ثورة 48 الدستورية..  الملحمة التي زلزلت الإمامة ومهدت الطريق لـ “الجمهورية” في اليمن

لشهر فبراير حضور لا يغيب في ذاكرة التاريخ اليمني الحديث والمعاصر، ففيه قامت أول ثورة ضد الحكم الإمامي، عام 1948، وفيه انتصرت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والنظام الجمهوري على فلول الإمامة والكهنوت في ملحمة السبعين، في العام 1968.

ومع أن ثورة 1948 فشلت في القضاء على حكم الإمامة، لكنها نجحت في دق المسامير في نعشه، ومهدت الطريق للثوار والثورة من جديد، وكشفت سوءة الحكم الإمامي وتخلفه وما يمارسه من جرائم وما يرتكب من مظالم، معتمدا على ثالوث الجهل والفقر والمرض، كي يمارس هواياته في تضليل اليمنيين والاعتداء على كافة حقوقهم.

 

ثورة الدستور 1948

تشكلت أولى طلائع المعارضة ضد الحكم الإمامي المستبد من المثقفين اليمنيين الذين غادروا إلى عدن بداية الأربعينيات، وهم محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان وزيد الموشكي وأحمد الشامي، وفي عدن أسسوا “حزب الأحرار اليمنيين” عام 1944، وضم إليه كثيراً من أحرار اليمن الذين ضاقوا ذرعا بالحكم الإمامي وممارساته التي جعلت اليمن سجناً كبيراً، معزولاً عن العالم من حوله.

توسعت القاعدة الشعبية والسياسية والإعلامية للأحرار اليمنيين وشكلوا في العام 1946 “الجمعية اليمنية الكبرى”، وأصدرت الجمعية صحيفة “صوت اليمن”، وانضم للحركة غالبية الوطنيين والأحرار من مختلف أرجاء اليمن، ومن كافة فئات الشعب، كما التحق بها كثيرون ممن كانوا محسوبين على النظام الإمامي، ومنهم أحد أبناء الإمام يحيى، وهو سيف الإسلام إبراهيم، بعد هروبه من صنعاء إلى عدن، وبدأت المعارضة تعد العدة للثورة على الظلم والكهنوت ممثلاً بالإمام يحيى ونظامه، كتبوا الدستور الذي عرف باسم (الميثاق الوطني المقدس)، مستفيدين من تجارب عربية عدة في الشام ومصر، ونجحت الحركة في استقطاب عدد من رموز الحكم الإمامي الساخطين على طريقة حكم الإمام يحيى، خاصة بعدما أطاح بشركائه وحلفائه من كبار الأسر الهاشمية لصالح أبنائه الذين أصبحوا هم عماله على الألوية/المحافظات، وعلى رأسهم ابنه أحمد الذي عينه ولياً للعهد، وأصبح والياً على أهم محافظة، وهي تعز ومنحه كامل الصلاحيات.

كان من المقرر أن يبدأ الثوار تنفيذ خطتهم في الاستيلاء على السلطة والإجهاز على الحكم الإمامي بعد وفاة الإمام يحيى الذي تجاوز عمره الثمانين عاما، غير أن خطأ حدث لم يكن في الحسبان، حيث سرت شائعة كاذبة تفيد بوفاة الإمام يحيى، وسارع الأحرار في عدن لنشر الخبر وإعلان قيام الثورة وأهم المشاركين في الحكومة الجديدة، ما دفع الأحرار في صنعاء للاستعجال بالثورة وتدبير عملية اغتيال الإمام يحيى، وهو ما تم أثناء جولة له في منطقة حزيز جنوب صنعاء، وأعلنت الثورة يوم 17 فبراير 1948م، الموافق 7 ربيع أول 1367هـ.

قتل الإمام يحيى ضمن خطة بديلة وضعها الثوار، وتضمنت أيضا اغتيال ابنه أحمد ولي العهد، لكن الأخير نجا وانتقل سريعاً إلى الحديدة بمساعدة بعض معاونيه، ومنها إلى حجة وهناك دعا القبائل لنصرته معلناً عزمه الانتقام لوالده القتيل، واستغل كون والده قتل وهو في طاعن في السن، وأخذ يؤلب القبائل ضد الثورة التي كانت قد أحكمت السيطرة على صنعاء وعدد من المناطق، وأعلنت عبدالله أحمد الوزير إماماً دستورياً، كما أعلنت تشكيل الحكومة ومجلس الشورى وأسماء كبار رجال الدولة.

