الحوثيون وإحياء ميراث الدّم ومراقد الأئمة
"أرضي أنا يا ابتسام الحب في كل جيل... يا أرض نشوان يا تاريخ شعبي الأصيل"، الشاعر والمناضل السبتمبري الكبير عثمان قاسم المخلافي (عثمان أبو ماهر)، الذي حمل البندقية وطارد البدر وفلول الإمامة إلى آخر قرية في محافظة حجة، يذّكر اليمنيين بنشوان بن سعيد الحِميري، الذي وثق "حضارة حِمير وأقيال اليمن"، وواجه خرافة "آل البيت" بالسيف والقلم ومعلقته "النشوانية"، التي منها قوله:
آل النبي هم أتباع ملته… من الأعاجم والسودان والعربِ
لو لم يكن آلُه إلا قرابته… صلى المصلي على الطاغي أبي لهبِ
توفي عثمان أبو ماهر، في يناير من العام 2013، بعد أن كتب وصيته "هذي بلادي وانا فلاحها والبتول".
وفي يونيو من العام ذاته، قام أتباع حسين الحوثي ببناء ضريح للمؤسس الصريع في جبل مران بمديرية حيدان في صعدة، بعد أن طمسوا معالم قبر نشوان الحِميري في المديرية (حيدان) ذاتها، وبنوا فوقه إسطبلاً للبهائم، ليدشنوا مسيرة تجريف الهوية اليمنية وتزوير التاريخ، بتغيير أسماء المستشفيات والمدارس والشوارع، التي تحمل أسماء رموز ودلالات وطنية، وإحلال أسماء صرعى الحوثيين وقادتهم ومدلولاتهم الطائفية، إلى جانب البدء في ترميم الأضرحة القديمة، وتشييد أخرى جديدة، واستثمارها في الشحن الطائفي والاسترزاق بها، والبسط على ما يزعمون أنها أوقاف من عقارات وأراضٍ زراعية خصبة تتبع هذه الأضرحة.
يقول محمد الأهنومي -المهتم بالتاريخ- من محافظة صعدة: "الحوثيون لم يكتفوا ببناء إسطبل للبهائم فوق قبر نشوان الحِميري وقبور أبنائه الذين دفنوا إلى جواره في جبل أبي زيد في حيدان، بل نسب الحوثي نفسه إلى مدينة حوث، وهو يقول إن نسبه يمتد إلى الإمام الهادي الرسي، الذي قدم من الحجاز، ونشوان من مواليد مدينة حوث حِميري قحطاني أصيل، وكانت القاعة الدراسية الكبرى في جامعة عمران اسمها قاعة نشوان الحِميري، فقام الحوثيون بتغيير اسمها إلى "قاعة الشهداء"، ومدرسة في صنعاء القديمة كانت تحمل اسم نشوان الحِميري، فاستبدل الحوثيون اسمها بـ"مدرسة الشهيد هاني طومر"، وهو طفل صغير جندوه في صفوفهم وقُتل بإحدى هجماتهم في صحراء مأرب".
-بناء ضريح للإمام أحمد في صنعاء
دُفن جثمان الإمام أحمد يحيى حميد الدين في مسجد صغير كان يُسمى "الرحمة"، في صنعاء، وقامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 بعد أيام من وفاته، ولم يعرف جيل اليوم لقبره مكاناً، بعد تهدّم الجامع، وبناء مكتب البلدية على أنقاضه، ثم تحويله لاحقاً لمبنى نقابة الأطباء.
ظل القبر بدون ضريح ولا شاهد ولا علامة تميّزه، لكن مليشيا الحوثي قامت ببناء ضريح للإمام أحمد في الفناء الخلفي لمبنى النقابة، وأعادت بناء الجامع في العام 2017، وسمته "جامع الرضوان" في شارع جمال عبد الناصر وسط صنعاء. ونصبت فوق قبره لوحا رخاميا كبيرا مدونا عليه "هذا ضريح الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين أحمد بن يحيى بن محمد وصولاً إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب".
- محاولات طمس وتشويه الذاكرة الوطنية
وفي إطار مساعيها لطمس وتشويه الذاكرة الوطنية، وإعادة كتابة تاريخ اليمن بما يتماشى مع هويتها الطائفية الضيِّقة، أقدمت مليشيا الحوثي على نهب المتحف الحربي في صنعاء، وإزالة العديد من الوثائق والمقتنيات التاريخية المتعلقة بثورة 26 سبتمبر 1962م، التي أطاحت بحُكم الإمامة وأسست للنظام الجمهوري.
يقول عبدالله الحيمي -الذي زار المتحف قبل أيام-: "لقد حوّلوا المتحف الحربي في صنعاء إلى معرض صور لحسين الحوثي وطه المداني وبدر الدين الحوثي، وتحوّل الإمام الطاغية يحيى حميد الدين إلى الإمام الشهيد، وسرق مهدي المشاط من المتحف السيارة التي كان يستقلها الرئيس إبراهيم الحمدي، وخرج يعرض بها في ميدان السبعين في ذكرى انقلابهم الأسود على النظام الجمهوري، ولم يُرجع السيارة إلى مكانها في المتحف".
- الحسين العياني والحسن الهمداني
وفي شرق مدينة ريدة بمحافظة عمران، قامت مليشيات الحوثي بترميم ضريح الإمام الحسين بن القاسم العياني، وبناء قبة على النمط المعماري لمراقد وعتبات الشيعة في إيران والعراق.
كان أبناء قبيلة بكيل يكملون إجازة عيد الأضحى المبارك في الـ 19 من شهر ذي الحجة من كل عام بالخروج إلى قبة "الحسين"، ويسمونه "يوم النشور"، يطلقون الرصاص والقذائف من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة إلى الجبل، التي تقع القبة عند أقدامه.
ومنذ العام 2022، ربط الحوثيون يوم النشور بـ"يوم الولاية"؛ ليخرج أبناء قبلية بكيل تحت راية الولاية للإمام علي و"حفيد رسول الله" عبدالملك الحوثي.
أستاذ التاريخ في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة عمران ـ نحتفظ باسمه ـ يقول: "لقد تعرض اليمنيون لتجهيل متعمّد، وتغييب ممنهج لتاريخهم وحضارتهم على أيدي الأئمة، وهذا الحسين بن القاسم العياني واحد منهم، وهو الذي ادّعى أنه المهدي، وسمى نفسه بالإمام المهدي، وارتكب أبشع الجرائم بحق القبائل في عمران وصنعاء وذمار، وأبناء القبيلة بحاجة إلى معرفة أن هذا ضريح السفاح الحسين العياني وليس الحسين بن علي بن أبي طالب".
لا يعرف غالبية أبناء محافظة عمران أن لسان اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني توفي في مدينة ريدة، ولا يُعرف قبره، وأن الأئمة قد أخفوا ستة أجزاء من "الإكليل"، الذي يمثل سفر اليمن وكتاب مجدها وحضاراتها وتاريخها، وسجل أنسابها وقبائلها وشعوبها.
وقد ألَّف جزءاً كبيراً منه وهو في سجن الإمام الهادي الرسي بصعدة في القرن الثالث الهجري، ولم يتبقَّ منه سوى أربعة أجزاء يتيمة.
كان الحسن الهمداني يؤمن بأن اليمن مؤهل لاستعادة دوره الحضاري، ورفض اختزال اليمن الكبير في إطارٍ عرقي أو مذهبي ضيِّق، مما جعله يصطدم بمشروع الإمامة، وتعرَّض للسجن والنفي عدّة مرات، وعبِث الأئمة بمؤلفاته وتاريخه.
ومنذ قدوم الإمام الهادي من الحجاز إلى اليمن في القرن الثالث الهجري، واليمنيون يخوضون معركتهم المستمرة ضد هذا المشروع الإمامي العنصري.
وفي كل مرة تحاول هذه الأيديولوجية فرض سيطرتها، ينهض اليمنيون لمقاومتها والدفاع عن دولتهم وهويتهم.
التعليقات