زراعة الألغام.. “فاتورة ثقيلة” يدفع ثمنها اليمنيون حاضراً ومستقبلاً

سواء كنت يمنيًا أو أجنبياً، صغيراً أو كبيراً، لك- أو ليس لك- علاقة بالحرب المحتدمة منذ أكثر من سبع سنوات، وسواء كنت قريباً أو بعيداً من جبهات القتال قد تكون أحد ضحايا الألغام؛ إما قتيلاً أو جسدًا ممزّقاً. وسيكون ذلك اليوم أو غداً أو حتى بعد انتهاء الحرب بعشرات السنين، بمجرد مرورك بأي منطقة داخل 17 محافظة يمنية.

يتناول هذا التقرير تفاصيل الأضرار البشرية والمادية للألغام منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء وإسقاط مؤسسات الدولة في سبتمبر/أيلول 2014، ويستعرض خارطة انتشارها، وإحصائيات ما تم انتزاعه وما تبّقي منها تحت الأرض. مسلطاً الضوء على حياة ضحاياها وما يحتاجونه لإنهاء مأساتهم.

ويحاول التقرير استشراف حجم الخسائر التي يمكن أن تسببها الألغام خلال السنوات العشر القادمة، والفترة التي يمكن أن تستغرقها عملية التفتيش عن المتفجّرات وتطهير البلاد منها.


كلفة باهظة

كشفت إحصائية وثّقتها تسع منظمات حقوقية وإنسانية محلية، عن سقوط 6473 مدنياً بين قتيل وجريح في 1200 حادثة انفجار ألغام وعبوات ناسفة في 17 محافظة يمنية من أبريل 2014 وحتى مارس 2022. وبلغ عدد القتلى 2818 مدنيًا، منهم 534 طفلًا و177 امرأة و143 مسنًا، فيما أُصيب 3655 آخرين، منهم 854 طفلًا و255 امرأة و147 رجلًا طاعناً في السن.

ووثّق التقرير الحقوقي 823 حالة إعاقة، تنوّعت بحسب الإعاقة ونوع الضحايا بين 696 حالة بترت أطرافهم (من بينهم 163 طفلاً و63 امرأة و23 مسنًا)، و48 حالة إعاقة بصرية (منهم 22 طفلًا و6 نساء)، و19 حالة إعاقة سمعية (من ضحاياها 6 أطفال و4 نساء ورجل مسن).

ويلاحظ ارتفاع عدد ضحايا الألغام الأرضية منذ بداية حروب الحوثيين التوسّعية داخل اليمن، حيث تؤكّد تقارير سابقة أن ضحاياها في محافظات عدن وأبين والضالع ولحج في يوليو 2015 فقط “لا يقل عن 100 قتيل و225 جريح”.

في حين يشير مرصد الألغام الأرضية، وهو مبادرة دولية لمراقبة حظر الألغام الأرضية، إلى أن عدد ضحايا الألغام في اليمن بين عامي 2015-2016 “ناهز ثلاثة آلاف شخص”.

وتظهر تفاصيل الحوادث أن معظم الضحايا من طلاب المدارس والمزارعين ورعاة المواشي والنازحين والنحّالين والمغتربين العائدين من الخارج والمسافرين داخلياً، إضافة إلى الصيادين. ومن المواشي، الأغنام بأنواعها والجمال والحمير. وكذا الحيتان نتيجة ارتطامها بألغام بحرية.

وبالنسبة للخسائر المادية، يبيّن التقرير الحقوقي، أن الألغام ألحقت أضرارًا كلية وجزئية بـ5085 منشأة وممتلكات خاصة، منها 1543 منشأة سكنية، و320 منشأة تجارية وصناعية، و703 وسيلة نقل، و334 مزرعة. إضافة إلى نفوق 2185 رأس من المواشي.

كما تسببت بأضرار كلية وجزئية بـ511 منشأة عامة ومرافق خدمية، منها 93 مرفق تعليمي، و29 مرفق صحي، و55 مقر حكومي، و13 مقر خاص، و72 مسجدًا، و36 معلمًا أثريًا. إضافة إلى تدمير 120 طريق وجسر عبور، و93 بئر وخزان مياه.

 

بلد ملغوم

يقدّر مدير دائرة الهندسة العسكرية في الجيش اليمني، العميد محمد الفقيه، عدد الألغام والعبوات الناسفة ومخلفات الحرب التي تم انتزاعها خلال السنوات السبع بنحو (٤٥٩,٠٠٠)، منها 140 ألف لغم، و19 ألف عبوّة ناسفة، و300 ألف من مخلفات الحرب. مضيفاً في تصريح خاص لـ”يمن مونيتور” أن هناك ألغامًا كثيرة انتزعتها وحدات مشكلة حديثاً وأخرى من قبل المواطنين ولم يتم توثيقها.

ويؤكد العميد الفقيه، أن “مئات الآلاف من الألغام والعبوّات المتفجّرة التي زرعها الحوثيون ما تزال مدفونة في باطن الأرض، وتحتاج لجهود كبيرة لكشفها وانتزاعها وتطهير الأرض منها”.

ومن خلال حوادث الألغام وتصريحات فرق المسح الميدانية، فإن 17 محافظة يمنية من أصل 22 باتت ملوّثة بالألغام وهي: الحديدة، تعز، حجة، صعدة، الجوف، مارب، البيضاء، شبوة، لحج، أبين، عدن، الضالع، إب، صنعاء، الأمانة، ذمار، عمران. إضافة إلى عدد من الجزر اليمنية المنتشرة في البحر الأحمر قبالة سواحل محافظة الحديدة وقبالة سواحل محافظة حجة. كما نشر الحوثيين ألغامًا بحرية متنوّعة في المياه الإقليمية على امتداد سواحل اليمن الغربية.

وكانت القوات البحرية بالمنطقة العسكرية الخامسة، قد أعلنت اكتشاف وإتلاف أكثر من 52 لغمًا بحريًا حوثياً خلال 2021 منها 27 لغمًا أتلفتها خلال شهري نوفمبر وديسمبر من العام ذاته، إضافة إلى اعتراضها 5 زوارق بحرية مسيّرة “مفخخة” نشرها الحوثيون بأوقات متفرقة.

وحول أنواع الألغام البرّية، يوضح مدير دائرة الهندسة العسكرية، أنها تتنوّع بين ألغام مضادة للأفراد، ومضادة للدروع، وعبوات ناسفة، ومقذوفات حوّلها الحوثيون إلى متفجّرات.

وأوضح لـ”يمن مونيتور” أنهم (الحوثيين) يقومون بتجديد مخلفات الحرب الخاملة بإضافة إليها مواد متفجّرة منها مادة TNT والصواعق لمساعدتها في الانفجار، ويستخدمونها في تفخيخ المناطق الحيوية، رغم خطورتها الشديدة وصعوبة التعامل معها من قبل المهندسين.

 

نتيجة طبيعية

وحول حجم الخسائر التي كشفها التقرير، طلب “يمن مونيتور” تعليقاً من رئيس فريق الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات بإقليم سبأ، سليم علاو، والذي قال إنه “من الطبيعي جدًا أن يسقط هذا الرقم المهول من الضحايا في ظل حجم الألغام التي زرعتها جماعة الحوثي والتي تزيد عن مليوني لغم بلا خرائط”.

وذكر علاو، وهو أحد معدي تقرير المنظمات، أربعة أسباب أدت إلى ارتفاع أعداد الضحايا، أوّلها تعمّد الحوثيين زراعة الألغام بكثافة في “الطرقات العامة الإسفلتية والترابية، وداخل الأحياء السكنية وعلى طول الممرات المؤدية إليها، وفي الأسواق الشعبية والمزارع والمراعي وحتى في المرافق الخدمية، والأماكن الحيوية التي يتردد عليها المدنيون بشكل يومي”.

