أحداث لا تُنسى: كيف أطاحت ثورة سبتمبر بحكم الإمامة؟
الضربة الطائفية القاضية على الوظيفة العامة.. قراءة في المدوّنة الحوثية للوظيفة العامة (دراسة)

مع أن السنوات الثمان التي حكم فيها الحوثيون- ولا يزالون-  أثبتت أنهم سلكوا مسلك  الإقصاء للوظيفة العامة،  لكل من لم يسر في ركبهم، ويتماشى مع سياساتهم، لكنهم تمادوا في ذلك أكثر، وراحوا يبحثون عن ما يحسبونه مسوّغات قانونية  للتخلّص النهائي من كل من لم يدن لهم بالولاء ظاهراً وباطناً، فعمدوا في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022م إلى إصدار  ما يسمّى بـ" مدونة السلوك الوظيفي،  وأخلاقيات العمل  في وحدات الخدمة العامة"، عبر " المجلس السياسي الأعلى"،  مصدّرة لها  بآية قرآنية كريمة، ثمّ عبارة لعبد الملك الحوثي،  ثم ستة فصول، تقع في 36  صفحة،  شملت التسمية والمبادئ والقيم والمسؤوليات والواجبات، والتعامل مع البيانات وتكنولوجيا المعلومات  والإعلام، وتعزيز النزاهة، ومكافحة الفساد، ثم أحكام وخاتمة.


منطلقات المدوّنة: الهويّة الإيمانية برؤية هلامية طائفية

تنطلق  المدونة مما تصفه بالهويّة الإيمانية. وهو الشعار الذي ترفعه، في كل مقام، وكأنه عملية فيزيقية قابلة للقياس، ولئن تمّ قياسه- جدلاً- فمعيار ذلك مطابقة الأيديولوجيا الخاصة بالحوثيين، وهي معتقدات طائفية خالصة،  لو لم يكن فيها سوى التركيز  على عقيدة الولاية بمفهومها " الشيعي" الخاص- كما سيرد لاحقاً-.  

 ومع أن المدونة  تمتنهن- في نظر كثير من المراقبين-   ما تبقى من كرامة الموظف العام، الذي هو محروم  حتى من الراتب منذ شهر  سبتمبر/ يوليو2016م ؛ إلا أنها زعمت أن أحد أهدافها لأساسية  " حفــظ الكرامــة الإنســانية للموظــف العــام، والمواطنـيـن، والمســتفيدين مــن خدمــات وحــدات الخدمـــة العامـــة المختلفـــة، مـــن خـــلال تعزيـــز المبـــادئ والقيـــم الأخلاقية المهنية  لدى الموظف  العــام والالتــزام بها،" ثم لا تتورع عن أن تورد الآية الكريمة:{ ولقد كرّمنا بني آدم } [الإسراء: من الآية 70وقوله – تعالى- :{ وقولوا للناس حسناً [ البقرة من الآية 83] ( )، وهو ما يرى فيه الموظفون الذين  يقعون تحت نطاق الجغرافية التي يسيطر فيها الحوثي، خاصة ممن لا يؤمن بأيديولوجيته، ولا يقبل المساومة على كرامته،  امتهاناً للكرامة الإنسانية للموظف غير مسبوق، واستخفافاً بقدسية القرآن الكريم والآيات التي تحث على كرامة الإنسان، على حين أن مسلك الحوثيين مجافٍ لذلك تماماً، حيث تجاوزوا نظام السخرة، التي يعمل المرء فيها مقابل غذائه وحاجاته إلى مجرّد القيام بمهامه، لخدمة  من يعدّونهم أسياد البلاد، من غير السماح له حتى بطلب حاجاته الأساسية!


خطب الحوثي وأخيه إطار مرجعي حاكمة على الدستور  اليمني:

تحدد المدونة  الإطار المرجعي لها في : القرآن الكريم والهدي النبوي، وعهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر، ودروس حسين الحوثي ومحاضراته،  وخطابات عبد الملك الحوثي، وما تصفه المدونة بـ" الهويّة الإيمانية"، والآداب والأخلاق الإسلامية ( ).كما ميّزت المدوّنة بين الإطار الرجعي والمراجع؛ حيث حددت الأولى بما قد رأيت أما المراجع فحدّدتها بالدستور اليمني والقوانين والأنظمة ذات العلاقة، ووثيقة الرؤية  الوطنية لبناء الدولة، واللوائح والعُرف الإداري،  والعادات والتقاليد الحميدة، ومدونات بعض الدول العربية( ). ويبدو أنه في عرف القائمين على صياغة المدونة فإن الإطار المرجعي حاكم على المراجع، وعلى ذلك فإن خطب حسين الحوثي ودروسه، وخطب أخيه  الشعبوية " الطائفية" حاكمة على الدستور اليمني، الذي لم يرد تصنيفه في الإطار المرجعي، بل في المراجع!

وإذا كان  من  غير المفهوم لدى كل من يعرف أبجديات في علم الإدارة كيف تصبح ملازم حسين الحوثي  ودروسه وخطب أخيه عبد الملك  إطاراً مرجعياً  لمدونة تزعم أنها معنية بشؤون الوظيفة العامة، على حين أن تلك الخطب والأحاديث مجرّد مواعظ طائفية مسيّسة، لا تمتلك الحدّ الأدنى من المعرفة الإدارية، ولا أنها في حسبان حسين وعبد الملك ابتداء ؛ فإن من الإمعان في الاستخفاف بالمقدسات العظمى  كالقرآن الكريم والسنة المطهرة، وضعهما  بجانب مواعظ طائفية خاصة، ألقاها حسين وعبد الملك، علاوة  على أن   الزعم بأن ما يقوم به الحوثيون من سحق لكرامة الموظف وتجويع  له وأسرته السنة بعد الأخرى،  يجد له مستنداً في القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو مسيرة الخليفة الراشد  علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- إساءة ما بعدها إساءة  إلى قدسية القرآن السنّة ومكانة علي – رضي الله عنه-. أما الحديث عن الهوية الإيمانية فحديث عبث محض، يراد به الاستهلاك ليس إلا، وكذا فإن الحديث عن الآداب والأخلاق الإسلامية، لا يجوز أن يوضع أمام الموظف؛ حتى تكون كل حقوقه الأساسية- على الأقل-  وبما يتناسب  مع الوضع المعيشي من النواحي كلّها قد  استجيب لها وتحققت ولو في الحدود المعقولة- ، وصدق من قال:" كيف تذلون الناس، ثم تأمرونهم بالجهاد؟" .

 

جناية الاستعارة العمياء:  والحكومة الناطقة باسم السماء

 وفي هذا السياق يتم الإيغال في الاستخفاف بالعناوين والمفردات وتجاهل الحقائق على الأرض،  حين يتم استعارتها من أيّة مدونة أخرى، في بلد مستقر، يلبّي فيه النظام الوظيفي القائم حاجات الموظفين ومطالبهم الطبيعية، فتظهر  المؤشرات بتلقائية، على حين تنعدم تلك الحاجات والمطالب في ظل الحوثيين وسلطتهم، فتأتي النتائج سلبية تلقائياً ، من غير حاجة للحديث عن مؤشر، ومع ذلك  يأبى القائمون على المدونة  إلا أن يمعنوا في الاستخفاف بالموظفين والرأي العام ومبادئ علم الإدارة ومختصيها، حين يأبون إلا أن  تنص مدونتهم  على عنوان" مؤشرات القياس"،  ثم تضع أول مؤشر " نسبة رضى  الموظفين، وإظهار مودتهم وارتياحهم  من الأداء العملي  لوحدات الخدمة العامة"( ) ثم تورد بقية المؤشرات وهي( ):

- سهولة وسرعة تقديم الخدمات

- نسبة الشكاوى المبلّغ عنها من قبل  المواطنين/الموظفين/ الجهات

- نسبة الانحرافات  في السلوك الوظيفي

- نسبة إنتاجية الموظف

- نسبة الهدر في  موارد جهة العمل

- العلاقات القوية والثقة المتبادلة بين وحدات  الخدمة العامة والموظفين والمجتمع

وللمرء أن يتساءل بعد ذلك، مادام ثمة إصرار  على  وضع المؤشرات من غير  التفاتة إلى المجتمع الذي توضع فيه، ومدى إمكان هذا القياس وتطبيقه :

كم يمكن أن تكون نسبة الرضا الوظيفي والارتياح لدى الموظفين؟ ثم كم نسبة السهولة؟ والسرعة في تقديم الخدمات؟  وكم نسبة الشكاوى؟  والانحرافات؟ والإنتاج؟ والهدر؟  والعلاقات؟!  وكل ذلك في ظل سلطة الحوثيين.

إن وضع المؤشرات وقياس  النسب لا يمكن أن يكون في ظل وضع شاذ عن كل الأنظمة الوظيفية في العالم، ومقلوب بالكامل، حيث  قاعدته الفساد، ورأس هرمه الإفساد، ومنهج مسؤوليه الكبار احتقار الموظف وتسخيره لخدمة رؤوس الفساد،  وتصوير كل من يختلف مع هوامير الفساد بانه ينازع سلطة الله في الأرض، " المنتجبة" من الله ،  وليس " المنتخبة" من الشعب،  ويحن إلى عهود الولاء لأمريكاـ ويناصر العدوان، ويتعامل مع المرتزقة...إلخ، ولا يظنن  أحد أن هذا  افتيات على الحوثيين، أو  مجازفة في القول، أو تعدٍّ  في الخلاف، بل  إن  هذا  قول   ضيف الله الشامي- على سبيل المثال-   وهو وزير إعلامهم وناطقهم الرسمي باسم حكومتهم، وعضو المكتب السياسي  لجماعتهم، حيث  يقول في تغريدة له على حسابه في تويتر في 12/تشرين الثاني/ نوفمبر2022م :" لمن  يشنّون هجومهم على مدونة السلوك الوظيفي: " مشكلتكم مع الله وتوجيهاته وليست مع أنصار الله، ولهذا نتفهم انزعاجكم"( )،  ولغة بابوية كهنوتية مغالية كهذه، هدفها إرعاب كل من يعترض على  المدونة،  إذ إن خلافه تجاوز  الخلاف مع البشر،  وانتقل إلى دائرة الخلاف مع الله ذاته!  مع أن هذه المدونة  العجيبة،  تنص في موطن آخر -سنأتي عليه على الفور- على حق الموظف  في التظلم والشكوى،  وما ذلك إلا لكي يستمر ذلك الوضع الشاذ المقلوب  لسلطتهم " الكهنوتية" إلى الأبد – كما يتخيّلون-!

 

 حقوق الموظّف: استخفاف بالموظف وحقائق الواقع تفضح الدعاوى:

و تمضي المدونة في هذا السياق بلا تردّد،  فيأتي الفصل الثالث تحت عنوان " المسؤوليات والواجبات" لينص في جانب الحقوق على:

- "  ضمـــان الحماية الكافيـــة للموظفين من أي اعتـــداء، أو تهديد، أو ابتـــزاز، أو ضغوطات تمارس عليهم ، بســـبب أداء عملهـــم وتمثيلهم أمام الجهـــات  المختصة  في  الدعـــاوى المرفوعة عليهم.

- الرعاية الشاملة للموظفين والاهتمـام بهم -مادًّيـا ومعنويـا- مـن خـال دعمهـم وتشـجيعهم، والعمــل علــى الارتقــاء بهم، وتكريمهــم، وإيجــاد الحلــول المناســبة للإشــكاليات الــي تواجههــم علـى المستويين الفـردي والاجتماعي.

- ضمـــانّ حـــق َّ الموظـــف في  التظلّم والشكوى مـــن أيّ  قـــرار  خاطـــئ اتخذّ بحقـــه، وفقـــا للإجراءات المنظمة لذلك. " ( ).

ثم يأتي في إطار هذه الحقوق كذلك النص على حقوقهم المختلفة، وتذيّل بعبارة تكسف لها الشمس ، وتخسف القمر،  وتنشق الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً،  من هول الحقيقة المفجعة على الأر،  الناطقة بخلاف ذلك تماماً، حيث يقول التذييل:" وبمنـأى عـن أيـة اعتبـارات ذات صلـة بالقرابـة، أو الصداقـة، أو المنفعة، ودون أي تمييـز، وفـق قواعـد الاسـتحقاق، والجدارة والتنافسـية، بحسـب الاحتيـاج الفعلـي، والمعاييـر المطلوبـة، والتقيـد التـام بالصلاحيـات، وإجـراءات العمـل المعتمـدة" ( ). ومن المعلوم لكل ذي عقل وحس ومتابعة، أن هدف هذه المدونة الجوهري ؛ إقصاء كل من لا يتمتع بأيّ من تلك الاعتبارات الضيّقة، وأن كل سياسات الحوثيين قائمة على تقريب الموالين لهم، وحصر معظم الوظائف في من ينتسب إلى سلالتهم، المعروفة بـ" الهاشمية السياسية"!

ومرة أخرى لا يدري المرء ما المقصود بتلك العبارات " ضمان الحماية الكافية للموظفين- الرعاية الشاملة للموظفين- ضمان حق الموظف، ناهيك عن عدم اعتبار صلة القرابة، أو الصداقة، او المنفعة....إلخ تلك  التي يشهد الواقع بعكسها تماماً، فلم تبلغ حالة الإذلال والإفقار  وانتهاك الكرامة بكل ما تحويه من دلالات، وقطع المرتبات على مدى ست سنوات متصلة، ووضع تلك المعايير الضيّقة للوظيفة العامة في الأولويات؛  إلا في هذا العهد الحوثي، الخارج عن سياق التاريخ والعالم المعاصر!

أما عن الواجبات العامة والمسؤولية الشخصية على الموظف فتنص المدونة في الجزء الآخر من الفصل الثالث : " المسؤوليات والواجبات" على ومسؤولية الموظفين تجاه الوظيفة العامة بتكاليف تشعر القارئ كأنما حقوقهم موفّرة ، مصانة، على خير وجه، ومن تلك الواجبات – مثلاً- :

" الالتزام بالـــدوام الرسمــي واحتـــرام وقـــت العمـــل ، والاســـتعداد للقيـــام بـــأيّ أعمـــال  إضافيـــة خـــارج وقـــت الـــدوام،  مـــتى مـــا كلـــف بذلـــك، وفقـــا لمقتضيـــات المصلحـــة العامـــة"( )، والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: أكل هذا الإلزام، مع استمرار كل تلك الانتهاكات في حق الموظف العام؟ ومع  استمرار قطع الراتب للسنة السادسة على التوالي؟!

 

واجب الموظف العام: محاربة ضحايا الحوثيين  والالتزام بالولاية الطائفية:

أما  أهم  الواجبات العامة والمسؤولية الشخصية على الموظف وأخطرها على الإطلاق فما تصّت عليه  في هذا  الجزء من الفصل الثالث  المتعلِّق بـ " المسؤوليات والواجبات" حين ألزمت الموظف بـ( ):

- تبــني المواقــف الواضحــة مــن أعــداء البلــد والأمــة،  والاشــتراك بفاعليــة في أنشــطة التعبئــة العامــة.

- الالتزام  بمبـدأ الولاية  لله عـز وجـل ورسـوله والذيـن آمنـوا، وذلـك بالاتبـاع الصـادق والعملي في الموقف والنظرة والتوجّه قال الله تعالى: { إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}[ المائدة: 55]  .

وهاهنا يتضحّ المغزى الصريح أكثر من  المدونة وأهدافها الحقيقية، التي حاول القائمون عليها المراوغة ببعض المفردات، شافعين لها بنصوص قرآنية ونبوية، في محاولة بث الرعب في نفوس المستهدفين،  لكي لا يعترضوا  على أحكام الله ورسوله – زعموا- والتعمية عن الأهداف الحقيقة وراء إخراج المدونة، في هذا التوقيت بالخصوص، وعلى رأسها  ماتضمنه هذا "الواجب"، الذي ينطلق من نَفَس حربي صَلف، ينسف كل أوهام الحديث عن تهدئة وإحلال سلام ومصالحة، بأيّ معنى، فالمدونة  تشترط على الموظف وتجعل ذلك من أولويات مسؤولياته أن ينخرط في إعلان تبني مواقف الحوثيين، والدفاع عن سياساتهم،  أيّاً كانت، ويلتحق بـ"فعالية " في إطار "التعبئة العامة"، التي يقودها الحوثيون، ضدّ ضحاياهم، ممن شرّدوهم، وأخرجوهم من ديارهم،  وأوغلوا في انتهاك حقوقهم المادية والمعنوية بأوسع المعاني،  فبدلاً من أن يسعى الحوثيون  للملمة كارثتهم، المتمثلة في استمرار حربهم على الشعب اليمني في أغلبيته، عوض تعزيز نفسية الانتقام والثأر من قبل المظلومين ضحاياهم،  هاهم أولاء  هنا يشترطون على كل من أصرّ إلا على أن يبقى في بلده، على رأس عمله،   متحمّلاً  أذى الحوثيين   وعنفهم وإرهابهم وتجويعهم، مع  استمرارهم في نعيمهم على حساب حقوق الموظفين والشعب كآفة، أن يثبت ذلك بالانخراط في  جوقة تبني مواقف الحوثيين وأن يتحمّل نتائج سياساتهم الخرقاء،  ويشترك بـ" فعالية" في تعبئتهم الحربية العامة.

ثم يأتي الواجب الأبعد  والأكثر فجاجة في الكشف – لكل من لايزال غير مدرك- عن  الأيديولوجية الحوثية الطائفية، التي يسعون  لفرضها على المجتمع اليمني كلّه- لو استطاعوا- حتى في الوظيفة العامة، التي يفترض أن تراعي كل أطياف المجتمع الفكرية والسياسية وخصوصياتهم المذهبية، وأن تبقى بعيداً عن أيديولوجية كل طرف ومذهبه الفكري والسياسي وحتى  الفقهي،   فالولاية التي يقصدونها في كل  أحاديثهم ومناسباتهم، هي الولاية بمفهومها الإمامي الجارودي الخاص، الذي لا يحمل سوى مدلول واحد لا ثاني له، وهو الإيمان بأن الولاية من بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم-  حق حصري لعلي بن أبي طالب وذريّته، بدءاً بالحسن والحسين، وانتهاء بذريتهما " البطنين"، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا تخرج عن ذلك، مع ما يحمله ذلك من اتهام للخلفاء الثلاثة قبله بمخالفة وصيّة النبي- صلى الله عليه وسلم-  واغتصابهم لحكم ليس لهم. وتأمّل هنا أن الحوثيين لا يعيرون اهتماماً لمن ينتسب إلى ذريّة الحسن والحسين، من المذاهب الإسلامية الأخرى، كالشافعية – مثلاً-  لكونه لا يعتقد اعتقادهم، ولا ينسجم مع مذهبهم حتى الفقهي منها، ولذلك فهم يسعون لفرض رؤيتهم الأيديولوجية والمذهبية بقوة السلطة، على الجميع اليوم أبناء البيئة الزيدية، الذين لا يؤمنون  بأفكار الحوثي ومعتقداته وسياساته، بمن فيهم موظفو الدولة،  وكذا من الشافعية أو سواهم ، وهاهنا لا مناص من التأكيد على أن الحوثيين لا يمثّلون  سوى أنفسهم  في عقيدة الولاية هذه، إذ الزيدية الحقيقية التي تمثّل فكر الإمام زيد بن علي وفقهه وموقفه من مبدأ الولاية هذا؛ مختلفة كليّة عن ما يسوّق له الحوثي، فموقف زيد التاريخي الشهير، الذي يكاد يمثّل إجماع المؤرخين المعتبرين من السنّة والشيعة- بمن فيهم  مؤرّخو الشيعة الإمامية الاثنا عشرية-  – وقوفه بشدة وحزم في وجه  كل من اشترط عليه ليبايعه على قتال خصومه، أن يرفض ولاية  أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما-  فقال مقولته المعروفة:  وزيرا جدي، لا أقول فيهما إلا خيرا، وحين عجزوا عن إقناعه بالنيل منهما، قالوا إذا نرفضك، فقال مقولته التاريخية، التي غدت عَلَمَاً على كل من ينال من أبي بكر وعمر :" اذهبوا فأنتم الرافضة"، وسمّوا منذ ذلك الحين بـ" الرافضة"، أما الولاية المقصودة في المدوّنة فهي ولاية يوم " الغدير"،  بدلالتها الشيعية الاثني عشرية، الجارودية المغالية، وليس بمعنى النصرة والتأييد، لعلي جرّاء ما أصابه من قيل وتناول له من بعض جنده ، حين كان قائداً عليهم في اليمن، ومما يؤكّد ذلك المدلول الطائفي الخاص أكثر استشهاد المدوّنة بالآية 55 من سورة المائدة: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ....} الآية، فهي عندهم من أقوى الأدلة على أنها نزلت في ولاية علي، بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم- مباشرة، على حين لا علاقة لها بذلك المدلول البتة، بل هي جاءت بعد  أن ذكر ت الآيات قبلها  نهي المؤمنين عن تولّي اليهود والنصارى، المعادين للإسلام والدّعوة، بدءاً من الآية 51 ، ثم قرّر الله-  تعالى - أن ولاية المؤمنين محصورة في الله ورسوله وعموم المؤمنين، مشيراً  إلى أبرز سماتهم، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة،  في حال من الخضوع، المشار إليها بالركوع، بمعنى نصرتهم وموالاتهم، وعدم معاداتهم وكراهيتهم، والوقوف مع  أعدائهم ضدّهم، وليس بمعنى مبايعتهم، أو تقديم أحدهم على سواه في الولاية العامة، أو أنها خصّت أحداً بعينه عليّاً أو سواه، أو أنه يجوز لأحد،  عليّاً أو سواه، أن يشغل باله أو يشتته  بأيّ شيء سوى استحضار عظمة الباري في صلاته، وهو بين يديه، ثمّ إن  حركة كالتي يتحدثون عنها، من الالتفات إلى السائل عن صدقة أثناء الصلاة،  وانتباهه إلى مطلبه، في ذلك الموضع – وهو الركوع- وقيامه   بإخراج الخاتم من يده، وإلقائه لهـ ، أثناء ركوعه، لا تليق بآحاد المصليّن، فكيف بصلاة عليّ -رضي الله عنه-؟ مع أن كل هذا  السرد،  يعدّ من الحركات المفسدة للصلاة، وفقاً   للفقه الهادوي الجارودي، فكيف يليق  أن يقع فيها عليّ- رضي الله عنه- وهو المشهور بأنه إذا دخل في الصلاة كأنما غادر الدنيا، وإذا قرأ آية من صفات الجنة ونعيمها مدّ يده كأنما يريد تناولها، وإذا قرأ آية من آيات جهنم وأهوالها، رجع إلى الوراء  لكأنما يشعر بأنه قد يقع في  النار، أو أنها تكاد تلفح وجهه،  ثم إن أيّ تفسير من ذلك القبيل،  مما يحتاج إلى دليل خاص ولا دليل، سوى الأوهام والظنون ولي أعناق النصوص، بما فيها حديث الغدير والسياق الذي ورد فيه! ولم يكن القرآن عاجزاً – أستغفر الله- عن أن يصرّح بأن الآية  نزلت في ولاية علي، وكونه الخليفة الأول المنصوص عليه، وأن الحكم محصور في ذريّته، عوض كل هذا الصراع الذي لحق بالأمة، جرّاء الفهم المسيّس الذي سعى للي عنق النص، كي يوافق مذهب  التشيّع  الاثني عشري والجارودي.

 

 تكميم أفواه الموظفين تجاه الإعلام ووسائل التواصل  وتكفير ضمني  لكل مخالف:

ونأتي إلى الفصل الرابع في المدوّنة وعنوانه:" التعامل مع البيانات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام"  لينص على جملة واجبات على الموظف العام منها" عـدم الإدلاء لوسـائل الإعلام أو النشـر في  وسـائل التواصـل الاجتماعـي، بـأي معلومـات أو تقـديم  أي وثائـق، أو مسـتندات، أو التعليـق، أو التصريـح، أو المداخلـة في  أي مواضيع خاصة، ذات علاقة بوحـدات الخدمـة العامـة وتخالـف التوجـه العـام والمصلحة العليا للدولة" ( ).

" مقاطعــة وســائل الإعلام المعاديــة والمشــبوهة والتحذيــر منهــا"  ( )، والأغرب  استشهاد المدوّنة بالآية الكريمة :{ وقد  نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم ، إن الله جامع الكافرين والمنافقين في جهنم جميعاً} [ النساء:140] ( ).

ولعلّ المطالع لمثل هذه النصوص يخلص إلى استنتاج مفاده أن أعلى درجات القمع المتنافية مع أدنى درجات الشفافية يمارسها الحوثيون على الموظف العام، بحيث يظل مستمرئاً لكل المخالفات الإدارية، على أيّ مستوى،  بما فيها من فساد، يتمثل في رشوة، أو محسوبية، أو  علاقات مشبوهة،  على حساب العمل، أو   خيانة لأمانة العمل، خاصة حين يتورّط فيها متنفِّذون  كبار، أو أيّ صورة من صور  الفساد.

أمّا المادة الأخرى  التي طالبت الموظف العام بمقاطعة وسائل الإعلام التي وصفتها بـ" المعاديــة والمشــبوهة والتحذيــر منهــا"  فالمراد بها وسائل إعلام الحكومة الشرعية، بالدرجة الأساس،  ولمّا لم يجد أصحاب المدوّنة ما يستندون إليه في فرضهم هذا  القهر على الموظف لجأوا إلى اعتساف مدلول الآية الكريمة من سورة النساء، المشار إليها آنفاً، مع أنها وردت في معرض التحذير للمسلمين  من  أيّ سماع منهم  للكفار، الذين يكفرون بآيات الله ويسخرون منها، ماداموا  يفعلون ذلك، على حين أن مفهوم الآية الكريمة عدم النهي عن الجلوس معهم، والتحدّث إليهم،  إذا  تبدّل موضوع حديثهم الكافر المستهزئ بآيات الله،  ولعلنا ندرك الآن مدى التضليل  في هذه المادة،  من جانبين الأول:  وصف ضحايا عنف الحوثيين وانقلابهم  بالمعادين المشبوهين، وكأن المطلوب أن يرفعوا  لهم القبعة، ويطالبونهم بمزيد من  الإيغال في عنفهم وجرائمهم،  والجانب الآخر: الوقوع في ما يشبه التكفير  لخصوم الحوثيين، حتى ممن وقع عليهم حيف الحوثيين وظلمهم وانقلابهم، حين يسقطون مدلول الآية الكريمة المشار إليها من سورة النساء عليهم، على حين أنها نزلت في الكفار الأصليين من أهل مكّة!

أ.د أحمد محمد الدغشي- أستاذ الفكر التربوي الإسلامي- جامعة صنعاء

موقع حكمة يمانية

أقراء أيضاً

التعليقات

ممارسات أدت إلى قرار البنك المركزي اليمني في عدن.


أخبار مميزة

مساحة اعلانية

رغم الحرب التي تشهدها اليمن، إلا أن عيد الأضحى والطقوس المرتبطة به ما زالت موجودة وتحظى بأهمية كبيرة بين الناس في اليمن.