عبودية مقنّعة.. مهاجرون أفارقة في فخّ مزارع القات اليمنية
بعد رحلة هجرة شاقة من إثيوبيا، استقر محمد جمال (28 عاما) بإحدى مزارع القات اليمنية بمديرية "الرضمة" بمحافظة إب (130 كيلومترا جنوب صنعاء). يعمل مع أقران له أكثر من 15 ساعة يوميا، ورغم ظروف العمل المنهكة، لا يستطيع الفكاك لأسباب تتعلق بطبيعة العمل وإعالة أسرته في إثيوبيا، ومحاولته ادخار مبلغ من المال لاستكمال رحلته إلى السعودية.
أصبحت مزارع القات في اليمن تستقطب الكثير من المهاجرين الأفارقة، وفي غياب إحصاءات رسمية، يشتغل المئات وربما الآلاف منهم في ظروف أشبه بالسخرة لساعات طويلة مقابل مبالغ لا تتجاوز 50 ألف ريال يمني (90 دولارا) شهريا.
يستغل أصحاب المزارع ظروف هؤلاء الذين يفدون إلى اليمن بطريقة غير نظامية فيعلقون فيها، ويستثمرون كذلك أوضاع البلاد الأمنية وغياب القوانين والرقابة لاستغلالهم من أجل زيادة محاصيلهم وأرباحهم من زراعة القات.
اليمن - تحقيق القات
تتبعنا في هذا التحقيق قصص العشرات من المهاجرين الأفارقة في 3 محافظات يمنية، تعد الأكثر اعتمادا على زراعة القات، وهي الضالع والبيضاء وإب، ولكونها أيضا ممرا أساسيا في رحلة المهاجرين المفترضة إلى السعودية وباقي دول الخليج العربي.
التقى معدا التحقيق -على مدى 7 أشهر- 59 مهاجرا أفريقيا في المزارع التي يعملون بها بالمحافظات الثلاث، ونجحا في تصوير عدد منهم رغم رفضهم في البداية خوفا من مشغليهم.
كان الإثيوبي "محمد جمال" ضمن العمال الذين التقيناهم. دفع مبلغ 800 دولار للمهربين للوصول إلى اليمن، واستقر منذ سنتين في مزرعة قات بمديرية "الرضمة" بمحافظة إب وسط اليمن، ويسعى مذّاك لتوفير مبلغ 3 آلاف ريال سعودي (800 دولار) وهي تكلفة العبور إلى السعودية، كما قدّرها له أحد المهربين.
وصل الشاب المنتمي لمنطقة "أوروميا" إلى مدينة عدن في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في قارب تهريب ضمن فوج من 80 مهاجرا قدموا من جيبوتي، بينما وصل "أول علي" في مارس/آذار 2021 إلى عدن، قادما من الصومال رفقة 26 مهاجرا آخرين، واستقروا لاحقا كعمال في مزارع القات.
في مديرية "دمت" بمحافظة الضالع (200 كيلومترا جنوب العاصمة صنعاء) التقينا المهاجر الأثيوبي "أول علي" (18عاما) الذي يعمل هناك أيضا في مزرعة قات منذ نحو عام، مدفوعا بالحاجة لتأمين الطعام والمسكن وتكاليف استئناف رحلة التهريب إلى السعودية.
يقول علي إنه يتقاضى 60 ألف ريال يمني (نحو107 دولارات) شهريا، مقابل عمله بمزرعة القات، حيث يتكفل بشكل كلي بعملية العناية والحراسة، فلا يغادر المكان، وينام في غرفة الحراسة.
ورغم ظروف الاستغلال التي يدركها جيدا، يصر المهاجر الأثيوبي على مواصلة العمل في مزرعة القات، فهو مضطر للبقاء من أجل تأمين المبلغ اللازم للوصول إلى السعودية، كما يقول.
أرض القات.. العبور المضني
بالنسبة لمعظم المهاجرين الأفارقة، يعد اليمن معبرا وليس مستقرا. وتقدر منظمة الهجرة الدولية عدد الذين تقطعت بهم السبل في هذا البلد خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2022 بأكثر 43 ألف مهاجر. وحسب أحدث تقرير لها، فإن المهاجرين الأفارقة يتعرضون خلال مدة بقائهم في اليمن للاختطاف والابتزاز وسوء المعاملة والاستغلال، بما في ذلك العمل القسري.
ورغم الظروف الأمنية والاقتصادية التي يمر بها اليمن، يتواصل تدفق المهاجرين الأفارقة الجدد في قوارب صغيرة عبر جيبوتي والصومال عبر البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب وصولا إلى اليمن.
وقال مكتب المنظمة التابعة للأمم المتحدة باليمن في تقريره الشهري لتتبع حالات تدفق المهاجرين إن 34 ألفا و437 مهاجرا دخلوا اليمن خلال عام 2022 الفترة من يناير/كانون الثاني إلى يوليو/تموز مقابل 11 ألفا و555 مهاجرا وصلوا إلى الشواطئ اليمنية خلال نفس الفترة من عام 2021، وأكد أن الآلاف منهم يتعرضون لأشكال عدة من الاستغلال.
وخلال الفترة من عام 2010 إلى 2022، وصل إلى اليمن أكثر من مليون و200 ألف من المهاجرين وطالبي اللجوء من القارة الأفريقية، بحسب إحصائيات كل من منظمة الهجرة الدولية ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وتأتي غالبية هؤلاء المهاجرين من إثيوبيا والصومال وإرتيريا، ويغادرون هذه البلدان فرارا من البطالة والأوضاع الاقتصادية السيئة والقمع الأمني والنزاعات، وانتهاكات حقوق الإنسان، وهم يتخذون من اليمن نقطة عبور إلى بلدان الخليج بغية الحصول على فرص عمل ودخل أفضل.
ويفد المهاجرين الأفارقة إلى نقاط بحرية في 4 محافظات يمنية، أبرزها مناطق "رأس العارة" و"الغُصين" و"العزاف" و"بئر علي" و"عين بامعبد" في محافظتي لحج وشبوة (جنوب اليمن) وكذلك ميناءي "المخا" في تعز و"الخوخة" بالحديدة (غرب وجنوب غرب اليمن). وتعترضهم صعوبات جسيمة خلال رحلتهم البرية إلى السعودية.
يقول علي مياس، الباحث في منظمة "مواطنة لحقوق الإنسان" والذي يعمل حاليا على إعداد تقرير حول أوضاع المهاجرين الأفارقة باليمن خلال فترة النزاع المسلح "إن المئات من المهاجرين الأفارقة اضطروا بسبب حاجتهم للمال إلى الانخراط في أعمال تستغل أوضاعهم وجهودهم بشكل جائر".
وبحسب مياس، فإن المهاجرين يغادرون نقاط الوصول جنوب وغرب اليمن باتجاه مناطق الشمال وصولا إلى السعودية ليقطعوا مسافة تمتد لأكثر من 800 كيلومتر.
ويسلك هؤلاء 4 مسارات للوصول إلى السعودية، في رحلة تستمر لأسابيع يعبرون خلالها 15 محافظة يمنية: عدن ولحج وتعز والحديدة والضالع وإب والبيضاء وشبوة ومأرب والجوف وحضرموت وذمار وصنعاء وعمران وصعدة.
وبسبب نفاد أموالهم يلجؤون العمل بمزارع القات في عدد من مناطق العبور بظروف قاسية، خصوصا محافظات "الضالع" و"إب" و"البيضاء" لتوفير تكاليف المرحلة الثانية من رحلتهم.
يقول غالبية المهاجرين الأفارقة -الذين تحدثنا إليهم- إن صعوبات شديدة تعترضهم في طريق الهجرة إلى السعودية بسبب تشديدات مكثفة فرضتها المملكة مؤخرا على حدودها مع اليمن لمنع تسلل المهاجرين، حيث يضطرون إلى إطالة مدة البقاء في اليمن والانخراط في أعمال تعرضهم للاستغلال المفرط، وفق تقرير منظمة الهجرة الدولية.
استغلال وعبودية مقنّعة
أعددنا بهذا التحقيق استبيانا شمل عينة من 59 مهاجرا يعملون في 25 مزرعة موجودة في 6 مديريات تابعة لـ 3 محافظات، وهي: الضالع والبيضاء وإب، وشملت الفترة من أول سبتمبر/أيلول 2021 وحتى مايو/أيار 2022.
ووفقا لنتائج الاستبيان، عمل 38% من هؤلاء في مديريتي "قعطبة" و"دمت" بالضالع، بينما توزع 29% على مديريتي "الرضمة" و"النادرة" بمحافظة إب، و33% منهم في مديريتي "رداع" و"ولد ربيع" بالبيضاء.
وينحدر 42% منهم من إثيوبيا، و33% من الصومال، و25% من إرتيريا، ولا يملكون جميعا أي أوراق لجوء رسمية، أو تصاريح عمل.
ووفق تصريحاتهم، اضطر هؤلاء للانخراط في الأعمال القاسية بمزارع القات إما لتأمين احتياجاتهم خلال مدة الإقامة في اليمن أو بقصد جمع المال لاستكمال رحلاتهم صوب السعودية. ويبلغ متوسط الأجر الذي يتلقونه 40 ألف ريال يمني (70 دولارا) في الشهر، ويعملون لمدة 15 ساعة في المتوسط يوميا.
وتشير نتائج الاستبيان إلى أن 28% من المهاجرين ينوون مواصلة العمل في مزارع القات رغم عدم رضاهم عنه، ويعتزم 50% ترك العمل في أقرب وقت واستكمال مسارهم صوب السعودية، بينما يفكر 22% بالعودة إلى بلدانهم.
وتحدث معظم المهاجرين عن تعرضهم لانتهاكات داخل المزارع ترقى لمستوى الاستعباد، وتشمل العنف الجسدي واللفظي والإجبار على العمل المتواصل لمدة 19 ساعة أحيانا تحت الضغط الشديد، والحرمان من السكن اللائق ومن الطعام أحيانا ومن الراحة الأسبوعية كذلك.
تعرض الـ 59 عاملا الذين شملهم الاستبيان لشكل ما على الأقل من أشكال الاستعباد من قبل أرباب العمل. فقد شكا 30% منهم من التعرض لعنف لفظي وجسدي، وأجبر 30% على العمل لساعات متأخرة من الليل، وتعرّض 40% منهم إلى الحرمان من الطعام والمأوى. وبشكل عام، يعمل هؤلاء في مزارع القات ضمن ظروف عمل قاهرة، لا يقبل بها العمال اليمنيون الذين يتلقون أجورا بأكثر من الضعف.
وتبيّن من خلال شهادات العمال اليمنيين أن متوسط أجورهم يبلغ 120 ألف ريال يمني (نحو 220 دولارا) شهريا، مقابل 8 ساعات عمل يوميا، بينما يتلقى العمال الأفارقة 90 دولارا شهريا ويعملون لمدة 15 ساعة عمل يوميا كحد أدنى. كما يُمنح العمال اليمنيون إجازات تبلغ في المتوسط يومين شهريا، ولا يتمتع نظراؤهم الأفارقة بأي أيام راحة.
ويحظى العمال اليمنيون -بحسب شهاداتهم أيضا- بامتيازات أخرى لا يحظى بها نظراؤهم الأفارقة، فهم يتلقون معاملة أفضل وتقديرا أعلى، ويتم العناية بطعامهم، بل ويتم استضافتهم لتناول الطعام في منازل أرباب العمل، على عكس المهاجرين الأفارقة، الذين يُجلب إليهم الطعام إلى المزارع ويتناولونه فرادى.
حماية غائبة وقانون معطّل
وفق ما لاحظناه ميدانيا، وما ذكره العمال المهاجرون في الاستبيان، تتنافى ظروف العمل في هذه المزارع مع بنود "اتفاقية الهجرة في أوضاع تعسفية وتعزيز تكافؤ الفرص والمعاملة للعمال المهاجرين" الصادرة عن منظمة العمل الدولية، والتي تنص على ضرورة حماية العمال المهاجرين من ضروب الاستغلال.
ولم يصادق اليمن على هذه الاتفاقية، ولا يملك آليات تشريعية منصوصا عليها في الدستور تضمن حماية العمال المهاجرين بطريقة غير نظامية، فالبلد ملزم بحماية اللاجئين الذين يملكون وثائق لجوء رسمية فحسب.
في هذا السياق، تقول المحامية هدى الصراري رئيسة منظمة "دفاع للحقوق والحريات" إن الجهة المعنية بحماية المهاجرين الأفارقة في اليمن هي منظمة الهجرة الدولية "لكن كل من التقيناهم أكدوا أنهم لم يحصلوا على أي من أشكال الحماية أو المساعدة لا من منظمة الهجرة الدولية ولا من غيرها".
وأقر معظم ملاك مزارع القات الذين التقيناهم ضمنيا باستغلالهم للمهاجرين الأفارقة، مبررين ذلك بكون الأجر يتناسب مع نسق الإنتاج والدخل المالي للمزارع، واعتبروا أن المسألة برمتها محكومة بالأمر الواقع والظروف المتردية للعمال والمزارعين معا.
وقصدنا 22 من مالكي مزارع القات الذين يُشغِّلون عمالا أفارقة، ورفض أغلبهم الحديث معنا، بيد أننا تمكنا من توثيق شهادة أربعة منهم خلال الحديث إليهم. يملك اثنان منهم مزارع قات في محافظة الضالع، بينما يملك الثالث مزرعة في محافظة "إب" في حين ينتمي الرابع إلى محافظة البيضاء ويملك مزرعة هناك.
وتعد أرباح محاصيل القات الأعلى من بين كل المحاصيل الزراعية الأخرى في اليمن، فهو منتج زراعي يُستهلك بشكل يومي، ويصل متوسط الأرباح السنوية لمزرعة متوسطة من القات إلى نحو 6 ملايين ريال يمني (11 ألفا و100 دولار) وهي نسبة تتجاوز الأرباح السنوية لمزرعة من الخضراوات بنفس الحجم والمساحة بنحو 30 ضعفا وأكثر أحيانا، وذلك وفق شهادات متعددة لمزارعين التقاهم معدا التحقيق.
القات (الاسم العلمي: Catha edulis) هو أحد النباتات المخدرة تزرع في اليمن وبلدان شرق أفريقيا، منها الصومال وإثيوبيا وكينيا، ويُستهلك بشكل يومي في اليمن، ويعد جزءا من ثقافة اليمنيين وعاداتهم الاجتماعية، كما يعتبر أحد أبرز مصادر الدخل الاقتصادي في البلد. وتحتوي نبتة القات على مينوامين شبه قلوي يدعى "الكاثينون" وهو شبيه بأمفيتامين منشط، وقد صَنفته منظمة الصحة العالمية كمخدر ضار يتسبب في حالة خفيفة أو متوسطة من الإدمان.
ويصل متوسط حجم الإنفاق السنوي على زراعة القات في اليمن نحو 1.2 مليار دولار، ويحتل المرتبة الأولى في المحاصيل النقدية بالبلد، وتمثل الأرباح السنوية له نحو 10% من نسبة إجمالي الدخل المحلي السنوي لليمن.
وتبين هذه الأرقام والإحصاءات أن مُزارعي القات هؤلاء يحصلون غالبا على أرباح سنوية كبيرة من عائدات المحاصيل، بينما يدفعون أجورا ضئيلة للعمال الأفارقة وهو ما يفنّد تبريراتهم بشأن قلة العوائد المالية غير حقيقة، وبالتالي الاستغلال المفرط لعمالهم.
أما بشأن وجود الأشكال الأخرى من الاستغلال، فقد تملص 3 من أرباب العمل من الإجابة عن أسئلتنا المطروحة بشأن ذلك، بينما أقر رب العمل الرابع المدعو "صالح الحيقي" المنتمي لمحافظة البيضاء بوجود "ممارسات عبودية" قائلا إن بعض المزارعين يمارسونها ضد الأفارقة الذين يعملون لديهم.
وتواصلنا -عبر البريد الإلكتروني- بمنظمة الهجرة الدولية، لمعرفة ردها بشأن غياب دورها في حماية العمال الأفارقة من صنوف الاستغلال والأعمال الشاقة، لترد بالقول إنها تعجز عن الوصول لكل المهاجرين الأفارقة في اليمن "لأسباب تتعلق بالفوضى الأمنية الحاصلة في البلد".
أما وزارة حقوق الإنسان التابعة لحكومة صنعاء (الحوثيين) فقد أقرت على لسان وكيلها علي صالح تيسير بأنهم لا يعلمون شيئا حول استغلال المهاجرين الأفارقة بمزارع القات، وأنهم مستعدون لحل المشكلة في حال وصول أي شكاوى إليهم.
وفي حين تبحث منظمة الهجرة الدولية إمكانية الوصول إلى المهاجرين وتنتظر الوزارة الشكاوى التي لن تصل إليها، لا يملك "أول علي" و"جمال" وآلاف غيرهما القدرة على تقديم أي شكوى، فهم يسابقون الزمن للحصول على المال الكافي للوصول إلى الحدود السعودية لاستكمال رحلة البحث عن مستقبل أفضل، ويتحملون في سبيل ذلك العمل المضني والأوقات العصيبة في مزارع القات.
التعليقات