الزبيري.. ثائر أقض مضاجع الإمامة ووهب روحه فداء للثورة والجمهورية
في مثل هذا اليوم من عام 1965م استشهد أبو الأحرار محمد محمود الزبيري، وباستشهاده وضعت رصاصة الغدر نهايةً لرجل عاش حياةً ممتلئة بعوالم من المثيرات الجليلة، كان أولها الشعر والثورة.
وهب الزبيري روحه ووقته لليمن، وأعدّ نفسه للبطولة والفداء والخلود، حتى أضحت ثورة الشعب على حكامه الظالمين تتجسد بشعره ، وانطلقت الثورة من خلال صيحاته في شعره ، ذلك الشعر الذي كان يجلجل في سماء اليمن كأنه هدير المدافع وأزيز الرصاص .
كان أول ظهور للزبيري كشاعر عندما ذهب إلى الحج عام 1938م بصحبة الشهيد عبد الله الوزير، ووقف أمام الملك عبد العزيز آل سعود، وألقى قصيدة لم تحفظ المصادر إلا مطلعها:قلب الجزيرة في يمينك يخفق **** وسنا العروبة من جبينك يشرق
وبقي الزبيري بعدها بمكة المكرمة طالبا للعلم إلى أن رحل عنها إلى مصر سنة 1939م حيث التحق بدار العلوم بالقاهرة، وهناك تعرف على عمر بهاء الدين الأميري الذي كان سفيرا لسوريا في باكستان، وله مع الزبيري مساجلات شعرية لم تطبع إلى الآن.
أسس الزبيري وبعض رفاقه في القاهرة أول حركة منظمة لمعارضة الحكم الإمامي في اليمن في سبتمبر عام 1940 م تحت اسم "كتيبة الشباب اليمني".
وفي سنة 1942 قطع الزبيري دراسته عائدا إلى اليمن التي رأى أنها تستحق منه مجهودا كبيرا لإنقاذ البلاد من الأوضاع المتردية والمأساوية التي كانت تكتنف اليمن آنذاك تحت حكم الأئمة من أسرة حميد الدين.
وعند قدومه إلى اليمن قدم مذكرة للإمام المتوكل يحيى حميد الدين تتضمن مشروعا لإنشاء جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ألقى خطبة في الجامع الكبير بصنعاء؛ وهو ما أغضب الإمام يحيى؛ فكان جزاؤه السجن مع عدد من شباب اليمن الأحرار في سجن "الأهنوم"؛ حيث انصرف للصلاة وتلاوة القرآن والذكر والتأمل وكتابة الشعر
في نفس العام الذي عاد فيه من القاهرة استقبلته سجون صنعاء والأهنوم وتعز ولما استطاع محبوه أن يخرجوه من السجن لم يطق البقاء في اليمن - السجن الكبير كما دعاه.
وبعدها استمر الزبيري بإلقاء القصائد من خلال إذاعة صوت العرب التي كان له دور في تأسيسها، وكان لأحاديثه وقصائده دور كبير في إنقاذ الأحرار داخل المملكة المتوكلية من الإحباط واليأس وعدم إمكانية التغيير، خصوصا بعد سقوط ثورة 1948م التي كانت أملا للأحرار في الخلاص من ظلم وطغيان الإمامة والإنقاذ من الفقر والجهل والمرض.
وحين قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م التي أطاحت بالحكم الإمامي استدعى الضباط الثوار الزبيري؛ لعلمهم أن مجيئه ومشاركته في الحكم يضفيان على الحكم شرعية كانوا بحاجة إليها، خصوصا أن الثورة لم تنته من خصومها من الملكيين الذين كان لهم الكثير من الأنصار بسبب الصبغة الدينية التي كانوا يضفونها على أنفسهم، وكانوا يلقون الدعم من الخارج أيضا.
فعاد الزبيري إلى صنعاء، وأُعد له استقبال مهيب لم تحظَ شخصية جماهيرية بمثله، وعين وزيرا للمعارف في حكومة الثورة، ثم نائبا لرئيس الوزراء وعضوا في مجلس الثورة حتى استقال عام 1964م؛ حيث إن التدخلات الخارجية أدخلت اليمن في حرب أهلية، فسارع الزبيري لإصلاح ذات البين بين القبائل، واشترك في مؤتمرات الصلح بين اليمنيين في “كرش” و”عمران”، كما تولى رئاسة مؤتمر “أركويت” بالسودان عام 1964م.
يقول عنه المؤرخ المصري محمد الجوادي " ليس بين الساسة العرب المعاصرين من يفوق الأستاذ الشيخ محمد محمود الزبيري 1910- 1965 في الاحتفاظ بمكانة سامقة و سابقة في الأدب والعلم والفكر والثقافة على وجه العموم ، و ليس في هذا القول مبالغة فهو العالم الشاعر الخطيب المعلم القاضي الفقيه الزعيم الثائر ، وفضلا عن هذا فقد كان نموذجا نادرا في العصر الحديث للنوابغ من النبلاء من فرسان عصور النهضة الذين كانوا يتمتعون بالتفوق الساحق في شتى الميادين ، ويجمعون الأمجاد جمع المقتدرين المخطّطين لا جمع المضطرين أو المتوافقين .
ويتابع " وليس بين الساسة العرب المعاصرين من يفوق الرئيس محمد محمود الزبيري قُدرة على الثورة للحق وبالحق ، وإذا قُلنا إن هذا الرجل العظيم الذي استشهد وهو في الخامسة والخمسين من عمره كان قد أعدّ نفسه للبطولة والفداء والخلود".
ويضيف الجوادي" لا نبالغ في هذا الحكم الذي نلخص به حياة هذا الزعيم النادر الوجود الذي كان إشعاعه المتوهج في الحياة السياسية اليمنية قادرا على أن يستنهض همّة الأمة على نحو ما نهضت من قبل وأن يحقق بهذه النهضة الوثابة ما عجز عنه بعض من تصدّوا لقيادة حركتها الثائرة بسبب ما كانوا يعانونه و يستمتعون به من اضطراب النية و قصور الهمة في كثير من الأحيان.
اعتمد الزبيري على الفكر في إشعال الثورة على الرغم مما كان يلقاه من الإحباط ، ومما يؤثر عنه في ذلك الوقت قوله: "كنت أحس إحساسا أسطوريا بأنني قادر بالأدب وحده على أن أخوض ألف عالم من الفساد والظلم والطغيان"
عاش طيلة حياته كما وصفه بعض أنداده طلق المحيا، يهشّ في وجوه الجميع، ويتناول القضايا والمشكلات بأسلوب متوازن من حيث فهمها واستقصاؤ ها وتشخيصها و علاجها، كان على طريقة رجال القضاء يستمع إلى آراء الجميع وينحاز إلى الرأي الذي يعضده الدليل وقوة البرهان، فيستهدي الزعماء معه إلى رأي سديد.
ويقول عنه الناقد الأردني أحمد الجدع: لا أبالغ إذا قلت بأن من يريد الاطلاع على أحوال اليمن وعلى تطور الثورة فيه فإن خير مصدر يستطيع أن يطلع عليه ويطمئن إليه هو شعر الزبيري.
ويضيف" أستطيع أن أقول مطمئناً بأن ثورة الشعب اليمني على حكامه الظالمين قد تجسدت بشعره ، وأن الشعب اليمني الثائر إنما كانت ثورته من خلال صيحات الزبيري في شعره ، ذلك الشعر الذي كان يجلجل في سماء اليمن كأنه هدير المدافع وأزيز الرصاص .
لم تستطع رصاصة القتلة أن تضع حدًا لفكر والزبيري الشعر والزبيري الثورة إذ لا يزال حيا، يستعصي عن الغياب، له حضوره المتجدد حياة وألقا في كل يوم وفي كل ساحة حتى صار أيقونة نضال وفن ليس لليمنيين فقط، وإنما لكل أحرار العالم.
وعلى الرغم من حالة التهميش والإقصاء التي مورست بشكل ممنهج ضد الزبيري شاعرا وثائرا في العقود الأخيرة؛ إلا أنَّ شمسه المضيئة أكبر من أن تحجبها السحب العابرة.
خطط الإماميون لاغتيال الزبيري، وهو ما حدث له في إحدى تنقلاته، وهو يدعو إلى حماية الثورة وإصلاح ذات البين، ﻭﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ أﺑﺮﻳﻞ عام 1965.
ونزل خبر اغتيال الزبيري كالصاعقة على أسماع اليمنيين الذين حزنوا كثيرا عليه، وشعروا بخسارة كبيرة لفقده، خاصة وأن الثورة كانت حينها في حاجة ماسة إليه، جراء الأخطار التي تواجهها من قبل الملكيين، والخلافات التي نشبت في أوساط الجمهوريين.
ترك الزبيري آثارا وبصمات وأعمالا تدل على عظمته وعلمه وحبه لشعبه، ولم يترك الزبيري قضية عربية أو إسلامية إلا وتحدث عنها شعرا أو نثرا، كما اهتم في أشعاره بقضية الإسلام الأولى "فلسطين"، وله فيها قصيدته الشهيرة "في سبيل فلسطين"، وله قصيدة مشهورة بعنوان "ثورة"، وهي من أشهر القصائد الحماسية لشاعر الثوار.
التعليقات