معالجة أوضاع المبعدين الجنوبيين .. دلالات التوقيت ومحاولات التسويق
أصدر الدكتور/ رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي- القائد الأعلى للقوات المسلحة يوم الاثنين الماضي القرار رقم (42) لسنة 2023، القاضي باعتماد قرارات لجنة معالجة المبعدين، وتتضمن ترقيات وتسويات أكثر من خمسين ألف من الموظفين المدنيين والأمنيين والعسكريين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية بعد حرب صيف 1994.
وتعد قضية المبعدين العسكريين والأمنيين من أبرز القضايا التي ظلت عالقة بدون معالجات، وبسببها انطلقت فعاليات المتقاعدين في المحافظات الجنوبية في العام 2007، وتصاعدت بعد ذلك لتصبح حركة احتجاج واسعة تُعرف باسم الحراك الجنوبي، وقد أثيرت هذه القضية بعد الثورة الشعبية والبدء في ترتيبات انطلاق مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وصارت مطلباً لكثير من القوى السياسية والمكونات الثورية، وتفاعل معها الرأي العام في الداخل والخارج.
وقد أصدر الرئيس عبدربه منصور هادي قراراً لمعالجة الموضوع، وهو القرار رقم 2 لسنة 2013، و قضى بتشكيل لجنة معالجة قضايا الموظفين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية، برئاسة القاضي سهل محمد حمزة، وهي اللجنة التي كانت حاضرة هذا الأسبوع خلال توقيع الرئيس العليمي قراراته الأخيرة، ومن جانبهم أشاد أعضاء اللجنة بهذه القرارات، واعتبروها ضمن إجراءات جبر الضرر ومعالجة مظالم الماضي، مع ضمان عدم تكرارها.
وتضمنت القرارات اعتماد معالجات لجنة الموظفين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية في المجال المدني والأمني والعسكري، والمتقاعدين والمنقطعين من الصف والضباط والجنود من منتسبي القوات المسلحة ووزارة الداخلية، والأمن السياسي (المخابرات العامة)، وذلك بالإعادة للخدمة والترقية والتسوية والإحالة إلى التقاعد وفقاً لقرارات اللجنة.
الحوار الوطني يبدأ المعالجة
تعود قضية معالجة المبعدين ومحاولات حلها إلى الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة، بعدما تم التوقيع على المبادرة الخليجية التي تضمنت تسليم السلطة للرئيس هادي – كان حينها نائباً للرئيس صالح، وتشكيل حكومة وفاق مناصفة بين الحزب الحاكم وتكتل المعارضة، لتبدأ الفترة الانتقالية وفق ما نصت عليه المبادرة التي تضمنت انطلاق حوار وطني شامل بمشاركة مختلف القوى والتيارات السياسية اليمنية.
وفيما بدأت ترتيبات انعقاد المؤتمر طرحت قضية المبعدين بقوة، وشددت القوى السياسية على ضرورة وضع المعالجات والحلول المناسبة لها، كجزء من إجراءات التهيئة والإعداد لمؤتمر الحوار الوطني، وعندما أصدر الرئيس هادي قراراً بتشكيل لجنة معالجة أوضاع المبعدين قوبل ذلك بارتياح كافة القوى والأوساط المجتمعية لأنه كان مطلب الجميع.
وفور تشكيلها بدأت اللجنة تستقبل أصحاب الشأن من المبعدين، واستمرت اللجنة تقوم بعملها بوتيرة عالية تسابق الزمن، فيما كانت بعض مكونات الحراك الجنوبي خاصة التي ارتبطت بالمشروع الإيراني- تعمل على إعاقة اللجنة بافتعال أعمال العنف والفوضى بهدف إيقافها، ضمن مخطط إيراني يسعى لعرقلة حكومة الوفاق والتهيئة لجماعة الحوثي.
كما أن بعض أنصار الحراك الجنوبي كانوا ينظرون إلى أن هذه المعالجة سوف تحرمهم من توظيف القضية في خطابهم السياسي الداعي للانفصال، ومع كل تلك العوامل والمعوقات فإن اللجنة واصلت عملها بدعم الرئاسة والحكومة والقوى والأحزاب السياسية والمكونات الثورية التي اتفقت جميعها على أهمية وضرورة هذه الخطوة.
وتواصلت جهود الرئاسة ولجنة المعالجة في العمل على تسوية أوضاع عشرات الآلاف من المبعدين، رغم أن الظروف المحيطة كان يشوبها كثير من العراقيل، مع الإقبال المتزايد ممن تعرضوا للإبعاد والتهميش خلال السنوات الماضية، ومع وجود التوترات الأمنية والحوادث التي كانت تؤدي إلى عرقلة عمل اللجنة.
وبدأت اللجنة بمعالجة وتسوية أوضاع المبعدين، حيث تمت إعادة أول دفعة إلى أعمالهم في شهر سبتمبر 2013، ويبلغ عددهم بحسب قرار اللجنة 795 فرد، وضمنت اللجنة حينها استكمال الإجراءات القانونية المترتبة على عودتهم إلى العمل، للاستفادة من استراتيجية الأجور التي بدأ تطبيقها وهم في حكم المبعدين أو المتقاعدين، وتتابعت قرارات التسوية الصادرة عن اللجنة وشملت آلاف المبعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين في قطاعات عسكرية وأمنية ومدينة مختلفة.
والملاحظ في هذا السياق أن قرارات الرئاسة الأخيرة استندت بدرجة رئيسية على المبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم (2) لسنة 2013م، بشأن إنشاء لجنة معالجة قضايا الموظفين المبعدين عن وظائفهم في المجال المدني والأمني والعسكري بالمحافظات الجنوبية وتعديلاته. وهذه الوثائق والقرارات تمثل الأسس المرجعية لتسوية أوضاع المبعدين.
دلالات التوقيت
يثير صدور القرارات في هذا التوقيت عدداً من الأسئلة، بعدما بدا أن صدورها تأخر كثيراً عن موعدها الذي كان متوقعاً، خاصة وأنه مضى على تشكيل هذه اللجنة عشر سنوات تقريباً، وبعض المشولين بهذه القرارات توفاهم الموت في السنوات الماضية. كما أن هذه القرارات جاءت بعد أيام فقط على عقد اللقاء الذي نظمه المجلس الانتقالي الجنوبي لحلفائه ومؤيديه، وخرج بعدة وثائق تتعلق بترتيب خطواته لانفصال الجنوب بحسب إعلانه. لذلك تذهب بعض التقديرات إلى أن هذه القرارات سوف تسحب البساط من تحت أقدام الانتقالي الذي يعتبر أكثر المزايدين بموضوع المظالم الناتجة عن حرب 1994 وما تعرض له المبعدون من وظائفهم، في حين تذهب قراءات أخرى إلى أن هذا الأمر جاء بالتوافق مع قيادة الانتقالي لضمان تهدئة الشارع بعد تسخينه خلال فترة اللقاء والأيام اللاحقة، ومن مصلحة قيادة الانتقالي أن يهدأ الشارع لضمان استمرار بقاء القيادة شريكاً في الحكومة من ناحية، ومستفيداً من تزعم حركة الاحتجاج الانفصالية من ناحية أخرى. بينما هناك من يرى أن الموضوع ليس له علاقة بالانتقالي ولا مناوراته، بقدر ما هو إجراء اكتملت خطواته فتم إصدار قراراته، وهي في الأساس استكمال لخطوات وإجراءات سابقة بدأت في العام 2013، وشملت المعالجات التي تضمنتها قرارات اللجنة آلاف المبعدين.
وبحسب المراقبين والمحللين فإن هذا الموضوع يحمل دلالات وأبعاد عديدة، فالأمر رغم أنه تأخر كثيراً لكنه لا يزال مناسباً، والمستفيدون منه يتجاوز عددهم – بحسب القرارات- خمسين ألف شخص، ما يعني أكثر من خمسين ألف أسرة، وهذا أمر في غاية الأهمية- على الأقل في مضامينه الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية.
ولا يمكن النظر إلى هذه القرارات وتوقيتها بمعزل عن السياق الزمني الراهن الذي يشهد جهودا خارجية لإيقاف الحرب في اليمن، والتوجه نحو السلام، ومن الأهمية بمكان أن تعمل الحكومة المعترف بها دولياً على إنجاز القضايا العالقة وحلها بعدما ظلت سنوات طويلة بدون حلول، وهذه المعالجات من شأنها تخفيف حدة الاحتقان الشعبي تجاه تقصير الحكومة في كثير من المجالات وفي مقدمتها الخدمات الأساسية وتردي الوضع الاقتصادي، وكثير من جوانب القصور تتعلق بالجوانب المعيشية وعدم تسليم الرواتب في وقتها، في ظل تدهور سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية.
كما لا يمكن إغفال عوامل واعتبارات تتجاوز الداخل اليمني، لأن احتمال وجود ضغط خارجي- إقليمي أو دولي لمعالجة هذا الموضوع يظل احتمالا وارداً، لأن القضية معروفة وطرحت على نقاشات واسعة قبل أكثر من 10 أعوام، وهناك التزامات كثيرة بالعمل على معالجتها، سيما من دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، لأنها قضية إنسانية بدرجة رئيسية.
ووفقاً للقرارات نفسها فإن المعالجة هي بالأساس جزء من جبر الضرر ومعالجة آثار الماضي وتبعاته، وقد تجلت معالجات الموضوع قبل وأثناء انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل ووثيقة المخرجات التي تضمنت حل القضية الجنوبية وضماناتها، وكل هذا كان جزءاً لا يتجزأ من تفاهمات المرحلة الانتقالية التي أدارتها القوى السياسية بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.
الانتقالي ومحاولات التسويق
بعد صدور القرارات الرئاسية سارعت الآلة الإعلامية للمجلس الانتقالي كي تسوق نسفها كما لو كان هذا العمل نتيجة لجهود الانتقالي وقيادته، وهي محاولة تتكرر مع كل حادث وحديث، حيث يسعى الانتقالي لركوب الموجة واستغلال القرارات في الترويج والدعاية الإعلامية، رغم أن موضوع المبعدين وقرارات معالجتهم طرح في الساحة قبل تشكيل الانتقالي نفسه، وظل هذا الموضوع يتصاعد ويتوسع أنصاره ومؤيدوه من جميع الكتل والتيارات اليمنية، وكان أحد موضوعات الحوار الوطني، ومع ذلك فقد سعى الانتقالي لقطف ثمار غيره، وهو يظن أن هذا التسويق سوف يجد من يصدقه.
ولكشف علاقة الانتقالي بالموضوع نورد النقاط التالية:
- المجلس الانتقالي الذي تدعمه دولة الإمارات، على التشكيلات المسلحة التي أنشأتها ودعمتها الإمارات- بحيث أنه أسقط هذه الآلاف من العسكريين والأمنيين المبعدين من حساباته، ولم يستوعب سوى عناصر قليلة لأسباب واعتبارات خاصة وبصفة فردية وشخصية، والمعروف أن الانتقالي حينما يتحدث عن قواته المسلحة لا يقصد هؤلاء الذين يتجاوزون خمسين ألف فرد، وإنما يقصد عناصر التشكيلات المسلحة في الحزام الأمني والعاصفة والصاعقة وغيرها. وهذه القوات التي كانت تتسلم رواتبها من الإمارات، وفي الفترة الأخيرة تعتمد على ما يمنحه لها الانتقالي من الموارد التي استولى عليها في عدن، وهذا يؤكد أن آلاف المبعدين المشمولين بقرارات الرئاسة خرجوا من حسابات الانتقالي نهائياً.
- في مختلف خطابات الانتقالي وبياناته اليومية لا يتناول هذا الموضوع ولا يتحدث عن مظلومية أصحابه، وصار حديثه في أكثر حالاته مركزاً على توسيع رقعة سيطرته ومهاجمة المؤسسات الرسمية التابعة للحكومة الشرعية رغم أنه أصبح جزءاً منها منذ توقيعه على اتفاق الرياض في نوفمبر 2019 ومشاركته في مشاورات الرياض في أبريل 2022.
- الانتقالي يطالب في كل خطاباته بانفصال الجنوب عن الشمال، ومن باب المنطق كيف يسعى لإعادة آلاف الجنوبيين من العسكريين والأمنيين والمدنيين إلى أعمال ووظائف مرتبطة بدرجة رئيسية بالدولة اليمنية الموحدة التي يسعى الانتقالي للانفصال عنها، خاصة إذا كانت قرارات التسوية والمعالجة تستند على وثائق وقرارات ومخرجات يزعم الانتقالي أنه يرفضها وأنها لا تعنيه، وهي المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني الشامل. وتأتي تصريحات القيادي في المجلس الانتقالي ناصر الخبجي حول القرارات الأخيرة لتكشف الموقف الحقيقي للمجلس من القرارات ومن القضية بشكل عام، واصفاً القرارات بأنها تسويق سياسي وإعلامي لما سماه الوهم. وهو ما يؤكد أن القرارات جاءت بعيداً عن الانتقالي وحساباته ذلك أنه أكثر المستفيدين من بقاء المظالم على حالها ليضمن ابتزاز القوى السياسية من خلالها.
ختاماً
معالجة أوضاع المبعدين قضية على قدر كبير من الأهمية، وأي جهد يصب في صالحها يعتبر جهداً مشكوراً ويجب مؤازرته وتشجيعه والإشادة به، والنظر إليه بموضوعية وإنصاف، ولكن تبقى هناك مسألة في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وهي آلية تنفيذ القرارات التي يتعين على الحكومة اتخاذها لتسهيل تطبيق القرارات وبما يضمن حصول المشمولين على حقوقهم وعدم إهدار أوقاتهم وجهودهم في متابعات وإجراءات مطولة ومعقدة، وعلى الجهات الحكومية القيام بعملها في هذا الجانب وما يشتمل عليه من ترتيبات مالية وإدارية وقانونية.
التعليقات