أفغانستان بين عوامل الانتصار الطالباني ودوافع الانسحاب الأمريكي!
هل يمثل ما حدث في أفغانستان انتصارا عظيما لحركة طالبان؟ أم هو انسحاب أمريكي وفقا لاستراتيجية جديدة لتشويه الإسلام والمكر بالإسلاميين ودفعهم نحو ساحات تضرهم ولا تنفعهم؟
هناك اختلاف حاد بين المثقفين والمحللين من الإسلاميين وغيرهم، إذ احتفى البعض بهذا النصر واعتبره بداية لموجة انتصار الإسلام في هذا القرن واستعادة أمجاده التليدة، معتقدين أن هناك مشروع حضاري في طريقه للتكون وتقوده تركيا وباكستان وماليزيا، وأن أفغانستان في ظل إمارة طالبان، ستنظم إلى هلال التمكين الحضاري الذي سيحكم العالم الإسلامي ويمنع الغرب من الاستمرار في احتلال بلداننا واستنزاف ثرواتنا واغتصاب سيادتنا.
وفي المقابل هناك من يعتبر طالبان ألعوبة غربية منذ البداية بالتعاون مع السعودية والإمارات وقطر وباكستان، وأن الغرض إنما كان سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين ذوي الوجهة العالمية والرؤية الوسطية في بلدها والذين انتصروا على الاتحاد السوفياتي، وأن الغرض منها الآن تشويه الإسلاميين في عموم العالم الإسلامي وتقديم نموذج عقيم لحكم الشريعة حتى يتم تبديد أحلام كثير من المسلمين تجاه الشريعة.
فما هي الحقيقة يا ترى من هؤلاء وأولئك ؟
إن صاحب التحليل الموضوعي يجد أمامه تفسيرين لما حدث وسيناريوهين لما يمكن أن يحدث، وذلك على النحو الآتي:
النصر الطالباني وعوامل تحققه:
هناك الكثير من الحقائق والوقائع التي تفيد بأن طالبان قد انتصرت في معركتها مع أمريكا وأذيالها الأفغان، وأهمها باختصار:
١_ امتلاك القدرة على التضحية والصبر:
أثبتت حركة طالبان أنها تنتمي إلى عقيدة حية دفعتها للإنساك بالجمر والسير فوق الأشواك وتفجير حقول الألغام بأجسادها، فقد قدمت خلال عقدين من الجهاد ضد الأمريكان حوالي خمسين ألف شهيد، وأضعافهم من المصابين والأسرى، وعلى رأس الشهداء مؤسس الحركة وأميرها الأول الملا محمد عمر ثم الأمير الثاني لها وعدد كبير من أعضاء مكتبها السياسي وقادتها الميدانيين .
٢_امتلاك الحاضنة الشعبية العريضة والاحتماء بأكبر قومية أفغانية:
ينتمي الملا محمد عمر ومعظم قادة طالبان إلى القومية البشتونية، وهي القومية الأكبر والأقوى في أفغانستان، إذ تشكل ٦٠% من مجموع السكان، وتتكون من قبائل ذات تقاليد راسخة في الصرامة القبلية والحمية الإسلامية، وفي الكره الشديد للأجانب الذين يدسون أنفهم في الشأن الأفغاني، فكيف بالأمريكان الذين غزوا أفغانستان وأسقطوا إمارة طالبان التي كانت قد فرضت الأمن بعد عقود من الحروب المدمرة؟
وظلت الحاضنة الشعبية لطالبان قوية؛ بسبب العاطفة الدينية القوية للشعب الأفغاني، وبسبب خلفية الحركة نفسها، ذلك أن معظم أبنائها هم في الأساس من طلاب الجامعات والمعاهد التي تدرس العلوم الشرعية، ويعود تأسيس الحركة إلى ما يزيد عن ربع قرن، وصار كثير من الجيل المؤسس من العلماء الكبار الذين يملكون قدرا كبيرا من الرصيد الاجتماعي والوطني في الوجدان الأفغاني الذي يتشابه مع سكان شبه القارة الهندية الباكستانية في كثافة العواطف الجياشة.
٣_اتكاء الحركة على رصيد تاريخي ضخم في مقاومة الإمبراطوريات: تتكئ طالبان على رصيد مشرف للشعب الأفغاني في مقاومة الإمبراطوريات وتمريغ أنوفها في التراب، وقد استمد الأفغان من جغرافية بلادهم الشراسة وأخذوا من جبالها الأنفة والشموخ والإباء، وتزداد شراستهم حينما تتعرض بلادهم للغزو الخارجي ولا سيما إن كان من بلدان غير إسلامية. مما يعني أن طالبان تمثل امتدادا طبيعيا للنضال الأفغاني المتميز ضد الدول الاستعمارية، فقد انتصرت أفغانستان مرتين ضد الإمبراطورية التي لم تكن تغب عنها الشمس، وتحكي كتب التاريخ أن بريطانيا لم تعجز فقط عن احتلال أفغانستان بل لم تنجح في استرجاع جنودها الذين ذهبوا إليها غزاة، وفي إحدى هاتين الهزيمتين خسرت جيشا كاملا يتكون من ١٢ ألف من زبدة الجيش البريطاني في مضيق جبلي يسمى ممر خيبر، ولم يسمح المجاهدون إلا لشخص واحد فقط من ذلك الجيش بالفرار حتى يوصل تلك الرسالة المرعبة إلى الحاكم البريطاني في الهند!
وخسر السوفيات خلال عقد من الزمان قرابة مائة ألف مقاتل، وانسحبوا مهزومين في ١٩٨٨، وما هما إلا عامان من هذه الهزيمة المدوية حتى وقع سقف الإمبراطورية السوفيتية على رؤوس أصحابه!
ومن ثم فإن هزيمة أمريكا الراهنة ليست غريبة، بل هي امتداد لهزيمة تلك الإمبراطوريات الغربية، لكن ذكاء الأمريكان جعلهم يستفيدون من عبر التأريخ، مكتفين بحوالي ٣٨٠٠ قتيل من الجيش الأمريكي وأضعافهم من العملاء الأفغان، بجانب قرابة الترليون دولار التي خسرتها أمريكا طيلة عقدين من الاحتلال لأفغانستان، صرفتها على جيشها وعلى عملائها وفي صورة مساعدات للحكومة الأفغانية.
٤_ الاتكاء على العمق الباكستاني:
فأفغانستان متداخلة أرضا وإنسانا ومصالح مع باكستان بقوة منقطعة النظير، ويكفي أن نعرف أن قومية الباشتون التي تكون ٦٠% من سكان أفغانستان هي المكون الأساسي لواحدة من الولايات الأربع التي تتكون منها الفيدرالية الباكستانية، هذا بجانب أن الجيش والمخابرات الباكستانيين ينظران إلى أفغانستان كأهم عمق استراتيجي لبلدهم.
وكانت الحركة قد نشأت قبل ربع قرن، بدعم كامل من حكومة باكستان وشعبها، وكان العمود الأساسي للحركة يتكون من طلاب وخريجي الجامعات والمدارس المتخصصة في تدريس علوم الشريعة في باكستان، حيث دفعتهم استغاثات الشعب من الاقتتال الذي طال أمده بين أشقاء الجهاد، دفعتهم لترك مقاعد الدراسة والذهاب لحمل السلاح وفرض الأمن والاستقرار بتسليح وتمويل باكستاني مدعوم بمال عربي شعبي ورسمي وبضوء أخضر أمريكي، نتيجة تقاطع المصالح بين هذه الأطراف!
٥_ بقاء حركة طالبان منسجمة تحت قيادة واحدة، طيلة الفترة الماضية، مع استفادتها النسبية من خبراتها السابقة، ولذلك فقد صارت أقل تشددا وأكثر مرونة في التعامل مع الخصوم، وسيُظهر امتحان السلطة إلى أي حد وصلت في هذه المرونة وإلى أي مدى أنضجتها الأحداث.
وفي الطرف الآخر حدثت انقسامات وسط القوى المؤيدة للحكومة على أسس عديدة، وأهمها الأساس المصلحي، إذ تسابقت مراكز القوى على حيازة المزايا ونيل الغنائم عبر عمليات فساد منظم، دفعت الأمريكيين مرارا للتضجر وللتهديد في بعض الأحيان بالتخلي عن حلفائها إن لم يكفّوا عن العبث بالمال العام وإن لم يقوموا بتحسين حياة المواطنين التي ظلت تنتقل من سيء إلى أسوأ!
دوافع الانسحاب والكيد الأمريكي الجديد:
هناك قرائن ومؤشرات عديدة تشير إلى أن أمريكا لم تنهزم في أفغانستان بالمعنى العميق للهزيمة، وإنما تمارس استراتيجية جديدة تميل إلى استخدام الأسلحة الناعمة والتي تزخر بها خبراتها الإمبراطورية، كامتداد للإمبراطورية البريطانية، وذلك بعد أن انغمست كثيرا في الأعمال العسكرية وحصدت خسائر اقتصادية كثيرة بجانب اتساع دائرة الكراهية لها في الشرق الأوسط، واستثمار المعسكر الإيراني في المنطقة لهذه المشاعر في صالح مشاريعها البعيدة عن التفاهمات والتحالفات الثنائية غير المعلنة بين الطرفين، وبصورة تهدد باختلال توازن الرعب الذي تريد أن يبقى قائما بين السنة والشيعة، وأهم هذه القرائن:
١_ قلة الخسائر الأمريكية مقارنة بحجم الأهداف التي تحققت في المنطقة خلال عشرين سنة، ولا سيما في السنوات الأخيرة، فقد كان معظم ضحايا حرب العصابات التي قادتها طالبان من جنود وأتباع الحكومة الأفغانية.
٢_ حديث قادة أمريكا عن ضرورة تغيير سياسة بلادهم في التدخل العسكري المباشر، وقد بدأ هذا الأمر من أيام الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، واستمر بعده، إذ رغم انتقاد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب لسياسات سلفه أوباما إلا أنه مضى في تهيئة الأوضاع من أجل انسحاب قوات بلاده من أفغانستان.
ومما يؤكد هذا التحليل أن العديد من المدن والمقاطعات الأفغانية سقطت في الأيام الماضية بيد طالبان مثل أوراق الخريف، بما فيها العاصمة كابل نفسها التي سقطت من دون أدنى مقاومة، بل إن مراكز القوى التي عرفت بولائها التام للأمريكان لعبت دور المحرض للقوات الأفغانية للتسليم من دون قتال أو قامت بدور الوسيط من أجل تحقيق هذا الهدف بكل سلاسة، كما حدث في العاصمة كابل، وعلى رأس هؤلاء الرئيس الأسبق كرازاي الذي جاء قبل عقدين على ظهر دبابة أمريكية عند ضرب إمارة طالبان وسقوط كابل بيد القوات الأمريكية!
٣_ وجود بوادر عديدة تشير إلى إعادة تموضع القوات الأمريكية في المنطقة برمتها وفق أجندة جديدة، يبدو أنها تسعى لتوسيع المواجهات بين البلدان الإسلامية على أسس عرقية وطائفية، لتآكل طاقاتها النامية نتيجة ثرواتها الطبيعية، ومن صور هذا الأمر انسحاب القوات الأمريكية من قطر التي توجد فيها أكبر قاعدة لها في المنطقة، حسب تصريحات بعض مسؤوليها، إلى الأردن، وإعادة توزيع خارطة الأساطيل والقطع البحرية وفقا للخطط التي يبدو أنها تسير في ذات الدرب الذي يريد الإيقاع بين تركيا وإيران أو بين تركيا والعرب أو بين إيران والخليج العربي.
ومما يؤيد هذا السيناريو أن أمريكا تشجع تركيا على لعب دور قوي في أفغانستان، رغم هواجسها من تركيا وضغوطها المتنوعة عليها، لعلها تتورط في المستنقع الأفغاني، أو من أجل اشتعال المعركة مع إيران التي لها تواجد قوي في أفغانستان وتعتبرها الحديقة الخلفية لها، وستكون شديدة الحساسية أمام أي تدخل تركي فيها، وتفعل امريكا ذلك بعد أن فشلت في الإيقاع بين الدولتين في سوريا والعراق وفي إقليم كرة باخ الأذربيجاني!
٤_ سعي أمريكا والغرب من ورائها لدفع الحركات الإسلامية للارتداد عن الديمقراطية، بعد أن نجحت في تأصيل هذه القضية وموائمتها ضمن فريضة الشورى الإسلامية، وبعد أن قطعت شوطا كبيرا في الواقع العملي؛ ذلك أن حسم مسألة السلطة عبر صناديق الاقتراع سيمكن المسلمين من توفير طاقاتهم للبناء وسيدفعهم لاختيار أفضل الكوادر والأحزاب في مجتمعاتهم لإدارة شؤونهم، ولا شك بأن الإسلاميين رغم نواقصهم هم الأفضل، وبقدر ما ظل النموذج التركي يقدم حافزا للإسلاميين من أجل الاندماج في منظومة الديمقراطية، فقد صار فزاعة بالنسبة لصقور الغرب؛ خوفا من أن تنجح المجتمعات العربية والإسلامية في تنمية ذاتها والاستقلال بقراراتها بعيدا عن التبعية والهيمنة الغربية، وتعاود الإقلاع الحضاري، كما فعلت تركيا!
وما حدث من تآمر على بلدان الربيع العربي ولا سيما بعد نجاح الإسلاميين في الوصول إلى السلطة وانضمام المزيد من التيارات الراديكالية التي كانت تعادي الديمقراطية إلى العمل السياسي، كل ذلك دفع بالغرب لتشجيع الأنظمة العربية المستبدة لصرف ثروات شعوبها في سبيل إسقاط ثورات الربيع العربي وزرع آكام من اليأس والقنوط في وجدان الشباب من إمكانية تحقق التغيير الديمقراطي، حتى يندفعوا في طريق العنف، لتتمكن أنظمة الجور والفساد من العصف بهم دون أن يتعاطف معهم أحد، كما حدث للحركات العنيفة في الجزائر ومصر وسوريا والتي تم القضاء عليها بوحشية وبمباركة الجميع صراحة أو صمتا.
وبترك طالبان تصل إلى الحكم عبر القوة المسلحة، وتركها تحكم باسم الشريعة مع قلة خبرتها السياسية في فقه الدولة؛ فإن أمريكا تدفع عامة الإسلاميين للكفر بالتغيير الناعم وبالحكم المدني، وقد بدأ صدى هذا الأمر يتضح من خلال آلاف المقالات وملايين التغريدات التي تعلن الكفر بالسلمية والعمل السياسي وتسخر من شعارات السلمية، وفي المقابل تمجد القوة وتحض على استنساخ النموذج الطالباني حرفيا ودون استحضار الاختلافات الموضوعية والذاتية بين أفغانستان وبين دول كمصر على سبيل المثال!
وبعد الحكم ستظل طالبان تتعرض لضغوط تدفعها لتقديم التنازلات عن بعض الثوابت في الواقع العملي والانقلاب على قيم الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية، مع ارتفاع أصوات قادتها بالشعارات العريضة والحديث عن مثاليات الإسلام وعن المؤامرات الكونية التي تمنعهم من تقديم النموذج الأمثل، حتى يتم تشويه النموذج الإسلامي للحكم بعد أن صار حلم مئات الملايين من المسلمين!
ومن المعلوم أن الاستراتيجية الأمريكية التي تصنعها مراكز الأبحاث كمركز راند، كانت قد حثت قادة أمريكا بعد أحداث ١١ سبتمبر، على دعم الإسلاميين الذين يعتقدون من التيار السلفي بالجبرية القدرية والماضوية الحضارية ويحضّون على طاعة ولي الأمر مهما كان إجرامه، والذين يؤمنون من التيار الصوفي بالخرافات ويغيبون وعي الجماهير وينسحبون بالجماهير نحو التدين الأخروي. ولا أستبعد أن الأمريكيين بعد ما مثل لهم الربيع العربي من مفاجآت مفجعة، قد دفعهم لتوسيع الدائرة المشمولة بالتشجيع من المحسوبين على الدعوة الإسلامية لامتصاص عواطف الجماهير، كالتيار التقليدي الذي يتمحور حول التعصب لأحد المذاهب مع انشداد شديد نحو الماضي، وحركة طالبان رغم ثوريتها الظاهرة تنتمي في الأصل إلى هذه الدائرة، فهي حركة ماتريدية من حيث الفكر العقدي وحنفية من حيث الفقه الشعائري والمعاملاتي، وتمتلك قدرا من الشعور بالطهورية وامتلاك الحقيقة المطلقة، وتندفع بإخلاص لإظهار التمايز مع المختلف الإسلامي، وهذه وصفة مثالية لتوريط الحركة في تسفيه بقية المذاهب والحركات الإسلامية وصولا إلى الاصطدام معها وتبديد طاقاتها في خانات الصراع البيني الذي يزيد من حالة الغثائية التي تتشبع بها أمتنا إلى حد التخمة!
٥_ وجود تحليلات تمتلك قدرا من المعقولية والواقعية تتحدث عن تخطيط أمريكي لجعل أفغانستان منصة لإقلاق العملاق الصيني والضغط على إيران لتقديم ما تريد من تنازلات في موائد اقتسام الثمار، من خلال استدراج طالبان ودولتها الوليدة بطرق ذكية وماكرة، وعبر بعض حلفائها، من أجل مهاجمة إيران وتصدير الثورة إلى مسلمي الصين!
الخلاصة:
طالبان حركة دعوية تنتمي إلى التيار التقليدي في الدعوة الإسلامية، وقد انبثقت من قلب المجتمع الأفغاني وتحمل الكثير من خصائصه، وقد ضحت بالكثير من الدماء والأموال والطاقات، وأظهرت العديد من صور التضحية والاستبسال، ودفّعت الأمريكان الكثير من الخسائر البشرية والمادية، ومنعتهم من جني الفوائد المادية المباشرة التي يعدها أصحاب الفكر الرأسمالي النفعي المقياس الأساسي للنجاح والانتصار، مما جعل الكثير من الأصوات الأمريكية ترتفع مطالبة مسؤوليها بالانسحاب، أي أن تضحيات طالبان واستعدادها للمضي في هذا الطريق عقودا أخرى، تساعدها على ذلك عقيدة دينية تحض على الاستبسال والاستشهاد، وقواعد شعبية تمتلك الكثير من العوائد الاجتماعية التي تحثها على احتضانها، وتضاريس طبيعية توفر لها الحماية والملاذ الآمن من أسلحة العدو، وظهير لا يتخلف عن الدعم، كل ذلك أهلّها لإجبار العدو الغاصب على التفكير بالخروج بأقل الخسائر، واختيار السيناريو الذي يمكن استثمار تفاصيله في ما بعد، من أجل حصد العديد من النتائج التي تمنع الأعداء من استثمار الانهزام أو الانسحاب لصالحهم، وعدم ذهاب التضحيات البشرية والمادية دون استفادة مستقبلية مقدرة.
وعليه فإن الأمريكيين يملكون من الخبرات والمعارف وصور الكيد والمكر، ما قد تُمكنهم من استراق طعم النصر الذي حققه الأفغان من أفواههم، كما فعل الإنجليز والفرنسيون حينما انسحبوا من مستعمراتهم القديمة وانتقالهم من الحرب العنيفة المسلحة إلى الحروب الناعمة، مع الفارق أن المعركة الآن صارت منسقة بعد ظهور الصحوة الإسلامية وبروز العولمة الإعلامية، بحيث يمكن للهزيمة العسكرية في بلد ما أن تتحول إلى انتصار فكري وسياسي في بلدان أخرى!
ولأن التدخل الخارجي لا يحدث في أي مجتمع ما لم تتوافر القابلية له في الداخل، فإن الكرة الآن في ملعب حركة طالبان ومن له علاقة بها ممن يهمهم أمر الأمة، حيث ينبغي أن تغادر مربع التشدد المذهبي، بأن تدور حول فلك الدين وتستحضر هموم الأمة، وهذا يتطلب منها الكف عن معاقرة التعصب لأبي منصور الماتريدي وأبي حنيفة النعمان، وإلا فإنها ستصطدم بالتيارات الأخرى داخل وخارج أفغانستان.
وينبغي لها أن تغادر الماضي مكتفية باستصحاب المنهج العام وأخذ الدروس والعبر، وأن تفقه العصر بمتغيراته الشديدة، وتحسن استثمار معطياته ومنجزاته في بناء الحاضر وارتياد المستقبل وفق مقاصد الشريعة الإسلامية. ومن دون ذلك فإنها سترتكب حماقات كبيرة، وستجد آلة إعلامية جبارة تسحر أعين الناس محيلة الأخطاء إلى خطايا والصغائر إلى كبائر، مما يسيء في المحصلة إلى كافة الحركات الإسلامية ومن ثم إلى الإسلام نفسه!
التعليقات