عن فائز الدويري وهو يحلل
يحلل الدويري وقدماه في الأرض، لا تخدعه قواميسهم العسكرية، ولا يُسلم لغته لطرائقهم في القول.
يحلل انطلاقاً من قلب المحارب الحي، لكأنّه يقول: المقاوم وحده من يحق له اختراع الطريقة المناسبة للحديث.
يصغي الدويري لأقدام المحاربين، ويمزج المعلومة بالوصف، وتكون الخلاصة متناغمة مع لغة البطولة وهي تعيد تشكيل المستقبل كما تقرره روح المقاومين في الميدان.
عبقرية الدويري أنّه لا يفصل القيمة الأخلاقية عن الفعل، ولا يحيل التضحية لأرقام بلا معنى.
كل قطرة دم في قاموسه تكتسب معناها لمجرد إقدامها على المجابهة. شجاعة الضعيف انتصار، وأدنى رجفة في ساق العدو هزيمة. هذا منطق الدويري، منطق الخبير بحكمة الحياة، وليس مجرد محلل فحسب.
إنه يعيد ترميم الطعنة الأخلاقية، التي تسبب بها العالم في الضمير البشري، لهذا يرفع المقاتل عن أرضه إلى رتبة محارب أغريقي كامل المجد، ويعرف كيف يمنحه المعنى الجدير به.
ثلاثة أشهر ونصف، والرجل ممسك بمساحة زمنية واسعة في شاشة الجزيرة. لو أنّه محلل ميكانيكي يكتفي بحديث ميّت عن الواقع، لما وجد ما يقوله طوال هذه الفترة. لكنه عقل وروح، يتمتع بلياقة ذهنية لرصد الحدث، وبعاطفة حيوية تهب الصورة معنى، وتبعث حياة مضاعفة في كل جهد يبذله الأبطال المدافعون عن أرضهم.
معركة اليوم، ليست حدثا عسكريا يتواجه فيها جيش محتل مع مقاومين لا يملكون سوى البندقية، وذخيرة بسيطة يواجهونه بها. هي معركة وجودية شاملة، معركة أمة كاملة، تتصدّر فيها غزة جبهة الدفاع عن وجود عربي يُراد له أن يبقى خاملاً وبلا قدرة على المجابهة.
ولأنها كذلك، فنحن نحتاج إلى أبطال في كافة الحبهات، أبطال يتمتعون بحساسية عالية، تجاه الكلمة والدلالة، ويعرفون كيف يتحررون من القاموس الغربي، الذي أراد حكّام " روما" أن يفرضوه علينا، باسم العقلانية. أرادوا أن يقولوا لنا أي مواجهة بيننا وبينكم مصيرها الهزيمة، فكيف يواجه مجاميع من البشر المجردين من أي سلاح نوعي جيشاً عالي التدريب، ومسلّحا بأحدث تكنولوجيا العصر. أوليست النتيجة هزيمة محسومة وبلا نقاش..؟
هنا، يأتي الدويري يرصد ويحلل، وفي فمه لغة جديدة. إنه ليس محللا عسكريا لا يفقه سوى مفردات الكتب المدرسية، بل هو قبل ذلك فرد من طينة هذه الأمة، وناطق شديد النباهة، باسم أبطال استثنائيين يواجهون "المخرز بالكف"، كما وصفهم أبو عبيدة.
الدويري يمتاز بيقظة ذهنية عالية، حساسية وجدانية مكّنته من التلاحم مع الحدث الاستثنائي في غزة، وابتداع معانٍ متصلة بالحدث، معانٍ تمزج البُعد الواقعي بالمعنى التاريخي، لغة تُكيّف الفعل بدلالة ثرية، وترفعه إلى مصافِ النصر الكبير. حيث تسلل مقاتل بثبات وشجاعة، ووضع قنبلة في دبابة العدو، فعل لا يقل عظمة عن كسر لواء كامل في الجيش.
هناك حق وهناك قوة، هناك جندي محتلّ، خريج كليات حربية، تسنده البارجات، وهناك مقاتل يصنع ذخيرته من العدم، وينجح في تفجير أحدث دبابات الجيوش. هناك جندي يصحو من النوع فزعاً ويُطلق النيران على الجدران، وهناك مقاوم يواجه الموت ببسالة وطمأنينة، وكأنه ذاهب يتعبَّد. أوليس في ذلك معنى بشري حقيقي، وفي أعلى حالة من الوضوح، يقول الدويري: بلى، ويشرح ذلك ببراعة.
الخلاصة:
الدويري لا يبيع الأوهام للناس، ولا يُضللهم عن واقع المعركة. هو يُعيد ضبط مفاهيم النصر والهزيمة، يزيح دلالات الربح والخسارة بمفهومها المادي، ويستبدلها بمفاهيم القيمة، وميزان الجهد الشخصي. يستحضر فوارق التجهيزات، ويُقيّم كل طرف انطلاقاً مما لديه، ومما يفترض به أن ينجزه.
لقد أوغلت الحضارة الغربية في تشويه مفاهيم ومعاني بشرية كثيرة، وبهذا اندثرت المعايير الأصلية في الحكم على الصفات البشرية، صار نجاح تلميذ حصل على أعلى المواصفات المعيشية وكافة التأهيلات المدرسية دليل نبوغ من نوع خاص، فيما تلميذ آخر في مكان قصي من الكوكب لم يحظ بتأهيل كافٍ، لكنه مع ذلك في جوهره ذو قدرات لا تقل قابلية للنجاح عن نظيره في أرقى مكان بالعالم، لكنه يوصف بكونه فاشلا وغبيا، فقط لأن الأقدار الوجودية أتت به في هذه المنطقة، وليس تلك.
قياساً على ما سبق، أراد الغرب أن يقول لنا إن الجندي الصهيوني، الذي حظي بأدق الخطط التدريبية، وتعلّم في أكثر الكليات كفاءة، وعاش في ظروف شديدة الترتيب، وخضع لتدريبات فائقة التعقيد، هو أكثر عبقرية من مقاتل لم يحظ بشيء مما حظي به خصمه.
أرادوا القول إن النجاح والنصر مسألة حتمية بالنسبة لجيش الصهيانة، لكن المقاوم في غزة أبطل فرضياتهم، حتى مع فارق التسلّح المهول، وكان الدويري محللا نبيهـاً وهو يرصد الحدث، يصفه بدقة، لكنه إلى جانب ذلك لا يتخطَّى فعل البطولة دون أن يهبه حقه من المجد، وفي ذلك قمة المهنية والموضوعية، سواء أقرّت أكاديميتهم بذلك أم لا، فللدويري مدرسته الخاصة في التحليل، مدرسة تنتمي لأهل الأرض، ولا تخطئ في تقرير حقيقة ما يفعلون.
يحلل انطلاقاً من قلب المحارب الحي، لكأنّه يقول: المقاوم وحده من يحق له اختراع الطريقة المناسبة للحديث.
يصغي الدويري لأقدام المحاربين، ويمزج المعلومة بالوصف، وتكون الخلاصة متناغمة مع لغة البطولة وهي تعيد تشكيل المستقبل كما تقرره روح المقاومين في الميدان.
عبقرية الدويري أنّه لا يفصل القيمة الأخلاقية عن الفعل، ولا يحيل التضحية لأرقام بلا معنى.
كل قطرة دم في قاموسه تكتسب معناها لمجرد إقدامها على المجابهة. شجاعة الضعيف انتصار، وأدنى رجفة في ساق العدو هزيمة. هذا منطق الدويري، منطق الخبير بحكمة الحياة، وليس مجرد محلل فحسب.
إنه يعيد ترميم الطعنة الأخلاقية، التي تسبب بها العالم في الضمير البشري، لهذا يرفع المقاتل عن أرضه إلى رتبة محارب أغريقي كامل المجد، ويعرف كيف يمنحه المعنى الجدير به.
ثلاثة أشهر ونصف، والرجل ممسك بمساحة زمنية واسعة في شاشة الجزيرة. لو أنّه محلل ميكانيكي يكتفي بحديث ميّت عن الواقع، لما وجد ما يقوله طوال هذه الفترة. لكنه عقل وروح، يتمتع بلياقة ذهنية لرصد الحدث، وبعاطفة حيوية تهب الصورة معنى، وتبعث حياة مضاعفة في كل جهد يبذله الأبطال المدافعون عن أرضهم.
معركة اليوم، ليست حدثا عسكريا يتواجه فيها جيش محتل مع مقاومين لا يملكون سوى البندقية، وذخيرة بسيطة يواجهونه بها. هي معركة وجودية شاملة، معركة أمة كاملة، تتصدّر فيها غزة جبهة الدفاع عن وجود عربي يُراد له أن يبقى خاملاً وبلا قدرة على المجابهة.
ولأنها كذلك، فنحن نحتاج إلى أبطال في كافة الحبهات، أبطال يتمتعون بحساسية عالية، تجاه الكلمة والدلالة، ويعرفون كيف يتحررون من القاموس الغربي، الذي أراد حكّام " روما" أن يفرضوه علينا، باسم العقلانية. أرادوا أن يقولوا لنا أي مواجهة بيننا وبينكم مصيرها الهزيمة، فكيف يواجه مجاميع من البشر المجردين من أي سلاح نوعي جيشاً عالي التدريب، ومسلّحا بأحدث تكنولوجيا العصر. أوليست النتيجة هزيمة محسومة وبلا نقاش..؟
هنا، يأتي الدويري يرصد ويحلل، وفي فمه لغة جديدة. إنه ليس محللا عسكريا لا يفقه سوى مفردات الكتب المدرسية، بل هو قبل ذلك فرد من طينة هذه الأمة، وناطق شديد النباهة، باسم أبطال استثنائيين يواجهون "المخرز بالكف"، كما وصفهم أبو عبيدة.
الدويري يمتاز بيقظة ذهنية عالية، حساسية وجدانية مكّنته من التلاحم مع الحدث الاستثنائي في غزة، وابتداع معانٍ متصلة بالحدث، معانٍ تمزج البُعد الواقعي بالمعنى التاريخي، لغة تُكيّف الفعل بدلالة ثرية، وترفعه إلى مصافِ النصر الكبير. حيث تسلل مقاتل بثبات وشجاعة، ووضع قنبلة في دبابة العدو، فعل لا يقل عظمة عن كسر لواء كامل في الجيش.
هناك حق وهناك قوة، هناك جندي محتلّ، خريج كليات حربية، تسنده البارجات، وهناك مقاتل يصنع ذخيرته من العدم، وينجح في تفجير أحدث دبابات الجيوش. هناك جندي يصحو من النوع فزعاً ويُطلق النيران على الجدران، وهناك مقاوم يواجه الموت ببسالة وطمأنينة، وكأنه ذاهب يتعبَّد. أوليس في ذلك معنى بشري حقيقي، وفي أعلى حالة من الوضوح، يقول الدويري: بلى، ويشرح ذلك ببراعة.
الخلاصة:
الدويري لا يبيع الأوهام للناس، ولا يُضللهم عن واقع المعركة. هو يُعيد ضبط مفاهيم النصر والهزيمة، يزيح دلالات الربح والخسارة بمفهومها المادي، ويستبدلها بمفاهيم القيمة، وميزان الجهد الشخصي. يستحضر فوارق التجهيزات، ويُقيّم كل طرف انطلاقاً مما لديه، ومما يفترض به أن ينجزه.
لقد أوغلت الحضارة الغربية في تشويه مفاهيم ومعاني بشرية كثيرة، وبهذا اندثرت المعايير الأصلية في الحكم على الصفات البشرية، صار نجاح تلميذ حصل على أعلى المواصفات المعيشية وكافة التأهيلات المدرسية دليل نبوغ من نوع خاص، فيما تلميذ آخر في مكان قصي من الكوكب لم يحظ بتأهيل كافٍ، لكنه مع ذلك في جوهره ذو قدرات لا تقل قابلية للنجاح عن نظيره في أرقى مكان بالعالم، لكنه يوصف بكونه فاشلا وغبيا، فقط لأن الأقدار الوجودية أتت به في هذه المنطقة، وليس تلك.
قياساً على ما سبق، أراد الغرب أن يقول لنا إن الجندي الصهيوني، الذي حظي بأدق الخطط التدريبية، وتعلّم في أكثر الكليات كفاءة، وعاش في ظروف شديدة الترتيب، وخضع لتدريبات فائقة التعقيد، هو أكثر عبقرية من مقاتل لم يحظ بشيء مما حظي به خصمه.
أرادوا القول إن النجاح والنصر مسألة حتمية بالنسبة لجيش الصهيانة، لكن المقاوم في غزة أبطل فرضياتهم، حتى مع فارق التسلّح المهول، وكان الدويري محللا نبيهـاً وهو يرصد الحدث، يصفه بدقة، لكنه إلى جانب ذلك لا يتخطَّى فعل البطولة دون أن يهبه حقه من المجد، وفي ذلك قمة المهنية والموضوعية، سواء أقرّت أكاديميتهم بذلك أم لا، فللدويري مدرسته الخاصة في التحليل، مدرسة تنتمي لأهل الأرض، ولا تخطئ في تقرير حقيقة ما يفعلون.
التعليقات