغايرة للسنوات العشر، التي مضت، والتي لطالما حلُم اليمنيون على رأس كل واحدة منها أن تتبدَّل حياتهم إلى الأفضل من الخوف إلى الأمن، ومن الحرب إلى السلام، ومن المرض إلى الصحة، ومن الجهل إلى العلم.. ولكن دون جدوى.
قطف الموت -خلال سنوات الحرب- أجمل اليمنيين وأنبلهم وأنقاهم، وانتقى منهم أجود العقول والقلوب والنفوس بلا هوادة، أو لحظات لالتقاط الأنفاس.
وكان لجامعة صنعاء، التي كانت نافذة اليمن على العالم، ونافذة العالم على اليمن، أكبر نصيب مع الموت والمرض والتجويع والإقالات والتهميش، وخاصة أولئك الذين فضَّلوا البقاء لخدمة الوطن بدل الرحيل إلى دول النفط من حملة الدكتوراة والأستاذية بأنواعها، وتخصصاتها المختلفة في شتى مجالات العلوم والمعرفة والثقافات.
لقد واجهت هذه الكوكبة من اليمنيين الرائعين والعقول الجبَّارة المنيرة التهميش والإقصاء، وقطع سبل الحياة، المتمثلة بالرواتب، والعيش على الكفاف، وإحلال بدائل لهم في سلَّم التعليم الجامعي، الذي لم يكن يصل إليه إلا المؤهلون بجدارة واستحقاق، لمجرد انتماء هذه البدائل إلى تلك السلالة التي تدَّعي الطهارة والقداسة المزعومة.
لقد تمَّ طرد عدد كبير من أساتذة الجامعة الحقيقيين من مساكنهم بدون رحمة، أو خجل، أو تهتز لهم شعرة مقدّسة، وقد عاش كثيرون من أساتذة الجامعة وقتاً صعباً ولحظات بائسة، وليالي باردة كالثلج وهم يغادرون الجدران الأربعة، التي كانت تؤويهم وعائلاتهم وأطفالهم وكتبهم.
هذه شريحة من أهم الشرائح الاجتماعية والعلمية في اليمن، والآن لنقسْ ذلك على كل فئات المجتمع بكل أطيافه وشرائحه، التي تم تدميرها تدميراً ممنهجاً، وتحويل كافة كوادر الدولة إلى متسولين للسلل الغذائية على أبواب مشرفي السلالة، أو على أرصفة ومقاهي المدن.
بالضبط، كما كان يحدث في زمن الإمامة، حيث يقطع المواطن المسكين أميالا طويلة بين القرى والمدن من أجل التقديم إلى أفراد من السلالة يملكون كل شيء للحصول على كيس من الحبوب؛ ليسكت جوع أطفاله، أو الحصول على أمر بإنصافه من عساكر الحلالي، وغير ذلك كثيرون في طول البلاد وعرضها.
قبل نهاية السنة، كان هناك موظف، أو غير موظف، يرتدي أبهى الثياب، ويعتسب جنبية فخمة، ويلف رأسه بمشَّدة، أو سماطة "رشوان"، ويزاحم لتصوير "أمر" من الوزير السلالي بصرف أربع سلل غذائية.
ما نود قوله هنا إن كثيرين قد تماهوا مع هذا الوضع الرخيص البشع، وأصبح تسول السلل الغذائية أمرا فوق العادي؛ لأن "من يهن يسهل الهوان عليه"، وها نحن نشاهد أمامنا جهاراً نهاراً نصف الشعب ينتظر نصف راتب بين الأعياد، وفي المناسبات الطائفية، وهناك جيل من الخانعين ينتظرون، منذ شهور، حافزاً، أو نصف حافز، إن هذا كثير على هذا الشعب، الذي كان شعباً مارداً أبياً شرسا، طوال تاريخه الحضاري.
لكن هناك من اليمنيين الأحرار، الذين يقاومون هذا البؤس والتجويع والتجهيل، بكل طرق المقاومة المادية والمعنوية، لكن السوْال هو: كم سيظل هولاء يقاومون وسط هذا القطيع، الذي يتعاظم كالهشيم؟ وكم سيظلون يقاومون وسط هذا الليل الحالك السواد والنهارات الحزينة، والأيام المتخنة بالموت والجلطات، أو الحياة بكرامة وشرف.
لا يوجد هناك بصيص أمل في نهاية هذا النفق المُظلم، الذي أُدخِلَ فيه اليمنيون بفعل فاعل حاقد، نفق مظلم طويل شمالا وجنوباً، في جزره وشواطئه، في سهوله وجباله، في مدنه وقُراه، في مدارسه وجامعاته ومستشفياته ومراكزه الصحية، في أعلى الهرم وأسفله.
لا يوجد هنا سوى الموت يحلِّق بجناحيه ثم يضرب ضربته، ويمضي، وهكذا دواليك، لم تعد هناك منافذ لليمنيين تؤدي إلى الحياة والأمل، وكل المنافذ تؤدي إلى الموت في كل الأحوال، كثيرون أسعفتهم حظوظهم ورحلوا باكين مساقط رؤوسهم وشغاف قلوبهم إلى حياة جديدة على أمل العودة، وهناك أكثر منهم من رحلوا من هذا اليمن البائس بكل هدوء ونبل تاركين في كل اليمنيين غصة في الحلق، ودموعا في المآقي والأحداق، وحزناً يكفي اليمنيين جميعاً...
نقلاً عن بلقيس
التعليقات