والثاني اتباعهم “أساليب مبتكرة لتطوير تلك الألغام، منها إضافة دواسات للألغام المضادة للدروع بحيث تنفجر بمجرد أن تلامسها أقدام المشاة وحتى المواشي، فضلاً عن الألغام الأخرى المموهة بأشكال الأحجار والتضاريس الطبيعية للمنطقة المستهدفة، وهو ما يصعب على المدنيين التعرف عليها لتجنبها. إضافة إلى ألغام أخرى على هيئة ألعاب وأدوات منزلية مألوفة وذات أشكال تجذب الأطفال تحديداً”.

وهذا ما أكّده أيضاً العميد الفقيه، الذي قال إن “الحوثيين، بمساعدة خبراء إيران، طوّروا الألغام المضادة للدروع وحوّلوها إلى ألغام مضادة للأفراد من خلال تزويدها بآلية تفجير معينة بهدف الإيقاع بالمدنيين، وتعمّدوا تمويه العبوات على شكل بلك وصخور وقوالب خادعة بما يتناسب مع المكان المستهدف.

مضيفاً أن هذا النوع من الألغام هو الأخطر والأشد فتكاً بالمدنيين؛ كونهم لا يستطيعون تمييزها حتى لو اقتربوا منها، ولا يستطيع اكتشافها والتعامل معها إلا المهندسين المدربين على ذلك”.

والسبب الثالث، وفقاً لعلاو، هو “غياب التوعية بمخاطر الألغام وأنواعها وأشكالها من قبل الجهات المعنية سواء كانت جهات رسمية أو منظمات تعمل في ذات المجال. فيما تمثّل السبب الأخير في “عدم إجراء مسوح ميدانية دقيقة للمناطق المأهولة بالسكان فور انسحاب الحوثيين منها وتطهيرها أو على الأقل وضع لوحات تحذيرية للأماكن الملوثة قبل عودة السكان إليها”.

 

أسر محطّمة

وعن أوضاع الضحايا، يقول علاو، إن “هناك أسر فقدت عائلها الوحيد، وأخرى فقدت أكثر من شخص وتعيش حالة هلع ورعب إلى جانب الحزن الذي خيم عليها. مضيفاً أن “معظم الأسر تواجه صعوبة كبيرة في توفير تكاليف علاج الضحايا بسبب حالة الفقر والفاقة التي تعيشها”.

وأضاف في حديثه لـ”يمن مونيتور” أن هناك “أشخاص أصيبوا بإعاقات دائمة، وتحوّلوا من عائلين لأسرهم إلى عالة عليها، ومعظم هؤلاء يعيشون في عزلة عن أسرهم ومحيطهم الاجتماعي، ويعانون من آثار نفسية سيئة للغاية بسبب إعاقاتهم وتشوهاتهم الجسدية”.

وإضافة إلى ذلك، قال الناشط علاو، إن هناك “أسر يمنية كثيرة فقدت مصدر دخلها الوحيد بسبب حقول الألغام التي زرعها الحوثيون داخل أراضيها وحقولها الزراعية، فيما فقد البعض قطيع مواشيهم أو خلايا النحل ووسائل النقل التي كانت تدر عليهم المال، وفوق ذلك باتوا محبوسين داخل منازلهم بعد أن بات خروجهم للبحث عن فرص عمل محفوف بالمخاطر”.

وطيلة سنوات الحرب التي ما تزال مستمرّة، اعتاد أطرافها على الاحتفاء بقتلاهم سواء أثناء عملية الدفن من خلال تنظيم المراسم ومواكب التشييع الشعبية والرسمية وإقامة مخيمات العزاء، أو بعد ذلك فيما ما يتعلق برعاية أسر القتلى بتخصيص المعونات الغذائية والمالية الشهرية أو المنح والامتيازات لأبنائهم، وهو ما لم يحصل عليه أي من ضحايا الألغام أو أسرهم المنكوبة.

وفي هذا السياق، يؤكد الحقوقي سليم علاو، أن هناك “تقصير كبير من قبل الجهات الرسمية في الحكومة وحتى المنظمات الإنسانية تجاه ضحايا الألغام، الذين يتجرعون مرارة الألم والمعاناة ولا يجدون من يوفر لهم ولو الحد الأدنى من تكاليف العلاج الباهظة”.

مبيّناً أن “بعض الجرحى لا تزال الشظايا تسكن أجسادهم، وبأمس الحاجة إلى تدخلات جراحية لاستخراجها، ومنهم من فقد حاستي النظر والسمع ومرت عليهم سنوات وهم على تلك الحالة لا يجدون تكاليف العلاج، والبعض الآخر بحاجة إلى أطراف صناعية، وآخرون تقرر سفرهم للعلاج في الخارج ولا يملكون القدرة على ذلك”.

وحول ما يجب فعله تجاه الضحايا، ذكر علاو، خمس خطوات على الجهات المعنية سواء في الحكومة أو المنظمات الانسانية القيام بها لرعايتهم وهي “تسفير كل من تقرر علاجهم في الخارج، وتغطية نفقات من يتلقون العلاج في الداخل، وتوفير أطراف صناعية لمن يحتاجون لذلك، وإنشاء مراكز دعم نفسي لضحايا الاعاقات الدائمة والتشوهات الجسدية، وإنشاء مراكز تدريب وتأهيل تنموية للضحايا لما من شأنه توفير فرص عمل لهم وإعادة دمجهم في المجتمع”.

 

خسائر مضاعفة

وعن الخسائر المستقبلية، يقول العميد الفقيه، إن جماعة الحوثي جعلت اليمنيين يدفعون فاتورة باهظة جراء الألغام التي تزرعها في الأماكن المرتبطة بحياتهم اليومية سواء في البر والبحر.. مشيراً إلى أن هذه الخسائر تتضاعف يوماً بعد يوم. وستظل الألغام أكبر الأخطار التي تهدد حياة المدنيين لسنوات طويلة.

وحول المدّة التي تستغرقها عملية تطهير البلاد من الألغام، قال: “نحتاج لأكثر من 20 سنة لتنظيف الأراضي الملوثة بالألغام والعبوات الناسفة ومخلفات الحرب، خصوصاً وأن المليشيا الحوثية تواصل إنتاج الألغام بكمّيات كبيرة وتزرعها بكثافة وبطريقة عشوائية.

ولفت الفقيه، إلى أن زراعة الألغام بطريقة عشوائية تشكّل خطراً حتى على الحوثيين أنفسهم، مستعرضاً حوادث انفجار ألغام تعرّض لها حوثيون بعد ساعات قليلة من زراعتهم لها “لأنهم يجهلون أين زرعوها في ظل عدم وجود خرائط أو إحداثيات تحدد أماكنها”. مؤكّداً أن هذه الممارسات تشكّل “عبئاً علينا وعلى المجتمع الدولي وعملية السلام في المرحلة القادمة”.

ومن جانبه، يرى الحقوقي سليم علاو، أنه “في حال استمرت جماعة الحوثي في زراعة الألغام وأصرت على رفض تسليم خرائط الألغام قد يصل عدد الضحايا خلال العشر السنوات القادمة إلى 10 أضعاف العدد الحالي”.

 

من المسؤول؟

وحول مسؤولية زراعة الألغام والخسائر الناجمة عنها، يقول “محمد الفقيه” مدير دائرة الهندسة العسكرية، إن العالم أجمع يعرف ارتباط الحوثيين منذ ظهورهم بأدوات الموت وأهمّها الألغام، بينما الجيش يعمل باستمرار على انتزاعها وتأمين حياة المواطنين وتوعيتهم بخطورتها.

ويضيف أن دائرة الهندسة العسكرية تواصل جهودها في نزع الألغام والمتفجّرات وتدميرها بالتعاون مع البرنامج الوطني للتعامل مع الألغام ومشروع “مسام” السعودي. كما تعقد دورات تدريبية في مجال التعامل مع الألغام لوحدات الجيش ودورات توعية للمواطنين بمخاطرها.

وفي ذات السياق، يقول علاو، إن “معطيات الواقع ونتائج تحقيقات وأبحاث فرقنا الميدانية تثبت أن جماعة الحوثي وحدها تنفرد من بين كل أطراف النزاع الراهن بزراعة الألغام والعبوات الناسفة، وبالتالي تتحمل وحدها كامل المسؤولية القانونية عن كل ما يترتب على ذلك”.

أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية