"مبدعون" بقلوب بلاستيكية!!
الأديب والفنان والكاتب والمثقف هو إنسان يعيش في الحياة، وليس منفصلا عنها.

الأدب والفن والثقافة والجمال هي تجليات للحياة، ومجال خلاق لإعادة الاعتبار للإنسانية لا للتنكر لها، وتبرير ما ينحط بها، ويفقدها ماهيتها وطبيعتها المحددة لها. لا يوجد شيء جميل في ذاته منفصلا عن الحياة، وعن الناس.

الجمال مقولَةٌ أخلاقيّة في الدرجة الأولى، وليست تهويما مجردا يحلّق فوق الحياة، وبعيداً عن الناس. إنّهُ الأنموذج الأعلى للإنسان مُشخّصاً بالفلسطيني الحر المقاوم للشر العالمي المتجمع أمامه.

إن المواصفات المطلقة لحُريّة الإنسان تتمثّلُ في الإنسان الفلسطيني، في تماهيه بالهدفِ النبيل والذوبان فيه، في نهاية الطريق. إن الوصول إلى الذروة من الفداء والتضحية في سبيل الحرية والكرامة هو الجمالُ الخلاّقُ السامي، هو بالضبط ما يقدّمه الفلسطيني الصامد على أرضه.

ليس بمقدور الأدب والفن والثقافة والعمل الإبداعي الجمالي أن تنشأ خارج سياق الحياة. هذا العالم مشترك. كل المعرفة، كل المهارات، الكون نفسه هو لحظة كبيرة يتقاسمها الجميع.

"المبدعون" بقلوب بلاستيكية هم من لا يتأثرون بوحشية الحرب، وما يحدث لأطفال غزة ونسائها وناسها وكل ما فيها.
 
أليس الشاعر والفنان والأديب أكثر حساسية أمام الألم الإنساني، ويلتقط أدنى ذبذباته عندما لا يسمع الناس، ويرى ما لا يراه الجميع؟

مشاهد القتل بهذه الطريقة الوحشية والباردة تثير  أسئلة أخلاقية صعبة أمام كل إنسان، أو هكذا يفترض أن تفعل. إذا لم توقظ هذه الوحشية حساسية الأديب والفنان، والإنسان أولاً، سيكون على عالمنا أن يتأكد من  "إنسانيته"، في أي وقت يصرخ فيه الأطفال والنساء ويموتون تحت وقع القنابل، فهذه هي الوحشية.

 هل يحتاج العالم إلى ما هو أكثر من مذبحة مستمرة من ثمانين يوما في غزة؛ ليقتنع بأنه يفقد إنسانيته، بصمته أمام هذا الاختبار الأخلاقي القاسي؟

تغول القوة ووحشيتها وانفلاتها من كل معيار أخلاقي وإنساني هو ما يشاهده العالم في غزة. انكشفت النخب الحاكمة في المنطقة العربية، وشاركت بصمتها المتواطئ في جريمة إبادة جماعية ستطال آثارها جميع العرب، في زمن يراد له أن يكون إسرائيليا خالصا.

الأدباء والفنانون والكُتاب ليسوا آلات. عالمنا بحاجة إلى التأكيد على "الإنسانية" وإنكار الوحشية وإدانتها. تطبيع حياتنا مع إبادة جماعية كهذه، التي تحدث في غزة، سوف يحول القوة العمياء إلى قانون عالمي، وستصبح الحياة موحشة ومحكومة بالعنف.

ثنائية الخاص والعام لا تكفي لتحديد أصالة الأديب والفنان وتحديده. ما مسؤولية الشعراء والأدباء والفنانين؟

بالتأكيد، هذا سؤال ليس للتقليل أو السخرية؛ يجب أن يكون لفهم معنى أن يكون لدينا مثال أعلى، وحتى لو كان الأمر يستحق حياة المرء ليكون قدوة. حقا الشيء الوحيد الذي علينا أن نعطيه هو حياتنا، وما فائدة أي شيء لا نتقاسمه؟

نفهم أن يأخذ الفنان والشاعر والمبدع مسافة ما من السياسة، لكن ذلك يختلف عن انسحابه من الحياة في وطنه وخارج بلده.

الأدباء والفنانون والمبدعون ومعهم المفكرون والفلاسفة هم الأكثر حساسية أمام الانهيارات العامة. حين تنحط الحياة ويستبدها الإجرام الوحشي، يلوذ الناس بإحساس الفنان والشاعر والأديب والمبدع.

السياسي دائما يغلب مصالحه. وصلنا إلى حالة انكشاف، واختلال في المعايير، إلى حد أن "السياسي" و"الحزبي" يقف متفرجاً على استباحة أهله داخل بلده، ومحايدا سلبيا أمام حرب إبادة تتطال أهله في غزة وفلسطين. ويذهب السقوط بعيدا عند بعضهم وكأننا أمام نموذج ب«ضمير بلاستيكي» يهبط به إلى قاع يبرر فيه مذبحة إبادة جماعية تطال فلسطينيي غزة، تستخدم فيها أحدث الأسلحة الفتاكة، وتُبث مشاهدها الصادمة يومياً وتصل إلى كل بيت.  

علينا التأكيد على هذه "الفضيحة" قبل أي نقاش حول مواقف الشعراء والأدباء والفنانين من مجزرة غزة.

ينأى أغلب منتسبي مجتمع الأدب والفن في بلاد العرب عن الالتفات إلى دمنا المسكوب في غزة، وكأنها في كوكب آخر. بعض هؤلاء يتجاوز الحياد البارد المميت، إلى استبطان مازوشية صادمة تدين الضحية، وتختلق المبررات للقاتل، وتقف متحللة من أي إحساس أمام أشلاء الأطفال والبيوت المهدومة فوق ساكنيها، وتستحضر جدالات عن الحداثة والتمدن في لحظة لا يرى فيها العرب من "التمدن الغربي"، سوى القنابل الفوسفورية وتكنلوجيا السلاح الفتاك، وطائرات الموت وهي تلقي "هداياها" الحديثة فوق المدنيين دون تمييز.

في فترات سابقة، كان الموقف السهل هو مساندة فلسطين، وتجاهل الموقف من القضايا الداخلية في كل بلد عربي. حالياً، -ومع توجه التصفية النهائية للقضية الفلسطينية الذي تقوده أمريكا وتنفذه إسرائيل- انضمت القضية الفلسطينية إلى قضايا الداخل العربي. استوت شعوب العرب في جهة، والأنظمة العربية وإسرائيل وأمريكا في الاتجاه النقيض لهم، وضدا عليهم.

التضامن مع الشعب الفلسطيني يتم حظره والتضييق عليه، ويُكلِف الكثير في قاموس الأنظمة العربية، ومؤسسات النظام الدولي ومنصاته أيضا. قول كلمة تضامن إنساني مع بشر تطالهم مذبحة ترقى إلى حرب إبادة، لم يعد اليوم ملاذا مجانيا لتسجيل مواقف إنسانية، يغيب صاحبها عن أحداث الداخل.

لعل ذلك يرجع إلى سقوط النظام الرسمي العربي في 2011، وبتعبير أدق انكشافه التام وافتقاده قدرة "اللعب" في المنطقة الرمادية على المستويين الداخلي والخارجي.

المبدع الحقيقي هو الذي يرفض التخلي عن إنسانيته. المبدع  الحقيقي هو من يرفع صوته في وجه الموت والقتلة والشر، وأدواته ورؤسائه، ومنظومة متنوعة من أدواته تضم رؤساء دول وشركات أسلحة ووسائل إعلام تحترف التضليل، وخلط الحقائق بالأكاذيب.

فكّر في الأمر أيها المبدِع المشغول بإدعاءات الجمال، بينما أعماقك خالية منه. إنه الجحيم أمامك في غزة. الجحيم النموذجي. رؤية طفلك يموت بين ذراعيك، مشاهدة ابنتك تتعرض للقتل، ويتناثر جسدها إلى أشلاء. هذا هو الجحيم. هذا هو المقر الرسمي للشيطان نفسه متجسدا بهيئة كيان استيطاني يتغذى على دم الفلسطيني، وعذاباته المتوالية منذ اليوم الأول لإعلان دولة إسرائيل قبل 75 عاماً.

مقياس الإنسانية والقيم الأخلاقية هو الشعب الفلسطيني. لا معنى لأي حديث عن حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا لأي كلام آخر عن القيم الإنسانية، ما لم يتجسد في موقف يعم العالم كله ينتصر للعدالة وحق الشعب الفلسطيني في الحياة، وحقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه.  

عندما تتوقف غالبية البشرية؛ دول وشعوب، عن إلقاء اللوم على المظلومين، وتعترف بأن هناك دولة عظمى اسمها أمريكا تمثل الشر في العالم، وتنشر الموت، وترعى أنظمة المذابح الجماعية، وتقيم مصالحها على استثمار الحروب والفوضى والقتل، الذي نراه في عالمنا، سنكون حينها في  الطريق إلى عالم آمن لكل البشر، وسلام حقيقي تؤسّسه العدالة والإنصاف.

نقلا عن بلقيس

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية