فقدان المصالح.. لماذا تسخط بعض الفئات على ثورة 11 فبراير؟

مع مرور ذكرى ثورة 11 فبراير 2011 من كل عام، يتجدد الجدل بشأن تلك الثورة ومدى صوابها وما الذي حققته ومقارنة ما آلت إليه الأوضاع اليوم بالحال الذي كانت عليه البلاد قبل الثورة، ويميل كثير من خصوم الثورة إلى تحميل شباب الثورة مسؤولية ما يحصل في البلاد اليوم، مع أن ذلك لم يكن بسبب ثورة 11 فبراير، وإنما بسبب انتقام الرئيس السابق علي عبد الله صالح من الثورة ومن خصومه السياسيين بالتحالف مع مليشيا الحوثيين والانقلاب على السلطة الشرعية وإشعال حرب أهلية مدمرة.

وتحت مبرر "وحدة الصف الجمهوري"، وبضغوط خارجية ربما، كان ملاحظا بهوت الاحتفالات بذكرى ثورة 11 فبراير هذا العام من قِبَل بعض الكيانات قياسا بما كان عليه الحال خلال الأعوام السابقة، وللتحايل على تلك الضغوط أو التوجهات الجديدة لدى البعض، يتحاشى عدد من أنصار الثورة -أشخاص أو كيانات سياسية- ذكر نظام علي صالح وعائلته، ويقتصر حديثهم على أن الثورة مستمرة ضد الانقلاب الحوثي والإمامة الكهنوتية، وأن الثورة هدفها بناء دولة مدنية حديثة وليس الخصومة مع الأشخاص، وغير من ذلك من أساليب التناولات المستجدة التي ظهرت بالتزامن مع الذكرى الحادية عشرة للثورة هذا العام.

 

- الانفجار الثوري والتوترات العنيفة

في الحقيقة، يؤكد الجدل الدائر حول ثورة 11 فبراير 2011 مدى التأثير الذي أحدثته تلك الثورة، فالتغيير لا يكون ثوريا إلا إذا فجّر صراعات مسلحة وسجالات فكرية وأيديولوجية حادة واضطرابات اجتماعية وتوترات عنيفة تطال المجالات كافة، واستمرار الجدل بهذه الوتيرة والسخط على الثورة يعني أن الثورة ما زالت مستمرة وتحقق أهدافها بشكل مرحلي كلما ظهرت أمامها تحديات جديدة، وأنها ما زلت تلقي بتأثيراتها في مجريات الصراع، كما أن استمرار الثورة كفكرة وعقيدة في الوعي الجمعي يجعل خصومها يبالغون في التعبير عن غيضهم منها، خصوصا كلما بدا لهم أن الرهان على الثورات المضادة وعنفها والتعويل على الخارج لإعادة الأوضاع إلى مرحلة ما قبل الثورة من المستحيلات.

وبالعودة إلى تاريخ الثورات التي غيرت مجرى التاريخ، سنجد أن كل الثورات تتشابه من حيث المقدمات والعراقيل ثم الانفجار الثوري وعنف ما بعد الثورات والفرز الذاتي الذي يتبع كل ثورة وانتهاء بالنتائج، وتأتي في مقدمة تلك الثورات "الثورة الفرنسية" التي استمرت عشرة أعوام (1789 - 1799)، وخلال تلك المدة شهدت فرنسا صراعات داخلية بين الثوار أنفسهم وظهور حكم ديكتاتوري جاء من رحم الثورة وعودة النظام القديم قبل أن تحقق الثورة أهدافها كاملة. ورغم ذلك، ما زالت الثورة الفرنسية تثير الانقسامات بين المفكرين الفرنسيين حتى اليوم، لأن الآثار المترتبة عليها ما زالت تشكل العالم الحديث، وتمثل إلهاما لكل الشعوب الراغبة في الحرية والكرامة والحصول على الحقوق الأساسية وطي صفحة الاستبداد.

إذن، يمكن وصف ما حدث بعد ثورة 11 فبراير 2011 وحتى اليوم بأنه يأتي في سياق ما يحدث بعد كل الثورات الكبيرة التي شهدها العالم وغيرت التاريخ، وهو ما تؤكده بعض نظريات العلوم الاجتماعية، مثل نظرية "تأثير الفراشة"، والتي تعني بتفسير ظاهرة كبيرة ناتجة عن حدث بسيط، مثل إحراق بائع متجول نفسه فيتحول ذلك إلى ثورات شعبية تهز المنطقة والعالم وتسقط رؤساء وتشعل حروبا أهلية، ومثل تظاهر مجموعة من خريجي الجامعات للمطالبة بإسقاط النظام الحاكم تحت تأثير البطالة والفقر وفساد الحكام، ثم تؤدي تلك المظاهرة إلى سلسلة أحداث كبيرة وتطورات يفوق حجمها الحدث الأول البسيط، وما ينتج عن ذلك من تشعب في الأحداث والنتائج المتوقعة. وتُستخدم نظرية "تأثير الفراشة" في مجال الإستراتيجية والأمن الدولي، وتوضيح كيف يمكن لحبة رمل أن تغير العالم بأجمعه، أو كيف يمكن لرفرفة جناحي فراشة أن تسبب أعاصير هائجة تجرف كل ما هو في طريقها.

 

- من هم الساخطون على الثورة؟

من طبيعة الثورات الشعبية ضد الحكام المستبدين أو الفاشلين والفاسدين أنها لا تحظى بإجماع كل الفئات، ويرتبط سخط كل فئة على الثورة من زاوية نفعية بحتة، لأنه باندلاع الثورة تكون هناك فئات فقدت مصالحها المرتبطة ببقاء النظام الحاكم، وفئات تعاني من الحرمان والتهميش ووجدت أن الثورة لم تحقق طموحاتها بسرعة، وفئات مرتبطة بالنظام السياسي من داخل نظام الحكم وخارجه رأت أن الثورة همشتها من الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذه كلها فئات ساخطة على الثورة، وتظهر في كل زمان ومكان تندلع فيه ثورات شعبية ضد حكام فاسدين أو فاشلين أو مستبدين.

بخصوص فئة من فقدوا مصالحهم بسبب سقوط نظام حكم علي صالح، فهذه الفئة من أكثر الفئات سخطا على الثورة، لأن مصالحها والامتيازات التي كانت تحصل عليها ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظام الحاكم، وكانت هذه الفئة قد تشكلت كاستجابة لحاجة النظام الحاكم لطبقة من أصحاب المصالح والعلاقات الزبائنية التي تضمن حمايته أو تمنحه شرعية مزيفة، وسقوط النظام تحت سياط الثورة الشعبية جعل أصحاب المصالح المرتبطة به في مقدمة الفئات الساخطة على الثورة، لأنها ترى أن الثورة قد حرمتها من الامتيازات التي كانت تحصل عليها، ولذلك فهي تبذل كل جهودها لشيطنة الثورة والثوار، وتصفهم بالمخربين وغير ذلك من الأوصاف التي تنم عن عداوة وحقد عميق.

أما الفئة الثانية الساخطة على الثورة، فهي جزء من الطبقة الكادحة والمحرومة التي كانت تعول كثيرا على أن تتحقق طموحاتها بعد الثورة مباشرة، أي أنها تستعجل الحصاد، وتتسم هذه الفئة بالأمية السياسية، كونها لا تدرك طبيعة الثورات وما يتبعها من أعمال عنف وتوترات عنيفة كضريبة باهظة للتغيير.

ونظرا لأن الثورة واجهتها عراقيل كثيرة حالت بينها وبين تحقيق أهداف تلك الفئة بسرعة، وبدا لها أن حصاد الثورة هزيل ولا يرقى إلى مستوى الطموحات التي كانت مأمولة منها، فإنها اتجهت إلى انتقاد الثورة وشتم الثوار كرد فعل احتجاجي على عدم تحقيق طموحاتها بسرعة. وهناك فئة أيضا من الفئات المحرومة لم تشارك في الثورة ولم تكن من أنصارها، لكنها كانت تأمل أن تتحسن أوضاعها المعيشية بعد الثورة، غير أن التدهور الناجم عن انحراف مسار الأحداث جعلها تعبر عن سخطها بأشكال مختلفة من الاحتجاج.

وأما الفئة الثالثة الساخطة على الثورة، فهي تضم بعض النخب من المنظومة السياسية في عهد الرئيس السابق علي صالح من داخل النظام الحاكم وخارجه، وهذه النخب كانت تلتقي مصالحها في ظل نظام حكم علي صالح، وترى في ثورة الشباب الشعبية السلمية تمردا شاملا على المنظومة السياسية في الحكم والمعارضة، وغاظها بعض هتافات شباب الثورة مثل "لا حزبية لا أحزاب.. ثورتنا ثورة شباب"، وبعض تلك النخب سارعت إلى تحويل الثورة إلى عملية تفاوضية ووصفت نفسها بأنها "الحامل السياسي للثورة"، وأن العملية التفاوضية هي المسار السياسي للثورة.

كما أن الصراع على الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مرحلة ما بعد الثورة مباشرة، يدفع عددا من النخب السياسية من داخل نظام الحكم وخارجه إلى معاداة الثورة والسخط عليها، حتى وإن كان بعض تلك النخب من المؤيدين للثورة في بدايتها، لكن شعورها بالتهميش أو بعدم الاهتمام بها من قبل الأطراف الكبرى الفاعلة في الأزمة يدفعها للتعبير عن سخطها من الثورة لأنها حجّمت دورها في الفضاء العام، فضلا عما تقتضيه طبيعة المرحلة من تنازلات من قِبَل بعض الأطراف المناصرة للثورة تحت تأثير ضغط خارجي أو داخلي حفاظا على تحالفات محددة وربما مصالح مشتركة، بالإضافة إلى مراعاة المزاج الإقليمي المعادي لثورات الربيع العربي كافة.

وختاما، يبدو أن بعض الفئات الساخطة على ثورة 11 فبراير لم تستوعب بعد المعضلة الكبيرة التي تسببت بإيصال الأوضاع في البلاد إلى ما نشهده اليوم، وتحديد المسافة الفاصلة بين ثورة شعبية سلمية تهدف إلى إصلاح النظام السياسي، وبين انقلاب عسكري على السلطة الشرعية تسبب بانهيار الدولة وانهيار النظام السياسي وانهيار الاقتصاد والعملة المحلية والتشظي الاجتماعي، فالحاصل في البلاد نتيجة لانقلاب علي صالح والحوثيين على السلطة الشرعية والتوافق السياسي، ولا علاقة له مطلقا بثورة 11 فبراير الشعبية السلمية.

 

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية