فلسفة الهزيمة (2): أطروحات النهوض

في المقال السابق الذي نشرته في هذا الموقع (yeniyemen) بعنوان "فلسفة الهزيمة" والذي حاولت فيه بلغة صحفية سهلة تقريب بعض أسباب الانهزام العربي الراهنة تباينت رؤى من راسلني من القراء الكرام فمن معجب بهذه المقاربة وأنها معبرة عن واقع الانهزام العربي بعمق يحتاج بعض الاسترسال والمنهجية الأكاديمية، وآخر لم يعدو الأمر عنده مجرد إعادة للوعظ في قالب فكري؛ لذا رأيت من اللازم علي أن أكمل في هذا الأمر لعلي أنفذ من خلاله إلى قراءة واعية للانهزام للعربي بلغة سهلة تناسب أكثر فئات القراء.

ولا أزعم أني سأقدم مقاربة متكاملة من خلال هذه المقالات فمقاربة أسباب الانهزام العربي يحتاج أدوات معرفية متعددة تسلك مسلك التكافل المعرفي بين التخصصات إذ يختلط فيه السياسي بالاقتصادي بالنفسي والاجتماعي والثقافي والتاريخي أيضاً، فهي ظاهرة للأسف مركبة لا تكفيها زوايا النظر الأحادية، ومن خلال هذا المقال سأحاول أن أبرز بعض أطروحات النهوض والإصلاح التي حاول من خلالها المفكرون والمصلحون العرب صياغة أجوبة مقنعة للإجابة على السؤال المركزي للهزيمة العربية، وإمكانية النهوض الحضاري، وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟، وذلك من خلال عرض بانورامي مختصر لرواد النهضة العربية من خلال أبرز محطتين أساسيتين فارقتين في تاريخنا العربي والإسلامي، وهما:- 

أولاً: عهد ضعف الدولة العثمانية وبداية عهد الاستعمار فقد تتابعت الأطروحات العربية حينها في سؤال النهوض وبيان أسباب الانهزام، وخاصة بعد الاحتلال الفرنسي، وتحول المنطقة إلى تركة الرجل المريض يتصارع الكبار على تقاسم النفوذ والمصالح فيها، ولعل الدور الفكري الأبرز في هذه المرحلة كان لجمال الدين الأفغاني الذي عُدّ بجدارة موقظ الشرق فقد كان ذا تأثير كبير فما دخل بلداً إلا وأشعل فيها ثورات فكرية وشعبية، وقد تمثل دعوته من بعده محمد عبده رائد السلفية الإصلاحية الذي اعتبره بعض الباحثين يمثل دور مارتن لوثر في الغرب، وهذا الإسقاط التاريخي متجاوز للخصوصية العربية الإسلامية لكنه يعبر عن تأثير محمد عبده في الفعل النهضوي العربي فقد امتد تأثيره إلى أغلب الجماعات الإصلاحية العربية وخاصة السلفية من خلال تلميذه المخلص محمد رشيد رضا، أو جماعة الإخوان المسلمين من خلال تأثر حسن البنا بأفكار محمد عبده ومحمد رشيد رضا، فكثير من الباحثين يرى فيه امتداداً طبيعي لأفكارهما، بل إنه كان يرى في نفسه ذلك من خلال محاولته إتمام تفسير المنار الذي بدأه الشيخ محمد عبده، وتبعه محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فمحاولة تفسير الانهزام والتأخر الحضاري والبحث عن إمكانية النهوض الحضاري تعد من أهم القضايا المشكلة للوعي العربي حينها.

"..تباين طرح بعض المفكرين حيث رأوا أن المعول عليه في النهوض الحضاري هو الجيل القادم لذا لزم الإعداد له من خلال التعليم الجيد والتربية السليمة وغرس القيم والمبادئ الإسلامية الدافعة للنهوض.."

وحين نتحدث عن محاولة ذلك الجيل من المفكرين والعلماء والمصلحين الإجابة عن سؤال النهضة المؤملة والهزيمة الواقعة فنحن نتحدث عن أفضل جيل عربي أنتج أفكاراً منذ قرون عديدة فليس الأمر مقتصراً على الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا بل الأمر يشمل الكواكبي وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وابن باديس وعلال الفاسي والثعالبي وشكيب أرسلان، وطه حسين، ومحمد لطفي السيد وقاسم أمين وفرح أنطون وسلامة موسى وساطع الحصري وعلي عبدالرازق وأحمد أمين بل إن ذلك يشمل الشعراء والأدباء أيضاً كأحمد شوقي والبارودي، وحافظ إبراهيم، وطه حسين والرافعي والعقاد، وابراهيم اليازجي.

وهذه المرحلة يمكن للباحث أن يقسمها إلى مراحل زمنية معينة فثمة اعتبارات كثيرة يمكن من خلالها تقسيم تلك المرحلة التي تمتد إلى ما يقرب من قرنين من الزمان إلى مراحل عديدة سواءً كانت تلك الاعتبارات زمنية أو فكرية أو سياسية أو عسكرية ونحوها غير أن محل هذا المقال لا يتسع لهذا البعد الأكاديمي في الطرح، فما يهم القارئ الكريم أن يدرك أن ثمة طرح علمي وفكري أفنى كثر من العلماء فيه أعمارهم في سبيل طرح سؤال النهضة وإمكانياتها، والهزيمة وأبعادها، وقد تجلى هذا السؤال من خلال أمير البيان شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟، وقد تعددت الأطروحات في الإجابة عن هذا السؤال فقائل بوجوب الرجوع إلى الإسلام والتزام النهج السلفي الذي يحيي نهج من سبق في عهد العصور المضيئة في أمتنا التي صنعت أفضل الإمبراطوريات الحضارية في حياة الإنسانية، وقائل أن الحل يكمن في النظام الاجتماعي والثقافي الغربي فيجب أن نستلهم هذه الثقافة وهذا النمط المعيشي في حياتنا،  فالنهضة تبدأ عنده من الثورة على الحجاب وعوائد الديانة فهي المكبل لنهضة المجتمع في نظره، إذ لم يتقدم الغرب إلا بفعل الثورة على الكنيسة، في حين أن فريقاً آخر كان يرى أن غاية الأمر هو في الفساد السياسي فتغيير النظم الحاكمة، وبناء الجيوش المحترفة ووضع نظام سياسي غير مستبد كفيل بنهضة الأمة من كبوتها وهزيمتها الحضارية، في حين تباين طرح بعض المفكرين حيث رأوا أن المعول عليه في النهوض الحضاري هو الجيل القادم لذا لزم الإعداد له من خلال التعليم الجيد والتربية السليمة وغرس القيم والمبادئ الإسلامية الدافعة للنهوض مع الحرص أن يكون ذلك التعليم تعليماً حديثاً يتناسب مع متطلبات الجيل.

وهذه الرؤى النهضوية تعد في كثير من جوانبها متجاوزة للظرف التاريخي الذي كانت تعيشه الأمة حينها، وهذا يدل على تقدم مستوى الوعي بالذات والواقع عند تلك النخب غير أن الإشكالية الكبرى عند أغلب تلك الأطروحات أنها لم تنفك من الطابع التقليدي للطرح فلم تعمل الأدوات العلمية في التحليل، ولم تطور من أسئلتها الباحثة عن أسباب الهزيمة وإمكانية النهضة، فبقيت الأسئلة عامة مجملة غير مفصلة أو منزلة على الواقع الاجتماعي للأمة، وأغلب تلك الأطروحات التي كان من الممكن لها قيادة نهضة الأمة تعثرت بفعل إهمال جوانب التدين والاقتصاد عند عموم الأمة، فإهمال جانب التدين جعلها منبتة عن المجتمع مما جعلها منبوذة فيه غير مرحب بها، وجعل تلك الأطروحات نخبوية متجاوزة للبعد الطائفي القبلي الإثني الذي يصبغ كل مظاهر التدين، فكان من السهل عند المنتفعين والمتأثرين سلباً بدعوات النهضة والإصلاح شيطنة دعاته ورميهم بكل نقيصة وسوء، أما الجانب الاقتصادي فلم تشهد الأمة حينها طرحاً اقتصادياً يتناسب مع الثورة الصناعية وما تلاها في المجتمعات الغربية، فأصبحت أمتنا مستهلكة في الاقتصاد والفكر معاً للمنتج الغربي مما جعل النموذج الغربي مبهراً أمام أي دعوة داخلية للإصلاح والنهوض. 

وعموماً فهذا العرض ليس كافياً في استلهام تلك التجربة فكلما أردته أن يصل إلى ذهن القارئ أن ثمة تجارب تستحق التحليل والدرس قدمها الرواد الأوائل لعلها تكون محرك نهضة ووعي للأجيال الحالية والقادمة.   

ثانياً: عقب الهزيمة العربية أمام الجيش الإسرائيلي في العام 1967م, فهذه الهزيمة كانت مرحلة فارقة في حياة الإنسان العربي حتى أصبح الانهزام العربي محصوراً بها، فقد أبانت هذه النكسة عن فشل الكثير من المشاريع الفكرية وخاصة الماركسية والقومية منها، مما دفع إلى ظهور العديد من المشاريع الفكرية ذات التوجه الإسلامي، وأعادت بعض التيارات الماركسية تموضعها من خلال التوجه المستعر لإعادة تفسير النص الديني واقتراض العديد من المناهج الغربية في قراءة وتفكيك بنية النص والنفاذ إلى معانيه، ولعل المصطلح المناسب لهذه الظاهرة ما ذكره جورج طرابيشي ((العصاب الجماعي)) ومن أبرز هؤلاء المفكرين محمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وحسين مروة، وهشام جعيط، ومحمد صادق العظم. فقد كتب عبد الله العروي كتابه ((الأيديولوجيا العربية المعاصرة)) سنة 1967م من رؤية ماركسية يسارية متأثراً بتلك النكسة ليجيب من خلاله عن سؤال: ما هو الطريق الأقصر لتحقيق الإصلاح؟، وبين فيه عجز الأيديولوجيات العربية عن تحقيق النهضة وتدارك التأخر التاريخي للأمة، واقترح نموذجاً يراه مناسباً للحاق بركب التقدم. وكتب الجابري مجموعة كتب في محاولة تفسير النص الديني وتشريح العقل العربي ليبين من خلال ذلك مظاهر وأساب التخلف العربي، وكما أن هذا الطرح الحداثي متأثر بالفكر الغربي فقد كان الطرح الديني تقليداً واجتراراً لمناهج وأطروحات القرون السابقة فلم نشهد طرحاً مبدعاً من أحد الفريقين.

"تفسير التخلف أو النهوض العربي لا ينبغي أبداً الاعتماد على الفكر فيه فحسب، فهذا مسلك سلكه السابقون فأدخلونا في دوامات جدلية بين الفكر والتاريخ لم تقدم لنا تجربة نهضوية يمكن استلهامها.."

وهذه الأطروحات الفكرية في هذه الحقبة التاريخية كانت أكثر تبايناً من سابقتها، فقد استهلكت أغلب الجهود بين تجاذبت أقطاب الفكر العربي، فمن اليسار إلى اليمين، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن الإسلامية إلى العلمانية، ومن الجمهوريات المستبدة إلى الملكيات المستبدة، ونحوها من التجاذبات التي استهلكت الجهد العربي على حساب القضايا العربية المركزية، غير أن الملاحظ في هذه المرحلة أنها شهدت بعض المفكرين الذي تجاوزوا اللحظة التاريخية الراهنة وإن تأثروا بها بشكل أو بآخر لكنهم أنتجوا فكراً متجاوزاً للحظة التاريخية وهؤلاء في نظري القاصر أشبه بجزر منعزلة في الحركة الفكرية للنهضة العربية، ولعلي أفرد لاستعراض أفكارهم مقالة أخرى في هذه السلسلة.

فالذي يفيد الجيل الجديد لبناء وعي صحيح بالذات والواقع والتاريخ أن يحفر في هذا الطرح الفكري وأن يستوعب تلك الرؤى الإصلاحية لعله يدرك من خلال ذلك مكامن النهوض وأسبابه ودوافعه، وعلل الانهزام ومظاهره، فهذا أولى بدايات التحرر والانعتاق من التأخر العربي الملازم لأجيالنا منذ قرون من الزمن، وما ينبغي التأكيد عليه هنا أن تفسير التخلف أو النهوض العربي لا ينبغي أبداً الاعتماد على الفكر فيه فحسب، فهذا مسلك سلكه السابقون فأدخلونا في دوامات جدلية بين الفكر والتاريخ لم تقدم لنا تجربة نهضوية يمكن استلهامها، فالفكر النهضوي العربي أشبه بالفكر المعارض الذي لا يصلح للحكم، ولكنه نقطة مهمة في الانطلاق الحضاري الأشمل يمكن للجيل الحالي والأجيال القادمة تفكيكها وبيان جوانب الصلاح والفساد فيها للعودة بالأمة إلى مسيرة التقدم الإنساني.

وختاماً قد يقول قائل نرى اختلاطاً واضحاً في المرجعية النهضوية التي ذكرتها سابقاً هل هي عروبية قومية أم إسلامية دينية، وهذا سؤال مركزي كان يمثل محوراً مهماً من محاور النهوض عند الأجيال السابقة التي ذكرناها، أما الأجيال الجديدة التي تشكل وعيها في ثورات الربيع المستمرة لا تلقي لهذه الثنائية بالاً فهو خلاف بلا طائل تستهلك فيه الذات ويغيب فيه الواقع، فالنهوض والانعتاق هو البحر الذي نقصده وأمتنا لا تملك الجهد والوقت لكي تنجرف مراكبها في سواقي لا فائدة منها، ولعلي في المقال القادم أستعرض بأسلوب كتابي مبسط التطور البنيوي في أفكار النهوض في الألفية الجديدة وأستطرد في بيان محركات النهوض وأساب التقدم وسبل التخلص من الثنائيات الجدلية المقيتة التي يراها الجيل الحالي من العلماء والمفكرين وجيل الربيع العربي والله الموفق والمعين.

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية