سيرة المفكر.. وقود الانطلاق!
في ليلةٍ شاتيةٍ تناولنا مناقشةَ كتابٍ في إحدى النَّوادي القرائية؛ حولَ سبعِ شخصياتٍ فكريةٍ من الشَّرقِ والغرب، كانَ جلُّ الحاضرينَ طلابًا في مقتبلِ العهدِ الجامعي، وجميعهم للمرةِ الأولى يسمعونَ عن شخصياتٍ مثل: "علي عزت بيجوفيتش، ومالك بن نبي، ومحمد أسد، ودراز، ومحمد إقبال، والفاروقي، ومحمد حميد الدين". وهم من خيرةِ العقولِ المسلمةِ في القرنِ العشرين، كما وصفهم بذلكَ الشَّنقيطي.
أثناءَ المناقشة، وبُعيْدَ الانتهاء منها، لمحتُ التأثرَ البالغ في عيونهم، اتضحَ لي حينها أنَّ الشَّباب - اليوم- بحاجةٍ للوقوفِ على أخبارِ شخصياتٍ قريبةِ العهد، خاضتْ جزءًا من التحدياتِ الحديثةِ التي نمرُّ بها، مارستِ التنظيرَ والتطبيق، تحلت بالشَّجاعة، واستطاعت أن تحققَ في مسيرتها النِّضالية ما تفخرُ به صفحةُ الإنسانِ على امتدادِ العمر!
كما إنهم بحاجةٍ إلى شخصياتٍ لا تُصنَّفُ - مثلًا - في خانةِ رجلِ الدِّين، بصورته وشكله التقليديِّ في الأذهان، وإنما برجلِ فكر، هضمَ الموروث والفكر الغربي، يتقنُ لغاتٍ متعددة، حاد النظر، بعيد الغور، واسع الاطلاع، يتحدثُ عن قضايا الإنسان، والإلحاد، والفكر والدِّين، والأدب والفن، والنهضة ومشكلاتِ الحضارة، بطريقةٍ مغايرةٍ للأسلوبِ الوعظيِّ المعتاد!
وفي ظلِّ موجاتِ الانحدار الهادرِ إلى دعواتِ العبثِ والإلحادِ بوعيٍ أو بدونه؛ تقفُ سيرة بعضِ رجالاتِ الفكر عاصمًا وطوقًا للنجاة لـ كثيرٍ من الشَّباب؛ من الوقوعِ في براثن الإلحادِ والضياع؛ ويتم ذلكَ من خلالِ الغوصِ في التعرف على سيرتهم، ومواقفهم، ومشاريعهم، والإنجازات الكبرى التي حققوها؛ وقد قضوا شطرًا من أعمارهم في الغرب، ونهلوا من علومه ومعارفه وثقافته، ومع ذلك تجدهم يعتزونَ بقيمهم، ويشيدونَ بإسلامهم، وينتصرونَ لحضارتهم، ليسَ عن عاطفةٍ كما يفعلُ بعضنا، وإنما عن علمٍ ودرايةٍ وتحقق، وهنا تقفُ الشخصية بكاملِ حمولتها المعرفية والفكرية، ومسيرتها الشخصية؛ تقفُ كحائطِ صدٍّ من الوقوعِ في زللِ الوهم الكبير، والانصياع لصوتِ التغريب، والتحلل من قيمِ الإسلامِ والعروبة.
ولهذا، تتردد على كثيرٍ من ألسنةِ وكتابات رجال الفكر؛ ابتداءً من بيجوفيتش إلى المسيري؛ البعد عن الاغترارِ ببريقِ الحضارة الغربية، والاقتداء بالرجلِ الغربي. رغم مكوثهم الطويل بينَ ظهرانيهم، بل نجد أنهم مارسوا أسس التفكير، وأعملوا عقولهم في نقد الحضارة الغريبة، ومارسوا الاستغراب على منوالِ الاستشراق، لكثيرٍ من الأطروحاتِ الفكرية والفلسفية.. ولم يمنعهم البحث وممارسة النقد، ذكر محاسن الحضارة الغربية، والإشادة بها؛ اقتضاءً لمبدأ الإنصاف.. ودعوة للاستفادةِ منهم؛ إذ لا تقومُ الأمم والحضارات إلا بالتراكم المعرفي، والتدافع السُّنني!
استوقفتني كثيرًا مقولة " إقبال" الفيلسوف، شاعرُ الإسلام، الحارس اليقظ للقيمِ الكبرى، وإني أراها تنزل بردًا وسلامًا على قلبِ شابٍ تقلبتْ به الحياة، ومرغته الأوجاع، وتنازعته نفسه إلى التمرد، وتنزع كل ذرة في كيانه إلى التخلصِ من الموروث الذي بدا لهم سبب التخلف، والحروب، و الأزمات، والضياع الذي تمرُّ به أمتنا.. يقولُ إقبال:
" لم يستطعْ بريقُ الحضارةِ الغربية أن يبهرَ لُبِّي، ويعشي بصري، فقد اكتحلتْ بإثمدِ المدينة".
قالها، وقد أمضى هناكَ عقدًا من الزمن أو يزيد، لكنه أحكمَ زمام العقل، وألزمَ نزوات العاطفة، واعتصمَ بضياءِ اليقين، ووهجَ الإيمان، ونظرَ إلى الحقيقة بعيدًا عن التشوه المعرفي، والحالة الانهزامية التي تسهمُ في تدميرِ مضاداتِ القيم، وتفضي في الانتقال إلى فضاءِ المجهول، ولو أدى الأمر إلى التحللِ من ربقةِ الدِّين، والتاريخ، ولعن الجغرافيا، لهثًا وراءَ بريقِ سطوةِ المدنيةٍ الغالبة!
التعليقات