"مدونة السلوك الحوثية".. أدلجة المجتمع وفرض هوية فئوية
منذ نحو شهرين، ينتظر سامي وهو موظف حكومي في صنعاء، اتفاقاً بين الحوثيين والحكومة اليمنية على صرف الرواتب المنقطعة، ضمن البنود المعلنة لتمديد الهدنة، لكن الأمور سارت في اتجاه آخر، عبر مجموعة من القرارات الجديدة التي اتخذتها جماعة الحوثيين في المؤسسات الحكومية للالتزام بالدوام الوظيفي فضلاً عن إعلان "مدونة السلوك الوظيفي" في مناطق سيطرتها.
"مدونة السلوك الوظيفي" التي دشنها الحوثيون في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، تضم مجموعة من "الضوابط الأخلاقية والدينية والوظيفية"، يلتزم الموظف بالعمل بها ويعاقب على مخالفتها. لكن تبعات هذه المدونة لا تتوقف على الموظفين ووضعهم المعيشي، بل إنها أثارت مخاوف كبيرة بسبب مرجعياتها والهوية الدينية الجديدة المفروضة فيها، والتي تحل مكان الهوية اليمنية.
يقول سامي لـ "العربي الجديد": "طلبوا منا أخيراً الالتزام بنظام البصمة في الدوام الحكومي، على الرغم من أننا لا نستلم رواتبنا، وكل ما نحصل عليه هو نصف راتب بين الحين والآخر، بالإضافة إلى معونات أشبه بالصدقات، ومع ذلك يتم تهديدنا بالفصل دائماً".
ويضيف: "الحوثيون استغلوا انتظار الناس لصرف الراتب لإعلان المسودة وتعميمها علينا خلال الأيام الماضية، يريدون منا الالتزام بالدوام وكل شيء، على الرغم من أننا نعمل مجاناً، وما زالت التهم تلاحقنا بالتخاذل، ويريدون أن نعمل ونبتغي الأجر من الله فقط".
ويقول رئيس المجلس السياسي للحوثيين (مجلس حكم الجماعة) مهدي المشاط إن "إطلاق العمل بمدونة السلوك الوظيفي وأخلاقيات العمل في وحدات الخدمة العامة، يجسد الاعتزاز بالهوية الإيمانية"، لافتاً إلى أنها "ميثاق شرف ملزم"، بحسب ما نقلت وسائل إعلام حوثية.
مرجعيات دينية لتجريف بنية الدولة اليمنية
تتضمّن المدونة التي اطلعت عليها "العربي الجديد"، مرجعيات دينية ذات خصوصية فئوية بجماعة الحوثي، بما يُعرف بالهوية الإيمانية، وهي عبارة عن ضوابط يقول الحوثيون إنها وفق التعليمات الدينية، بالإضافة إلى مرجعيات مذهبية. ونصت على أنها "تعتمد على الأسلوب التربوي بإقامة دورات للموظفين وضرورة التعهد الخطي بالالتزام بها من الموظفين".
ووفق ما ورد في المدونة "فإن المرتكزات الأساسية القرآن والهدي النبوي، وعهد الإمام علي إلى مالك بن الأشتر (رسالة بعث بها علي بن أبي طالب إلى الأشتر عندما ولّاه حكم مصر تتعلق بكيفية إدارة الدولة)، ودروس ومحاضرات من هدي القرآن الكريم (لزعيم الجماعة السابق حسين الحوثي)، وخطابات زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، بالإضافة إلى الهوية الإيمانية".
وتثير تلك المرجعيات جدلاً ورفضاً واسعاً في أوساط الكثير من اليمنيين. واعتبرت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، أن المدونة تهدف إلى أدلجة الوظيفة العامة، وتطييف المجتمع والدولة وفق أفكار جماعة الحوثي.
ويقول وزير الإعلام في هذه الحكومة معمر الأرياني، في تغريدات عبر "تويتر": "جماعة الحوثي من خلال المدونة تقايض الموظفين بالالتحاق بصفوفهم والانخراط في الأنشطة والطقوس الطائفية المستوردة من إيران، أو الفصل من الوظيفة". وأضاف: "جماعة الحوثي تسعى لتجريف بنية الدولة اليمنية وإعادتها قروناً للوراء، وشطب كل ما حققه اليمنيون خلال العقود الماضية من إنجازات على صعيد بناء الدولة وإرساء الحقوق والحريات العامة".
في المقابل، يقول وزير الإعلام في حكومة الحوثيين في صنعاء (غير معترف بها دولياً) ضيف الله الشامي رداً على الرافضين للمدونة: "لمن يشنّون هجومهم على مدونة السلوك الوظيفي، مشكلتكم مع الله وتوجيهاته وليست مع أنصار الله (الحوثيين) ولهذا نتفهم انزعاجكم"، وفق تعبيره.
خطة لتسريح الموظفين
ومنذ انتهاء الهدنة الأممية في اليمن في 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يرفض الحوثيون تمديدها قبل تنفيذ شروطهم، وأبرزها صرف رواتب الموظفين الحكوميين في مناطق سيطرتهم، من عائدات النفط الذي يتم تصديره من مناطق سيطرة الحكومة اليمنية.
ومنذ أغسطس/آب 2016 انقطعت رواتب الموظفين الحكوميين في مناطق سيطرة الحوثيين بعد إعلان الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي نقل مقر البنك المركزي من صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن، وعقب ذلك أسس الحوثيون نظاماً مالياً خاصاً بهم، مما أدى إلى انقسام نقدي في البلاد.
ولا تزال المفاوضات تجري من أجل الاتفاق على صرف رواتب الموظفين وتمديد اتفاق الهدنة، في ظل حالة التهدئة المستمرة في البلاد على الرغم من انتهاء الهدنة. ويرى مراقبون أن إعلان الحوثيين "مدونة السلوك الوظيفي"، هدفه ترسيخ الموظفين الموالين لهم وتسريح من لا يؤمنون بأفكارهم.
وبرأي الناشط السياسي اليمني محمد المقبلي أن "المدونة عنصرية، وهي أشبه بوثائق الرق الناعم، بموجبها يتحوّل الموظف إلى رهينة تحت قبضة محاكم التفتيش الإدارية الحوثية". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أنها "استباق لصرف رواتب الموظفين من قبل الحكومة الشرعية، والذي بدوره سيعزز الولاء للدولة اليمنية الحديثة ودستورها وتشريعاتها وقوانينها التي انقلب عليها الحوثي".
ويتابع: "خطورة المدونة الحوثية أنها تؤسس لجريمة سياسية وظلم اجتماعي كبير، فسياسياً ستؤدي إلى قمع سياسي للموظفين الجمهوريين، واجتماعياً سيتم تسريح آلاف الموظفين من غير المنتمين للأيديولوجيا السلالية".
حرب الهوية وتطييف المجتمع
خلال السنوات الماضية سبق أن أعلن الحوثيون سلسلة من الإجراءات التي من شأنها ترسيخ نفوذهم في السلطة والمؤسسات الحكومية المختلفة، لصالح مشروعهم السياسي والفكري، وأبرزها الولاية أو الحق الإلهي، والهوية الإيمانية، وسبق أن أعلنوا ميثاق شرف قبلي.
ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي عبد الكريم غانم إنه "قبل أن يسيطر الحوثيون على السلطة، كانت لهم تجربة ناجحة في توحيد مكوناتهم الاجتماعية السياسية، من خلال التوقيع على ما سُمي بالوثيقة الزيدية، التي أكدت التمسك بالحق الحصري للهاشميين في الحكم، وهو ما أسهم في تعزيز اللحمة الداخلية للجماعة".
ويضيف غانم، في حديث مع "العربي الجديد": "منذ أن سيطر الحوثيون على السلطة، يكاد اهتمامهم بالموظفين الحكوميين يقتصر على تلقينهم الدورات الثقافية، وخصصوا يوماً في الأسبوع لذلك، فالحوثيون لا يرون في الكادر الوظيفي للدولة سوى حقل لنشر أفكارهم الدينية ومعتقداتهم السياسية وأبرزها مفهوم الولاية، أي الإقرار بالأحقية الدينية في الحكم لزعيمهم عبدالملك الحوثي".
ويرى أن "الحوثيين يستهدفون من بوابة مدونة السلوك الوظيفي زراعة أفكارهم في موظفي المؤسسات الحكومية، بعد أن تم إحلال الهوية الإيمانية محل الهوية القومية في المناهج المدرسية، وفرض وثيقة الشرف القبلي لإخضاع القبائل المعارضة عام 2019".
ويعتبر غانم أنه "في حال نجح الحوثيون في فرض مدونة السلوك الوظيفي في المؤسسات الحكومية، لن تتردد الجماعة في فرض معتقداتها الدينية وآرائها السياسية كمدونة سلوك اجتماعي، يتم إجبار مختلف فئات المجتمع على القبول بها". ويتابع: "كلما أحرز الحوثيون تقدماً عسكرياً أو مكسباً سياسياً بادروا في إظهار بعض ملامح مشروعهم السياسي، ومدونة السلوك الوظيفي في طريقها لتصبح وثيقة عامة يوقّع عليها كل مواطن بالغ، حتى تغدو بمثابة عقد اجتماعي ينظم العلاقة".
وبحسب غانم، فإن مبررات فرض هذه المدونة تكمن في السعي لإذابة الهوية القومية لليمنيين، والتي تكوّنت في الماضي، لاسيما بعد قيام الثورة اليمنية في ستينيات القرن الماضي، حيث ارتبطت الهوية القومية بالنظام الجمهوري.
ويلفت إلى أن "هناك فراغاً في التثقيف السياسي يسعى الحوثيون لملئه من خلال هذه المدوّنات والوثائق التي تحاول إحلال الهوية التي شكّلتها الحركة الحوثية، محل الهوية القومية للحركة الوطنية خلال المائة سنة الماضية، لجعل فكرة الولاية المرتبطة بوصية دينية بديلاً للنظام الجمهوري المرتبط بإرادة الشعب، والديمقراطية، ومنظومة الحقوق والحريات".
ويشرح أنه "وفقاً لمدونة السلوك الوظيفي، تصبح فكرة الولاية لزعيم الجماعة عودة إلى الله وتصحيحاً لمسار الإيمان، ويصبح رفض التجنيد ورفض الانخراط في المعارك نفاقاً وخروجاً عن الدين وخرقاً للمدونة يقتضي العقاب". ويعتبر أنه "إزاء الإصرار على فرض هذه المعتقدات وتعميمها، ستضطر غالبية المجتمع للتظاهر بالتزامهم بما يفرضه الحوثيون وإخفاء هويتهم القومية تجنباً للعقاب
"العربي الجديد"
التعليقات