تجاوبت قبائل شمال صنعاء مع دعوة أحمد حميد الدين سيما وقد أعلن إباحة صنعاء بما فيها للنهب، وهو ما دفع أبناء القبائل للمشاركة في مهاجمة الثورة وحكومتها الوليدة، وبدأت تحاصر صنعاء من جميع الاتجاهات، وبالإضافة إلى حشود أحمد المسلحة كان ثمة موقف إقليمي ودولي مناهض للثورة، خاصة وأن توقيتها جاء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث انتصرت قوى الاستعمار الغربي في الحرب وأخذت تحكم السيطرة على دول المنطقة العربية- بعضها باستعمار مباشر وبعضها الآخر بطرق غير مباشرة.

تآزرت عوامل داخلية وخارجية ضد الثورة اليمنية ما أدى إلى فشلها بعد 26 يوماً من قيامها، كافأ الطاغية الجديد أحمد أنصاره باستباحة صنعاء للنهب وأعلن نفسه إماما على منهج أبيه وأجداده السابقين، وتعرضت المدينة وأهلها لأبشع عملية سطو مسلح على وقع صرخات الغزو الهمجي: (نَصَر الله مولانا الإمام).

 

انتقام الكهنوت

بعدما تمكن الإمام أحمد من الحكم بدأ في ارتكاب أبشع الجرائم بحق الأحرار الذين شاركوا في الثورة، وكان انتقامه شاملا أغلب اليمنيين بما فيهم أقاربه وبعض إخوته دون مراعاة لأي قيم إنسانية واجتماعية توارث اليمنيون احترامها في السلم وفي الحرب على حدٍ سواء.

وسيق إلى سجون الإمامة خيرة أبناء الشعب، اقتادتهم زبانية الحكم الإمامي من مختلف المدن والمحافظات وساقتهم إلى سجون صنعاء وحجة، وكان للإمامة طريقتها الإجرامية في التعامل مع السجناء، يروي القاضي المؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع طرفاً منها بقوله:

أرسلنا من سجون صنعاء مكبلين بالسلاسل والأغلال الحديدية وعلى عنق كلْ واحد منا طوق حديدي جلف وعليه قفل غثيمي أجلف من نوع تلك الأقفال المحلية التي كانت تصنع باليمن والتي يكاد وزن بعضها يصل إلى وزن الرطل، ولكل منا جندي محافظ عليه لئلا يهرب، وموكل به ليسومه سوء العذاب ومن العجيب أن بيت حميد الدين وأسلافهم مثلهم لا يختارون لمثل هذه الوظائف الا العساكر القساة الاغبياء وكانوا يسمونهم – تضليلا بهم- حمران العيون ، فكانت السلاسل متصلة ببعضها من عنق أحدنا إلى عنق الآخر بحيث لا يستطيع أي من السجناء أن يتحرك، الا بما يعود على رفاقه بالمحنة والإضرار فتسبب ذلك في قدرتنا على المشي فأبطأت خطواتنا وقتلتنا الشمس وأذتنا الريح والبرد والغبار ووعورة الطريق .وقد طاف العسكر بنا على شوارع صنعاء للتشهير بنا وتعزيرنا، وتجمع الناس حولنا ورمتنا العوام والأطفال بكل الأوساخ وبذاءة الكلام وأشد التهم وكان كله شيء لا يطاق، حتى كادت نفوسنا ان تزهق من الغيظ وقد يتعجب أحدنا الآن كيف احتملنا ذلك وكيف لم نمت جميعاً من الغم والقهر، ولكن الله جل شأنه قوى عزائمنا ومنحنا الصبر والجلد وقوة الاحتمال لأننا كنا نستند إلى عظيم ايماننا بالله ورسوله وبعدالة رسالتنا التي حملناها في أعناقنا قبل أن يضعوا عليها تلك الاطواق الحديدية والسلاسل والأغلال فكانت درعا حصينا يقينا ضد الاهانات والتحقير والاذلال والعذاب الروحي والجسدي .

وما أصدق الشاعر الثائر الشهيد محمد محمود الزبيري حين وصف حال الأحرار لحظة اقتيادهم للسجون:

 

طافوا بهم حول صنعا يطمسون بهم

حقاً يضيق به الطاغي ويخشاهُ

وطوّقوهم جميعاً ضمن سلسلةٍ

من الحديد يهول الناس مرآهُ

يكب بعضهم بعضاً بمنكبهِ

وتلتقي أرجلٌ منهم وأفواهُ

إذا تحرك منهم واحدٌ فزع الْـ

باقون واضطربوا مما تجناهُ

كل امرئٍ منهم خطب لصاحبهِ

يؤذيه وهو بريء حين آذاهُ

ضاقت رقابهمُ في الغل واحترقتْ

أقدامهم من رحيلٍ طال منآهُ

اذا استغاث أسيرٌ من متاعبهِ

لبته بندقة الجندي ورجلاهُ

فنٌ من البطش والتعذيب مبتكرٌ

خليفة الله للأجيال أهداهُ

زلزلت عرش الإمامة

 

ورغم فشل ثورة الدستور وتعرض أبطالها للسجون والإعدامات الميدانية بصورة يومية، إلا أن الثورة نجحت في كسر هيبة التسلط الكهنوتي الذي اتخذ من الدين مبررا لحكمه المتخلف والمستبد، وكان من أبرز ما حققته الثورة أنها أزالت حاجز القداسة باسم الدين التي كان أئمة الكهنوت يغلّفون أنفسهم وحكمهم بها، ذلك أن أغلب المشاركين في الثورة حينها كانوا من العلماء الأعلام المعروفين ومحل ثقة الشعب، وكان فيهم المثقفون والأدباء وخريجو الجامعات في مختلف المجالات والتخصصات.

فشلت ثورة 1948 في القضاء على حكم الإمامة المستبد لكنها نجحت في دق المسامير في نعش الإمامة، ومهدت الطريق للثوار والثورة من جديد، وكشفت سوءة الحكم الإمامي وتخلفه وما يمارسه من تضليل وتزوير وتشويه، معتمدا على ثالوث الجهل والفقر والمرض، كي يمارس هواياته في تضليل الشعب والاعتداء على كافة حقوقهم.

اعتقد الإمام الطاغية أحمد أنه قد أجهز على الثورة والثوار بعدما ارتكب الجرائم عقب الثورة، لكن سرعان ما تبين له أنه كان واهماً، ذلك أن الثورة أصبحت روحاً تسري في أوساط الشعب، تنتظر الساعة المناسبة والتوقيت المقدر لها.

وصدقت مقولة الثائر العربي الشهيد (جمال جميل)، الضابط العراقي الذي قدم اليمن في مهمة تدريب الجيش اليمني، وبعد انتهاء مهمته آثر البقاء في اليمن والمشاركة في صناعة مستقبله، حيث كان أحد قادة ثورة الدستور 1948، وصدر أمر الإمام بإعدامه في ميدان شرارة –المعروف حالياً بميدان التحرير وسط العاصمة صنعاء، في أحد أيام شهر رمضان المبارك، وأمر الإمام بإحضار تلاميذه إلى الميدان ليروا إعدامه، لكنه وصل إلى المكان رافع الرأس محتفظاً بثباته وقوة شخصيته، نظر إلى تلاميذه وعلى وجوههم آثار الخوف والحزن لما يواجه أستاذهم وقائدهم، فخاطبهم بقوله: لا يخيفكم دمي الذي سيراق يا أولادي، والتفت إلى زبانية الطاغية أحمد وجلاديه وقال لهم بكل إباء وثقة: أحْبلناها وسوف تلد.

بالفعل صدق الرئيس الشهيد حين قالها وهو يواجه الموت راضياً مختاراً من أجل اليمن التي أحبها وأحبته، لم يعد لدى الإمامة وزبانيتها سوى القليل، فالثورة صارت حقيقة وأصبحت مسألة وقت لا أكثر، وغدا عرش الكهنوت على كف عفريت، فلم يستقر الحكم ولم يهدأ رغم كل جرائمه وظلمه وبطشه، نشبت حركة الجيش التي قادها البطل المقدم/ أحمد الثلايا عام 1955، ثم انتفاضة القبائل في عام 1959، وبعدها عملية الضباط الثلاثة الأبطال (اللقية والعلفي والهندوانة) عندما أطلقوا النار على الإمام أحمد في الحديدة عام 1961، ولم يتعاف جسده حتى صرعه الموت متأثراً بتلك الإصابة، ثم كانت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة (1962) التي اجتثت نظام الكهنوت من جذوره، وقذفت به إلى مزبلة التاريخ.

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية