الإنسان أولا [3]

ومتابعة للموضوع السابق الذي تحدثنا فيه عن طبيعة الإنسان والتناقضات التي تلف مسلم اليوم فإننا سنسطر في هذا المقال كلام حول الوسطية التي يجب أن يكون عليها المسلم المعاصر.

كلما يبدو لنا بسيطا في الحقيقة قد يكون مركبا وكلما يبدو لنا منفصلا معزولا قد يكون جزء من شيء كبير و كمعلومة بديهية ينبغي أن نعي بأن هناك علاقات إختلاف وائتلاف منتشرة في هذا الكون منها ما هو مرئي مدرك ومنها ما هو خفي غير محسوس وعلى هذا فينبغي للمسلم أن يكون دقيقا في أفعاله وأقواله فلا تتناقض مع قوى وتيارات أقوى منه لأن الولوغ في الشيء والمضي حتى نهايته أمر بالغ الخطورة قد يؤدي به في نهاية الأمر إلى متقلبات يدفع ثمنها مستقبلا.

ومن هنا تكرم الله سبحانه وتعالى بأن جعل أمتنا أمة وسطا حيث قال سبحانه وتعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) والمقصود بالوسطية هنا التي وهبها المولى سبحانه وتعالى لأمة الإسلام هي أن تتوافق شخصية المسلم مع قوانين الكون وطبائع الموجودات ولعلنا نلمس ثلاثة أوجه للتوسط في شخصية المسلم أولها ما بين التميز والإندماج ويقصد به أنه يجب على كل المجتمعات أن تسعى إلى إيجاد قدر كبير من التجانس والتوافق بين أفراده وتتولى ذلك وسائل التربية والتثقيف والإعلام والتوجيه وبناء الرأي العام والإسلام ذاته جعل المسلمين في توادهم وترابطهم وتجانسهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وبالرغم من تناغم وتراص أعضاء الجسد الواحد إلا أن هذا التوافق والانسجام لا يلغي وظائفها- أي أعضاء الجسد الواحد- و تحسسها للواقع والتعامل معه على نحو منفرد وعلى هذا فالانسجام التام بين أفراد المجتمع له ضرر بالغ وأثر سلبي كما للتفكك الاجتماعي ضرر أيضا لأن التوافق الاجتماعي والإنسجام الكامل بين أفراد المجتمع سيؤدي إلى تفسخ المجتمع في النهاية لذا فإن من الضروري أن يوجد المجتمع -نفسه- نوعا من الآليات والأطر المحفزة لبعض أعضائه إلى أن ينفذ وعيهم الى الواقع الاجتماعي والتركيبة الاجتماعية على شكل منفرد حتى يكتشفوا ما فيه من علل وخلل وأسقام إجتماعية وأمراض أخلاقية ويعملوا على إيجاد آليات ووسائل وطرق لمعالجة هذه الأمراض وتلك الأسقام والعلل والبحث عن وسائل ترقية المجتمع والنهوض به.

لذا نجد أن الإسلام رسخ في المجتمع الإسلامي مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومبدأ الحسبة حتى يستطيع المجتمع الإسلامي الحفاظ على توازنه وحصر أخطاءه وعمل آليات لمعالجتها فمجتمع بني إسرائيل إستحق اللعنة حين غفل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال سبحانه وتعالى ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون- كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

ويمكننا القول أن التماثل التام في أي مجتمع ما هو إلا تماثل وتماسك وتناسج في الظاهر وإلا فسنة الله خالصة سابقة أزلية في أن أي مجتمع يكبر ويشتد حراكه يزداد تصدعه وتكثر انقساماته لهذا حث الإسلام بنيه على الإرتباط الوثيق بمجتمعاتهم وخدمتها والدفاع عنها لكنه ترك مساحة واسعة تظهر فيها خصوصيات بعض البشر وإبداعاتهم التي لا تتطابق بالضرورة مع جميع الناس لكنها لا تصطدم بالإِطار العام لتماسك المجتمع وتآلفه تآلفا نوعيا أيضا وإنما تكسبه تنوعا و ثراء.

 بل إن الإسلام علم المسلم آلية مواجهة كافة أشكال الانحراف في المجتمع ومقاومته والحرص على تقويم إعوجاج تصرفات أفراده ولعل من أسباب إطالة أمد الحضارة الغربية- بالرغم من تواجد عدة عوامل لإنهيارها -هو تواجد روح التصحيح والمراجعة والنقد عندهم.

وثاني أشكال التوسط التي ينبغي أن تظهر وتتجلى في شخصية المسلم هو إتزان الشخصية فشخصية الإنسان مكونة من جانبين جانب عاطفي وجانب عقلي فالجانب العاطفي يعمل على إبقاء الإنسان على حالة من التوتر الحيوي الضروري للعمل والعطاء وجعله يتواصل مع أسرته ومجتمعه بعلاقات حميمة و يحس بآلام الآخرين والأضرار التي تحل بمن حوله , والجانب العقلي مجاله التعلم من الماضي وأخذ العبرة منه والتسلح للحاضر والإستشراف للمستقبل والتخطيط له ومعالجة القضايا بمستوى عال من العقلانية والإتزان والشفافية.

ومع أن كل إنسان يتمتع بمستوى معين من هذا الجانب أو ذاك إلا أن الجانب العاطفي عند الدول الصناعية ضعيف جدا والعكس عند الدول الأخرى حيث الجانب العاطفي قوي وعلى الإنسان أن يتخذ موقفا وسطا بين الجانب العاطفي و الجانب العقلاني فعندما يكون الموقف عاطفيا فإن عظمة الرجال لا تظهر إلا بالتأثر فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يبكي تأثرا على فقد عزيز أو إنفعال بمشهد بائس مثل ذكر القيامة وأهوالها وكان صحابته الكرام والتابعين كذلك وعندما يكون الموقف يستدعي التخطيط والنقد والتحليل والمراجعة فقد علمنا القرآن الكريم أن نتعامل مع مثل هذه المواقف بمستوى العقلانية والموضوعية والتجرد كموقف القرآن من غزوة أحد وموقف أبي بكر من موت النبي عليه الصلاة والسلام كل هذه شواهد تدل على الكيفية التي أراد القرآن أن نتعامل بها مع القضايا التي تتعلق بالتخطيط والتحليل.

ومن المعلوم أن الإنفعال شرط لتفجير القدرة العالية كما أن النضج العقلي شرط لإمتلاك الإرادة الحرة ولا يستطيع المرء أن يحقق الكثير بدونهما.

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية