لماذا ستخسر أمريكا حربها التجارية مع الصين؟
عبدالناصر المودع: لماذا ستخسر أمريكا حربها التجارية مع الصين؟
تُعد القاعدة الذهبية التي ينبغي على كل سياسي استيعابها هي: "لا تخض معركة إلا متى تأكدت من تحقيق النصر، إذ إن الفشل يؤدي إلى كشف نقاط ضعفك". في كثير من الأحيان، يكون إبقاء الخصم في حالة ترقب وحذر أكثر جدوى من الإقدام على مغامرات غير مضمونة النجاح.
لقد خالف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه القاعدة، إذ شن حربًا تجارية ضد معظم دول العالم، كانت أبرز جبهاتها الحرب مع الصين، الأمر الذي سرعان ما انعكست آثاره السلبية على الولايات المتحدة نفسها.
خاض ترامب هذه الحرب دون أن يستند إلى تقدير دقيق للعواقب المحتملة، معتمدًا على معلومات مضللة وتصورات خاطئة. وقد تميزت طريقة إدارته لهذه الحرب بطابع استعراضي، ينسجم مع شخصيته الشعبوية ومع المزاج السائد لدى تيار اليمين الانعزالي في الولايات المتحدة، ذلك اليمين الذي يحمل تصورات مشوهة، مستمدة جزئيًا من نظريات مؤامرة لا أساس لها، حول طبيعة الاقتصاد العالمي ودور الولايات المتحدة فيه؛ ومن أبرز هذه التصورات الاعتقاد بأن التجارة الخارجية لأمريكا تشكل خسارة صافية للاقتصاد الأمريكي، وأن الانغلاق الاقتصادي والاكتفاء الذاتي يمثلان الخيار الأمثل.
هذه التصورات السطحية لا تدرك طبيعة الاقتصاد الأمريكي الذي بدأ بالتشكل منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ تحول تدريجيًا من نموذج الإنتاج الصناعي كثيف العمالة إلى اقتصاد ما بعد صناعي، قائم على إنتاج سلع وخدمات عالية القيمة، ورأس مال مكثف، وعدد أقل من العمال. وقد أدى ذلك إلى نقل الكثير من الصناعات الرخيصة والكثيفة العمالة إلى الخارج.
وقد استفادت الولايات المتحدة بشكل ملموس من هذه التحولات، إذ اجتذبت استثمارات ضخمة إلى قطاعات الاقتصاد ما بعد الصناعي، مثل التكنولوجيا، والترفيه، والبرمجيات، والخدمات المالية والتعليمية، مما عزز ريادتها الاقتصادية العالمية. وانعكس ذلك إيجابيًا على المستهلك الأمريكي، الذي تمكن من الحصول على سلع استهلاكية رخيصة لم يكن بالإمكان توفيرها عبر الإنتاج المحلي وحده.
إلى جانب ذلك، عززت الولايات المتحدة وضعها المالي العالمي بفضل مكانة الدولار كعملة احتياطية، وهو ما أتاح لها تمويل جزء مهم من وارداتها عبر بيع سندات الخزينة، ضمن معادلة اقتصادية صبت، في مجملها، لصالح الاقتصاد الأمريكي.
إن الشبكة المعقدة من العلاقات الاقتصادية التي تشكلت على مستوى العالم خلال العقود الماضية لا يمكن تفسيرها بمنطق بسيط للربح والخسارة؛ فجميع الدول التي تفاعلت بشكل كثيف ضمن هذه الشبكة استفادت منها بدرجات متفاوتة، وإن ظلت الولايات المتحدة المستفيد الأكبر، كونها كانت الدولة الأكثر تأثيرًا فيها. فقد احتفظت طوال العقود الخمسة الماضية بموقع الصدارة كأكبر اقتصاد رأسمالي جاذب للاستثمارات، وكأكبر دولة رأسمالية تحقق معدلات نمو متواصلة.
ومع ذلك، أغفل ترامب هذه الحقائق، وظن أنه قادر على إعادة تشكيل النظام عبر إجراءات سياسية فوقية، متجاهلًا حقيقة أن النظام الاقتصادي الدولي تطور نتيجة ديناميكيات السوق. ومن ثم، بدت محاولته لإعادة صياغة هذا النظام من خلال فرض تعريفات جمركية محاولة غير واقعية ومحدودة التأثير؛ فالتعريفات الجمركية، مهما بلغت قيمتها، غير قادرة على تغيير التوازنات الاقتصادية التي تبلورت عبر عقود من التغيرات الهيكلية.
وانطلاقًا من ذلك، فإن دخول الولايات المتحدة في حرب تجارية مع الصين سيؤدي إلى خسائر مباشرة على الدولتين؛ إلا أن الخسائر الأمريكية ستكون أشد لأسباب عدة، أهمها طبيعة النظامين السياسيين والاقتصاديين في البلدين. فبينما يمكن للصين احتواء آثار الخسائر، على الأقل في المدى القصير، بفضل طبيعة نظامها الشمولي الذي لا يواجه ضغوطًا انتخابية مباشرة، فإن ترامب مضطرًا لتحقيق نتائج اقتصادية ملموسة لإقناع الناخب الأمريكي في انتخابات التجديد النصفي المقررة خلال 18 شهرًا بالتصويت لصالح الحزب الجمهوري.
إلى جانب ذلك، هناك واقع اقتصادي موضوعي يرجح كفة الصين في هذه المواجهة؛ فالفائض التجاري الصيني الضخم مع الولايات المتحدة والعالم يعكس حقيقة أن الصين أصبحت بحق "مصنع العالم". إذ إن حجم القطاع الصناعي الصيني يزيد عن ضعف نظيره الأمريكي، مما جعل الصين الشريك التجاري الأول لأكثر من 60 دولة، بينما تحظى الولايات المتحدة بهذا المركز لدى نصف هذا العدد فقط. كما أن الصين تسيطر على الكثير من سلاسل الإنتاج العالمي، وتحتكر العديد من الصناعات والمواد الخام، مما يمنحها تفوقًا واضحًا وفرصة أكبر للفوز في هذه الحرب، على الأقل في المستقبل المنظور.
وهناك أسباب إضافية لخسارة أمريكا الحرب التجارية، أهمها إرفاقها بسلسلة من الإهانات العلنية لحلفائها وخصومها، عبر استخدام عبارات سوقية من قبيل ادعاء ترامب أن زعماء العالم يتذللون له ويسعون لتقبيل مؤخرته من أجل عقد صفقات معهم. هذه الإهانات ستعزز دوافع الدول، بما في ذلك الحلفاء، للصمود والمقاومة بدلًا من الإذعان كما يظن ترامب.
فمسألة الكرامة الوطنية التي استفزها ترامب بأقواله وتصرفاته غالبًا ما تتقدم على المصالح الاقتصادية المباشرة لدى معظم الشعوب. وقد بدا ذلك جليًا في موقف كندا، التي اختارت المواجهة بعد أن وجه ترامب إهانات مست كرامتها الوطنية، رغم أنها الدولة التي تبدو الأكثر تضررًا من الحرب التجارية، كما أنها أيضًا الأقرب جغرافيًا وثقافيًا إلى الولايات المتحدة. وإذا كان هذا هو رد كندا الحليفة، فمن الطبيعي أن يكون الرد الصيني على إهانات ترامب، الجديدة والقديمة، أشد قوة، مهما كانت الخسائر الاقتصادية المتوقعة.
فالخسائر الاقتصادية يمكن تعويضها بمكاسب استراتيجية قد تحققها الصين نتيجة لهذه المواجهة. ولا يُستبعد أن تكون القيادة الصينية كانت تتمنى نشوب هذه الحرب واستعدت لها، ويكون ترامب بذلك قد قدم للصين خدمة استراتيجية كبرى.
أن خسائر أمريكا الناجمة عن هذه الحرب لن تقتصر على التباطؤ الاقتصادي أو الركود المحتمل، بل ستتجاوز ذلك إلى كشف هشاشة الاقتصاد الأمريكي وتآكل الثقة العالمية بالولايات المتحدة كملاذ اقتصادي آمن؛ وهي الثقة التي تشكلت عبر فترة طويلة ويصعب استعادتها مستقبلاً، حتى مع انتهاء الموجة الترامبية.
إن تراجع الموقع الاستراتيجي لأمريكا وصعود الصين المتوقع ليس أمرًا سارًا كما قد يتصور البعض، إذ إن تبوؤ الولايات المتحدة لموقعها القيادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ساهم في تحقيق قدر من الاستقرار النسبي والازدهار والتقدم العلمي والتكنولوجي في العالم. أما تراجع قوتها، فقد ينذر بعالم مليء بالمخاطر والفوضى.

التعليقات