المقالح والبيان رقم واحد في اليمن
اشترك المقالح وعددٌ من زملائه الشباب في "ثورة سبتمبر 1962" من مكان عملهم في إذاعة صنعاء، وكان هو أحد ثلاثة اختيروا ليقرأوا بيان الثورة الأول على الأثير.
وفي رؤية المقالح، لا يقتصر مفهوم الثورة على تغيير نظام حكم قائم بنظام حكم جديد، بقدر ما هو منظومة متكاملة وشاملة، هادفة إلى إحداث ثورة تنموية وتنويرية وفكرية وثقافية. وحين خاب رجاؤه، انسحب!
في الثامن والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر 2022 توفي الشاعر والناقد اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح.
الشاعر الذي وُلد سنة 1939 في قرية "المقالح"، محافظة "إب"، وانتقل إلى صنعاء في سن السادسة ملتحقاً بمدرسة الإرشاد، كان قد استوعب في طفولته المبكرة قِسْطاً من معاني الثورة وأبجدياتها، حينما ترك صنعاء إلى مدينة "حجة" وهو في الثانية عشرة من عمره ليكون قريباً من والده الذي كان في السجن بتهمة التعاون مع الثوار.
طيلة النصف الأول من القرن العشرين، لم يحالف النجاح الثورة اليمنية، لا سيما أبرز محطاتها فيه: ثورة 1948، وانقلاب 1955، وانتفاضة 1959.
ثم حالفها النجاح في ثورة 26 أيلول /سبتمبر 1962، التي فجرها تنظيم "الضباط الأحرار" مستنداً إلى مؤازرة الشعب من جهة، وإلى دعم جمهورية مصر العربية ورئيسها حينذاك جمال عبد الناصر، من جهةٍ أخرى.
لقد اشترك المقالح وعددٌ من زملائه الشباب في ثورة سبتمبر هذه، من مكان عملهم في إذاعة صنعاء، حيث كان كثيرٌ من شباب الإذاعة واللاسلكي على اتصالٍ بقيادة الثورة قبل قيامها، وعلى استعدادٍ لتنفيذ كل ما تطلبُه منهم هذه القيادة.
بيان الثورة: صياغةً وقراءة
يؤكد المقالح -الذي اشترك في قراءة بيان الثورة - على أنه كان شاهداً على كتابة هذه الأهداف، وأن نسختها الأصلية ما زالت محفوظة حتى الآن، وأنها بخط الأستاذ محمد عبد الله الفسيّل. وهو مَنْ تناوب على قراءة بيان الثورة مع المقالح وعبد الوهاب جحاف.
حمل صباح "ثورة سبتمبر" تحولاتٍ جوهرية في الحياة اليمنية، فكانت إذاعة صنعاء مواكبة للحدث، بعد معركةٍ شرسة حولها أسفرت عن إحكام قوات الثورة سيطرتها عليها، ومنها أذاع الثلاثة بيان الثورة، فكانت أول الكلمات في تلك اللحظات: "هنا صنعاء.. إذاعة الأحرار.. إذاعة الثوار.. إذاعة الشعب.. إذاعة الجمهورية..".
وبعد هذه الكلمات، أُذيعت أنشودة "الله أكْبَرْ فوقَ كيد المعتدي"، حيث بحثوا عن أنشودة تواكب الثورة فعثروا على هذه الأنشودة بالصدفة، وفقاً لرواية محمد عبد الله الفسيل. بعدها، أُذيع الجزء الأول من بيان الثورة، والذي تضمَّن إعلان الثورة والجمهورية وسقوط الملكية. ثم تلاه الجزء الثاني متضمناً أهداف الثورة التي تبلورت من خلالها ملامح العهد الجديد وسياسة النظام الجمهوري.
بعد ذلك، توالى بثُّ الأنشودات الحماسية والفقرات والكلمات الثورية التي اشترك في تقديمها ـ مع المكلفين بقراءة البيان ـ عددٌ من الأصوات الإذاعية وأساتذة الفكر والكلمة، فأتى ذلك الصباح "أتى حاملاً على كتفه اليَمَن الجمهوري البديل عن اليَمَن الملكي" وأزاح الإمام البدر، واضعاً مقاليد الحكم في يدِ المشير عبد الله السلال.
ثورةُ الكلمة وريادةُ الحداثة والتنوير
في رؤية المقالح لا يقتصر مفهوم الثورة على تغيير نظام حكم قائم بنظام حكم جديد، بقدر ما هو منظومة متكاملة وشاملة، هادفة إلى إحداث ثورة تنموية وتنويرية وفكرية وثقافية. فالثورة في رؤيته تلك خيارٌ حتمي "لكي تقتلع الفساد من جذوره، وتضع الشعب وجهاً لوجه مع قدره الجديد ومع أحلامه في التغيير" .
وحينما لم تصلْ الثورة إلى هذا المستوى المأمول، تعاطى المقالح معها شعريّاً في قصيدته: "هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي" ، التي كتبها من بلد اغترابه الدراسي جمهورية مصر العربية، حيث ضمَّنها تذَمُّره واستياءه من عدم بلوغها غايتها المنشودة، التي كنى عنها بـ "الوَليْد" المختفي، متسائلاً عن سر اختفائه:
وليدُنا القادمُ المحبوبُ، كم ذهَبَتْ *** أحلامُنا تتَمَلّاهُ، وتبدعُهُ
كُنّا رأيناهُ في (أيلولَ) ممتشقًا *** حسامَهُ، في ضلوعِ الليلِ يدفعُهُ
فما لَنا، في منافي الشمسِ نطلبُهُ *** كيفَ اختفى أينَ يا صنعاءُ موقعُهُ
كما أضفى على سبتمبر/الثورة صفتي "الأسير والضائع" للتعبير عن تلك الحال التي أصيبت بها في مقتل:
أستودع الله في صنعاء لي قمراً *** في الأسْرِ، سبتمبرُ المهجورُ مطلعُهُ
رأيتُهُ في ظلامِ الليلِ مشتعلًا *** وهزّني في سُباتِ الكهفِ مدفعُهُ
أعادَ وجهَ بلادي بعدَ غربتِهِ *** وكان يحلمُ .. أنّا لا نُضيِّعُهُ
لكنه ضاعَ في أبعادِ خيبتِنا *** لا الوجهُ باقٍ ولا مَنْ جاءَ يرجعُهُ.
أسهم المقالح في فعل الثورة اليمنية فكان في طليعة الثورة الثقافية والفكرية، حيث شَرَعَ في وضع أسس الحداثة الشعرية في اليمن منذ سبعينيات القرن العشرين، وفي إثراء هذه الأُسس رؤىً وتنظيراً وكتابةً شعرية.
وعلى خطاه سار جيلٌ من الشعراء اهتدوا بتجربته، فبلغوا شأواً عالياً في كتابة القصيدة اليمنية الحديثة. وفي هذا السياق، كان المقالح رائداً للحداثة والتنوير في المشهد الثقافي اليمني، ضمن حركة التحديث والتنوير العربية، شعراً، وفكْراً، وثقافة.
"السفير العربي"
التعليقات