الوجه الآخر لـ"باب المندب".. محطُّ أنظار العالم ويقتل سُكّانها إهمال الحكومات المتعاقبة


الساعة السابعة مساءً، على ضوء خافت من فانوسه العهيد، في منزله المصنوع من خشب جذوع الأشجار والمسقوف بسعف النخيل؛ يجلس الحاج عبدالله كداف (60 عاماً) يستمع للمذياع.

يختلط صوت المذيع مع قعقعة تصدر من حركة السرير الذي حاك الحاج عبدالله حباله بيديه المرتعشتين من سعف الدوم، يحاول تجاوز التشويش ويتبين ما يقدر على فهمه من أخبار صراع الدول العظمى حول باب المندب وعن مزاياه بكونه أحد أهم الممرات في العالم وبوابة بين الشرق والغرب.

لا يختلف حال الحاج "عبدالله كداف" عن حال 500 أسرة من أبناء قرية "باب المندب" في محافظة تعز، جنوب غربي اليمن، على مرمى حجر من خط الملاحة البحرية الدولية، وعلى بعد كيلوهات قليلة من ميناء المخا الشهير، حيث يعيشون في منازل خشبية تتسلل من ثقوبها الرياح، لا تخفف عنهم قساوة الحياة ولا تقيهم حر الصيف ولا لسعات البعوض.

يعد باب المندب أحد الممرات المائية ونقطة التقاء لقارتين ولعالمين في خط الملاحة الدولية وبحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية، فإن قرابة 10% من النفط المنقول بحرًا، يمر يوميًا عبر مضيق باب المندب، وأي اضطرابات تؤثر على هذا المضيق فينعكس على إمدادات الخام والمشتقات النفطية في أسواق الطاقة. وتشير بيانات منشورة على موقع "vessel tracking" المتتبع لحركة الملاحة العالمية، أن متوسط عدد القطع (سفن وقوارب) البحرية العابرة للمضيق سنويا بلغ نحو 22 ألف قطعة بحرية، أي قرابة 60 قطعة يوميا.

وتعيش الكتلة البشرية في قرية باب المندب واقعًا صعبًا لاسيما أنهم يمرون بظروف اقتصادية مريرة ويفتقرون لأبسط المقومات الأساسية، ويشكون من غياب تام للبنية التحتية، كالتعليم والصحة والماء، ولا أثر إيجابي لأهمية المكان على وجوه الأهالي وتفاصيل حياتهم اليومية، ناهيك عن أنهم مهددون بالخطر نتيجة الصراع المستمر في البحر الأحمر وخليج عدن.

وأجبرت الحرب عددًا كبيرًا من الطلبة والمعلمين في باب المندب على مغادرة المدرسة والتوجه نحو البحر والاصطياد لتأمين لقمة العيش وتوفير القوت اليومي لعائلاتهم، حيث شهدت مدرسة باب المندب المدرسة الوحيدة التي يدرس فيها طلاب وطالبات المنطقة من المرحلة الإبتدائية وحتى الثانوية تسربًا كبيرًا للطلاب خلال السنوات الأخيرة ويحكي أهالي المنطقة أن صفوف الثانوية باتت شبه فارغة من الطلاب وهو الأمر الذي تسبب في انحدار واضح للعملية التعليمية في المنطقة.

وكان الصندوق الاجتماعي للتنمية فرع تعز قد سجل 11 ألف حالة تسرب من الطلاب والطالبات من مدراسهم في مديريات ساحل تعز الأربع (المخا ـ موزع ـ الوازعية ـ ذوباب) في سنة 2022 فقط، ويشكلون 34% من إجمالي عدد الطلاب في 131 مدرسة في المديريات الأربع.

خيارات صعبة تواجه المعلمين في باب المندب، أولها الراتب الذي أصبح زهيدًا جدًا ولا يساوي شيئًا أمام متطلبات الحياة اليومية، فلا مدخول ينصفهم ويفيهم جهدهم وتعبهم، ولا مجال للاستغناء عن التدريس وسط الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد بشكل عام والمنطقة بشكل خاص، لذا لجأوا للذهاب إلى البحر ليؤمّنوا لقمة عيشهم، إلى جانب الدوام الضئيل والجزئي في التعليم.

ولم يكُ في وسع أولياء الأمور عمل شيء حيال أبنائهم وطلابهم الصغار (ممن هم في سن الابتدائية والأساسية)، إلا أن يُلحِقوهم بحلقات التحفيظ في بعض المساجد هناك، كنوع من المواساة لهم ولضمائرهم وليس في اليد حيلة أصلاً، أما الطلاب الكبار فتلتهمهم مهنة آبائهم وأجدادهم وهي الصيد والبحر وتطحنهم طوابير المشتقات النفطية لتمويل قوارب صيدهم ومصدر رزقهم الوحيد.

وعن الوضع الصحي في باب المندب، عبدالجبار الزحزوح ( 26 عاماً) كان آخر ضحايا تردي الوضع الصحي، ألم في عين عبدالجبار، جعله يذهب إلى الطبيب في العيادة الخاصة القريبة من منزله والذي يمتلك شهادة دبلوم مساعد طبيب، بدوره الطيب كتب له وصفة علاجية وهي عبارة عن قطرات للعين، ويحكي عبدالجبار أنه بدأ في استخدام العلاج لكن لاحظ أن عينه أصبحت بيضاء بالكامل، قرر عبدالجبار السفر إلى عدن وزيارة طبيب مختص حالًا، ليفاجئه الطيب في عدن بأن الوصفة التي كان يستخدمها هي وصفة علاجية للأذن.. ولم تك حالة عبدالجبار الأولى والأخيرة فوضع الصحة هناك متردٍ ومنهار وكل يوم وحالته تسوء أكثر.

أما الوحدة الصحية الحكومية الوحيدة في المنطقة فحدّث ولا حرج فلا كادر فيه سوى قابلتين، ولا أدوية إلا تلك التي تصرفها المنظمات لعلاج سوء التغذية للأطفال وغالبًا ما تنتهي بسبب سوء التخزين فلا تكييف في المخازن ولا مروحة عادية حتى، ومناخ المنطقة حار جدًا خاصة في أيام الصيف، ويسعف أهالي باب المندب مرضاهم نحو عدن جنوبًا عبر الطريق الساحلي المتآكل والذي يكاد يكون شبه منتهي، حيث يستغرق السفر ثلاث ساعات كاملة أو نحو الشمال المخا تحديدًا على بعد ساعتين سفر، أو إلى تعز المدينة أربع ساعات من أجل الوصول، وكلها خيارات صعبة في طرق محفرة ولا سبيل لهم غير السفر لساعات أو انتظار الموت البطيء في منازلهم..

وبالرغم أن بحر العرب عن يمينهم والبحر الأحمر عن شمالهم إلا أن سكان باب المندب يعيشون شحاً مستمراً في مياه الشرب وأزمات مياه يتوارثونها جيلاً بعد جيل، فلا مشروع مياه ولا محطة تحلية حتى الآن، ويرِد أهل باب المندب الماء من منطقة النابية النائية في محافظة لحج المحاذية لهم وعلى بعد خمسة وعشرين كيلو من باب المندب، ويشترون البرميل سعة الف لتر بسعر 8 الف ريال.

وفي منتصف شهر مارس من العام المنصرم كان طارق صالح عضو مجلس القيادة الرئاسي ومعه محافظ تعز نبيل شمسان قد أعلنا افتتاح محطة تحلية وهي المحطة الأولى في اليمن حد وصفهم لكن لم يتم تفعيلها حتى الآن!

قامت الجمهورية وتعاقب رؤساء وتقلبت الأوضاع ومنطقة باب المندب لم تعرف خدمة الكهرباء بعد، وبالرغم من أن المضيق قادر على توليد كهرباء تكفي اليمن من أقصاه إلى أدناه، يقول الأهالي إنه لم يصل من الكهرباء إلا الأسلاك والأعمدة فقط... وكان ذلك قبل اشتعال الحرب في اليمن، ووصلت أيضًا بضع مولدات كهربائية وظلت مطروحة في المنطقة للزينة فقط، إلى أن جاءت الحرب واختفت معها المولدات والأسلاك وبصيص الأمل.

يعد اصطياد الأسماك مصدر رزق رئيسي لحياة الأسر في باب المندب، حيث يذهب شباب المنطقة جلهم إلى البحر، وهي مهمة متوارثة وتعاقبت عليها الأجيال هناك، لكنها أصبحت مؤخرًا مهنة محاطة بالمعوقات والصعوبات، ولا حديث يدور في مجالس الصيادين إلا عن غلاء المشتقات النفطية فسعر جالون البترول سعة 20 لتر قرابة 30 الف ريال، وهو الأمر الذي يشغلهم ويزيدهم فوق معاناتهم معاناة أخرى.

وكلما كان القارب كبيرًا، كبُرت معه حجم الماكينة وهذا يساندهم في بلوغ أماكن قصوى في البحر واصطياد عدد كبير من الأسماك، لكن الماكينات الكبيرة تستنزفهم وتزيد من استهلاك البترول وهذا ما يؤرق حالهم مما دفع معظمهم إلى بيع قواربهم الكبيرة وشراء قوارب صغيرة بماكينات أصغر، والقوارب الصغيرة تستهلك كميات قليلة من البترول لكنها لا تبلغ المراد، وتقطع نصف مسافة القوارب الكبيرة، وكمية الأسماك التي يمكنها حملها لا تلبي طموحات واحتياجات الصيادين وهي مشكلة بحد ذاتها.

يقول إلياس وهو صياد من ابناء المنقطة "إن كنت ستذهب إلى بحر القرن الأفريقي ستجد صيدًا يكفي حاجتك، لكن ذلك لا يحدث إلا في حال كنت تمتلك قاربًا كبيرًا" مشيرًا إلى أن نفقات القارب الواحد في الرحلة الواحدة تصل إلى قرابة سبعمئة أو ثمانمئة ألف وأحيانًا قد تبلغ المليون ريال، أما القارب الصغير فيستهلك من مئتي الف إلى أربعمئة ألف ريال وهذا ما جعل الصيادين يشترون قوارب صغيرة لكنها تذهب إلى مسافات قريبة، لا تفي بالغرض، لكنهم مضطرون للهروب من الموت جوعًا.

ويشتد الخناق على الصيادين يومًا بعد آخر حيث تواصل قوات التحالف منعهم من الاقتراب من جزيرة ميون ليلاً كونها منطقة عسكرية تستخدمها الإمارات قاعدة عسكرية مذ بداية الحرب بالإضافة إلى تصاعد حدة الصراع في المنطقة إثر استهداف الحوثيين للناقلات التي تمر عبر المضيق، ناهيك عن غلاء المشتقات النفطية والذي لازمهم طوال حياتهم

وهو الأمر الذي جعلهم يقللون من رحلات الصيد اليومية أو الدورية ولا يقتربون من خط الملاحة الدولية؛ لذا شرع بعضهم في التفكير بالانخراط في القوات المتمركزة في المنطقة ليتسنى لهم الجمع بين الاصطياد نهارًا والذهاب إلى المعسكرات ليلاً من أجل تأمين مصادر الدخل والحصول على لقمة عيش كريمة حتى ولو كانت غير آمنة.

أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية