اليمن .. تصعيد عسكري وهجمات عابرة للحدود

فرضت التطورات العسكرية في اليمن، إلى جانب تصاعد الهجمات العابرة للحدود، وامتدادها أخيراً إلى أبوظبي واقعاً جديداً. فإضافة إلى تصدير اليمن، بوصفه بؤرة للصراع العابر للحدود، فقد كشف محدودية الخيارات التي تلجأ إليها أطراف الصراع المحلية والإقليمية لردع خصومها، بما في ذلك تغيير المعادلة العسكرية على الأرض، إلا أن هذه الخيارات قد لا تصبّ في مصلحتها على المدى البعيد. في المقابل، أحدثت التطورات العسكرية الحالية تحدّيات جديدة أمام الفاعلين الدوليين لتطويق مخاطر الحرب اليمنية، بحيث لا تضرّ بمصالحهم الحيوية، لكن تشابك الصراع المحلي، بامتداداته الإقليمية، بما في ذلك تداعياته، يفرض عليهم إيجاد حلول جذرية لحربٍ عابرة للحدود الوطنية، وإنْ كان ضحاياها من اليمنيين.

لأسبابٍ تتعلق بوضعها العسكري في جبهات شبوة ومأرب، وجّهت جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، هجماتها العابرة للحدود نحو الإمارات، فاستهدفت الجماعة في 17 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) أبوظبي بصواريخ وطائرات مُسيَّرة، سبّبت مقتل هنديين وباكستاني، تبعها، في 24 من الشهر نفسه، استهداف قاعدة عسكرية إماراتية تستضيف قوات أميركية؛ وفيما مثلت هجمات جماعة الحوثي على أبوظبي تحوّلاً في قائمة أهدافها، بعد أن ركّزت في السنوات السابقة هجماتها على منشآت حيوية في السعودية، فإنه كشف مأزقها العسكري، إذ يتقاطع التحوّل في استراتيجيتها حيال الإمارات مع تطوّرات المعارك العسكرية في جبهات حيوية لمصلحة خصومها، وذلك منذ دفعت السعودية قوات ألوية العمالقة التي كانت متمركزة في جبهة الساحل الغربي إلى جبهات شبوة نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حيث قلبت قوات العمالقة موازين الصراع لمصلحة الشرعية، فقد استطاعت تحرير مدينة شبوة من قبضة مقاتلي جماعة الحوثي، ثم الانتقال إلى جبهات مجاورة، إذ انخرطت هذه القوات في القتال في جبهات مأرب المحاذية لشبوة، أدّت إلى سيطرتها على مركز مديرية حريب في مأرب، ومن ثم تأمين مديرية العين في شبوة، وقطع خطوط الإمداد عن مقاتلي الجماعة في جبهات مأرب، إضافة إلى توغل قوات العمالقة في جبهة الجوبة، وهو ما يعني خنق مقاتلي الجماعة واستنزافهم في جبهات عديدة، ومن ثم عرقلة سيطرة الجماعة على مدينة مأرب، المدينة الغنية بالنفط والغاز في شمال اليمن، التي تعوّل عليها لاستدامة سلطتها في المناطق الخاضعة لها، وضمان إمدادات حروبها، بما في ذلك فرض شروطها في المفاوضات السياسية. ومع أنّ من المبكر الجزم باتجاه التحالف العربي، بما في ذلك قوات العمالقة لتأمين مدينة مأرب وطرد مقاتلي الجماعة، فإن استمرار تزايد الخسائر البشرية التي تكبّدتها طوال أكثر من عامين للسيطرة على مأرب، وفقدانها جبهات استراتيجية لدفع معركتها تجاه مأرب، جعلها كما يبدو تستهدف الإمارات، لتحييدها في الصراع، أو على الأقل إعادة النظر في دعم وكيلها في جبهتي مأرب وشبوة، بيد أن هذه الخطوة المقامرة، مع فشلها في تغيير المعادلة العسكرية لمصلحتها، قد تكون كلفتها السياسية والعسكرية على الجماعة باهظة.

تُقيم القوى الدولية الكبرى المخاطر المُتأتية من الحروب المؤقلمة وفقاً لتضرر مصالحها، وتدير تدخلها تبعاً لذلك. وفي حرب اليمن، شكلت الطائرات المُسيَّرة والصواريخ الباليستية التي تطلقها جماعة الحوثي على منشآت سعودية أكبر المخاطر المتأتية من الصراع في اليمن، لكونها تستهدف أكبر الدول المصدّرة للنفط. ويمثل استهداف الجماعة لشركة أرامكو في 2019 أخطر تلك الهجمات، من حيث تبعاتها الاقتصادية المباشرة، ومن ثم تزايد مخاوف القوى الدولية من مغامرات الجماعة خارج الحدود. وإذا كانت القوى الدولية قد فشلت في إيجاد حلول عاجلة لوقف الحرب في اليمن، وبالتالي منع جماعة الحوثي من تهديد مصالح هذه القوى، فإنها سعت إلى الحيلولة دون ذلك بطريقة التفافية، من خلال البوابة الإيرانية، وذلك بتطبيع الحد الأدنى من علاقتها مع إيران، حليف جماعة الحوثي، لدفعها إلى الانخراط في العملية السياسية، مقابل إدارة تفاهمات إيرانية - سعودية لحلحلة الأزمة اليمنية، فإن هجمات الجماعة على أبوظبي أتت في سياق مختلف، فإضافة إلى فشل الخيار الإيراني في دفع الجماعة إلى قبول المبادرة السعودية، وتصاعد وتيرة الحرب في اليمن، فإن استمرار هجمات الجماعة العابرة للحدود، بما في ذلك استيلاؤها على السفينة الإماراتية "روابي"، ورفضها الاستجابة لدعوة مجلس الأمن بالإفراج عنها، مثّل مؤشّراً خطيراً على تنامي عنف الجماعة وعدم احترامها القوانين الدولية، ومن ثم اتخذت هجماتها على أبوظبي بعداً أكثر خطورة، حيث سبّبت رفع أسعار النفط في الأسواق العالمية، كذلك إن تحويل الإمارات إلى هدفٍ لهجمات جماعة الحوثي يشكل تهديداً لنموذج الدولة المُطبّعة مع إسرائيل، بما في ذلك الإضرار بمصالحها، إلى جانب الخصوصية الاقتصادية للإمارات مركزاً لنشاط شركات متعدّدة الجنسيات، واستهدافها يعني تقويض الأمن في دولة مستقرّة ومزدهرة اقتصادياً في بؤرة الصراع. وفي النهاية، قد تؤدي الإدانات الدولية المستمرة لهجمات جماعة الحوثي على أبوظبي إلى تجريمها سياسياً جماعة إرهابية. ومن جهة أخرى، بقدر ما كشفت هجمات الجماعة عن تمتّعها، إلى حد ما، باستقلالية عن قرار حليفها الإيراني، فإنها أكدت افتراقاً جزئياً في سياسة الحليفين، حيث طبّعت إيران أخيراً علاقتها الدبلوماسية والأمنية مع الإمارات. ومن ثم، تمثل هجمات الجماعة إضراراً بهذه العلاقة، إلى جانب حرص إيران في هذه المرحلة على تخفيض الصراع الإقليمي، وذلك لتحسين شروطها في مفاوضات فيينا. ولأن هجمات أبوظبي سلطت الضوء على وكلاء إيران كخطر يهدّد مصالح القوى الدولية، فذلك لا يصبّ في مصلحة إيران، وبالطبع، ليس في مصلحة الجماعة، لكنه أيضاً لا يخدم الإمارات.

شكّلت استراتيجية تنمية الوكلاء محور السياسة الإماراتية في اليمن، وذلك لإعفاء نفسها من تحمل كلفة وجودها العسكري، والأهم تجنّب نقل الصراع إلى أراضيها، فبعد مشاركة قواتها في تحرير مدينة عدن في العام الأول من الحرب، اضطلعت الإمارات بتخليق وكلائها المحليين، وتأسيس أجهزة أمنية وألوية عسكرية لتعضيد سلطتهم، بحيث رتّبت بعد ذلك سحب معظم قواتها العسكرية في نهاية 2019، وإن تمركز بعضها في مواقع حيوية، كجزيرة سقطرى ومدينة شبوة. ولذلك بدا أن سياسة دعم الوكلاء تحقق غاية وجودها المباشر المتمثل بإدارة مصالحها، حيث أصبح وكيلها المجلس الانتقالي الجنوبي قوة سياسية وعسكرية فاعلة في جنوب اليمن، وجزءاً من الحكومة المعترف بها دولياً بمقتضى اتفاق الرياض، إلى جانب قوات العميد طارق محمد عبدالله صالح في الساحل الغربي، إضافة إلى أن الإمارات أدارت حربها في اليمن ضد منظومة الشرعية وحزب التجمع اليمني للإصلاح تحديداً، فرع تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن، وليس ضد جماعة الحوثي، بحيث أمّنت تعرّض أراضيها لهجماتها العابرة للحدود، بيد أن تحوّلاً ملحوظاً في السياسة الإماراتية تبدى في نهاية العام الماضي، فمع استمرار تدعيم علاقتها مع إيران، فإنها وثقت علاقتها بالسعودية، وذلك بتفعيل نشاطها العسكري في التحالف العربي، تمظهر بدفع قوات العمالقة المدعومة منها إلى جبهتي شبوة ومأرب، وهي قوات سلفية جنوبية شكّلتها الإمارات في العام الثاني من الحرب، إلى جانب مشاركة طائرات مُسيَّرة إماراتية في المعارك، أعلنت جماعة الحوثي إسقاط عدد منها، إلا أن الإمارات لم تحسب عواقب تغير استراتيجيتها حيال جماعة الحوثي، الذي ترتّب عنه استهدافها أبوظبي، وإنشاء حقائق سياسية جديدة، بتمكّن الجماعة من نقل الصراع إلى أراضي الإمارات، وتكبد الأخيرة خسائر اقتصادية. ومن جهة أخرى، تقويض السردية التي تحاول الإمارات تقديمها، باعتبارها البلد الآمن في محيط متزعزع، حتى لو تورّطت في حروب المنطقة، فإن نيرانها لا تصل إليها، فيما كشفت هجمات الجماعة أن سياسة تنمية الوكلاء تجرّ على البلدان المتدخلة أضراراً، وإن كانت ثانوية. ومن ثم، قد تفرض هجمات جماعة الحوثي على الإمارات مستقبلاً اتباع سياسةٍ تتعدّى استعراض القوة العسكرية، بما في ذلك إدارة الحرب وفق سياسة الوكلاء، إلى سياسة أكثر وضوحاً وتحمّل تبعات سياستها.

في المقابل، صبّت هجمات جماعة الحوثي في مصلحة السعودية، الطرف الإقليمي الرئيس في حرب اليمن، وقائدة التحالف العربي، إذ دفع دخول الإمارات في دائرة ضحايا حرب الطائرات المُسيَّرة والصواريخ التي تطلقها الجماعة، دفع الإمارات إلى مظلة التحالف مرة أخرى وتحت قيادة السعودية، ومن ثم تعضيد حربها في جبهات اليمن، إلى جانب مشاركتها كلفة الصواريخ، بما في ذلك تقنين الصراع بين وكلاء الدولتين، حتى لو بحدّها الأدنى لمواجهة خطر جماعة الحوثي، كما منحت السعودية غطاءً سياسياً لاستمرار حربها في اليمن، لتقليم القدرة العسكرية لجماعة الحوثي، ووقف هجماتها العابرة للحدود التي تهدّد ليس منشآتها الحيوية والاقتصاديات النفطية في المنطقة فقط، بل الاقتصاد الدولي، بحيث تمنحها القوى الدولية تفويضاً لمعاقبة الجماعة، مقابل تجاهل قتلها المدنيين اليمنيين.

حفلة الدم ليست في أبوظبي، بل في اليمن، ومع إدانة قتل المدنيين وترويع الآمنين في كل مكان، فإن تجاهل حفلة الدم التي يديرها الحلفاء والمقامرون المحليون منذ ثماني سنوات جريمة إنسانية وأخلاقية؛ ففي الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) فقط، قتل طيران التحالف العربي أكثر من 97 مدنياً في صنعاء وصعدة والحديدة، وأصيب مائتا مدني، إلى جانب قطع الإنترنت على عموم اليمن أربعة أيام، كذلك قتلت جماعة الحوثي بصواريخها الباليستية أكثر من 23 مدنياً، في شبوة وتعز ومأرب. وإذ تستمر حفلة الدم اليمني التي يرتكبها أطراف الصراع المحلية والإقليمية في حق المدنيين الآمنين، فإن حسابات الأقوياء وشركائهم لا تقيم وزناً لهذه الجرائم.

 

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية