سيطرة التافهين!

"لا لزوم لهذه الكتب المعقدة لا تكن فخوراً ولا روحانياً فهذا يظهرك متكبراً لا تقدم أي فكرة جيدة فستكون عرضة للنقد لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وكن كذلك عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن, فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة".

بهذه العبارات عبر الفيلسوف الكندي آلان دونو (Alain Denault) في كتابه نظام التفاهة (Mediocratie): عن سيطرة التافهين وتمكنهم من الصعود ليقول إننا في عصر التفاهة، وذلك في معرض إجابته عن أحد أهم الأسئلة الملحة: ما الذي جعل التافهين يتحكمون بمجال صنع القرار وجعلهم يؤثرون على توجيه الرأي العام.

والتفاهة عالمياً تتجسد في الشعبوية التي تغشى السياسة والاجتماع، والرأسمالية الجشعة المستبدة التي تلتهم الاقتصاد، والنسبية واللايقين اللذان يقتحمان المجال الثقافي، وهي عند الأفراد أسلوب فكر ونظام حياة، وطريق صعود فهي العدمية المطلقة في المعنى والقيمة، هي الحقارة والنذالة، هي السقوط الأخلاقي المريع، وهي التلون السياسي دون نظام، هي تجسيد واقعي لحقيقة العبث والتعالم الفج.

والتفاهة تتجسد في أبهى صورها في حب الذات حد العبادة, حين يرى الشخص من نفسه ما ليس فيها, فحينئذ تنتهك حرمة العلم, وتسطح المعاني حد الغباء, وحينئذ تكون السياسة والثقافة مصانع للنجومية, فلن ترى صور الساسة في الشوارع والأزقة إلا في عصر التفاهة, ولن ترى السياسي يتنقل بين المبادئ بكل وقاحة وقبح إلا في هذا العصر, ولن ترى المثقف الانتهازي الباحث عن الشهرة والثروة يتلون في مبادئه وقيمه إلا في عصر التفاهة, ولا يمكن أن تجد أصحاب المبادئ والقيم وذوي المعرفة والعلم محل استغلال وانتهاز وشفقة إلا في عصر التفاهة.

التفاهة هي أن يتصدر الجهول ويسود الظلوم وفي عصر التفاهة تكون ويكبيديا غاية مصادر التعلم، التافه لا يهتم بالشأن العام، فهو المركز والبقية الأطراف، وكل الموارد حوله جعلت من أجل مجده الشخصي، فكل الوسائل متاحة ما دامت تحقق الغرض الشخصي.

والتافه المقصود هنا هو الرويبضة الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بحديثه: ((سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة))، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة))، فالرويبضة الذي ربض وعجز عن إدراك معالي الأمور وقعد عن طلبها سمي تافهاً بنص النبي لربوضه في بيته وقلة قيامه بالأمور العظيمة، والتفاهة هي التعاليم عند العلماء السابقين، الذي قيل فيه: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه، وفيه قال علي زين العابدين رحمه الله :-

 العالم النحرير ينقذ قومه

من بدعة وضلالة ومغارم

 أما الجهول إذا بدا متعالماً

قاد الجميع إلى ردى متفاقم

 من ذا يخالف شرع رحمن الورى

ويميد عن سنن النبي الخاتم

فعصر التفاهة يمتاز بالأدعياء، فنجد صاحب الحق المطلق الذي يختزل الحقيقة في فتاوى شيخه، وكتيباته التي صدرت على عجل لسد الثغرة أمام أعداء الله!، وفي عصر التفاهة تجد ذلك الدعي الذي يعلن أنه رب الاستراتيجيات السياسية فكل حدث سياسي أتخذه حزبه هو غاية الصواب ومنتهى التعقل دون أي دراسة أو تحليل، عصر التفاهة يمتاز بثقافة التلقين ومجتمع القطيع فالرمز يقول: ما أريكم إلا ما أرى، وهم لقوله يسمعون، عصر التفاهة يجعل الثقافة والدين والخلق سلماً للثراء والشهرة وصناعة الأمجاد الشخصية الآنية.

في عصر التفاهة يظهر المتلون في السياسة المتنقل بين كل أحزابها الذي استنفذ من أجل الاسترزاق كل مظاهر النصرة لجميع الأحزاب والجماعات مع تباين مبادئها، لينتقل إلى مهاجمة الدين وافتعال معارك وهمية لا حقيقة لها منبتة عن الظرف الراهن للمجتمع والسجال الفكري – إن وجد- فيه, كل ذلك مع سطحية في تداول الأفكار وعدم امتلاك الأدوات المعرفية الضرورية بأسلوب فاضح يتسم بالعري الثقافي والفكري يعبر عن تفاهة لا حد لقبحها.

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية