السعودية والحوثيون.. مفاوضات سرية وأهداف غامضة ووضع يثير الشفق

تعكس المفاوضات "السرية" المتعثرة بين السعودية ومليشيا الحوثيين جزءا من مؤامرات المملكة وتخبطها في اليمن ومحاولتها الإمساك بجميع خيوط اللعبة، لكن لم يتحقق أي شيء رغم أن تلك المفاوضات بدأت منذ العام 2016، وما زالت مستمرة بشكل متعثر ومتقطع حتى الآن، ويشكل أمن الحدود والهجمات الحوثية على أراضي المملكة والعلاقات المستقبلية بين الطرفين أهم محاور تلك المفاوضات، وفق ما يتسرب لوسائل الإعلام من معلومات بشأنها.

وربما أن ثمة محاور أخرى تدار بسرية تامة ولم يُكشف النقاب عنها، وليس مستبعدا أن يكون لفلول النظام الإمامي الملكي -الذين استضافتهم المملكة بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 ومنحتهم جنسيتها- دور في تلك المفاوضات، ومحاولة التوسط لدى الحوثيين بأن يغيروا ولاءهم للمملكة ويبتعدوا عن إيران، مقابل وعود من الرياض بإبقائهم طرفا فاعلا في اليمن.

 

- استئناف المفاوضات

الأسبوع الماضي، استأنفت السعودية ومليشيا الحوثيين المفاوضات "السرية" بينهما بشأن الأمن على طول الحدود الجنوبية للمملكة والعلاقات المستقبلية بموجب أي اتفاق سلام في اليمن، وفق ما كشفت عنه وكالة رويترز، الثلاثاء الماضي، وذكرت الوكالة أن سلطنة عمان تسهل المحادثات عبر الإنترنت بين كبار المسؤولين من السعودية والحوثيين، وثمة خطط لاجتماع مباشر في العاصمة العمانية "مسقط" إذا أُحرِز تقدم كاف.

كما نقلت الوكالة عن مصادرها أن مسؤولين سعوديين وقيادات في مليشيا الحوثيين ناقشوا اتفاقا طويل الأمد لأمن الحدود، إضافة إلى مخاوف الرياض المتعلقة بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة المستخدمة لتنفيذ هجمات على المملكة. ويأتي استئناف المفاوضات الأخيرة بعد مفاوضات مماثلة تمت خلال مايو الماضي، ولا يعرف ما إذا كانت تلك المفاوضات قد أفضت إلى نتائج معينة أم لا.

 

- قصة البداية

بدأت أول مفاوضات "سرية" مباشرة بين السعودية ومليشيا الحوثيين في مارس 2016 في مدينة "ظهران الجنوب" السعودية، أي بعد نحو تسعة أشهر من بدء عملية "عاصفة الحزم"، واتسمت تلك المدة بمعارك ميدانية ضارية في جبهات الداخل وهجمات جوية مكثفة ومركزة على مواقع مليشيا الحوثيين والقوات العسكرية الموالية لعلي صالح ومخازن أسلحتها.

لكن المفاوضات السرية تلك بدأت بعد اشتداد المواجهات في المناطق الحدودية، وأفضت إلى تهدئة مؤقتة للمواجهات (هدنة) وتبادل الأسرى بين الطرفين، ووصف الجانب السعودي تلك المفاوضات بأنها تمت استجابة لوساطات قبلية في المناطق الحدودية، وتهدف إلى التهدئة وإدخال المساعدات والأدوية إلى سكان المناطق المتضررة من الحرب.

لم يقف الأمر عند ذلك الحد، فالمغزى السياسي لتلك المفاوضات كان له تأثيره -في وقت لاحق- على العلاقة بين مليشيا الحوثيين وحليفها علي عبد الله صالح، ففي حين اتخذ علي صالح من الحوثيين ورقة لابتزاز السعودية، فإن الرد السعودي كان بإجراء مفاوضات مباشرة مع الحوثيين واستبعاد حليفهم وشريكهم في الانقلاب علي صالح، وهو ما يعني اعتراف السعودية بالحوثيين كممثل عن الطرف الانقلابي والتهميش المتعمد لعلي صالح وجناحه في حزب المؤتمر.

وعلى إثر ذلك، ظهرت قيادات وإعلاميون موالون لطرفي الانقلاب يحذرون من أن السعودية تهدف من إجراء مفاوضات مباشرة مع الحوثيين فقط إلى شق وحدة الصف بين الحوثيين وعلي صالح، لكن تلك التحذيرات لم تصمد أمام الخلافات التي بدأت مبكرا بين طرفي الانقلاب، ووصلت ذروتها في ديسمبر 2017، وانتهت بقتل الحوثيين لعلي صالح والتنكيل بجناحه في حزب المؤتمر بعد انتهاء التحالف بين الطرفين.

وبنفس الوقت، فإن المفاوضات السرية بين السعودية والحوثيين بمعزل عن الحكومة اليمنية الشرعية كانت -وما زالت- تثير غضب أنصار الحكومة الشرعية وغضب الشارع اليمني الرافض للحوثيين بشكل عام، كون تلك المفاوضات بمنزلة مؤشر على محاولة السعودية الانفراد بإدارة ملف الحرب والسلام وتقرير مصير اليمن، وتعمد تهميش السلطة الشرعية وإضعافها وتصفيتها، مقابل التواصل المستمر مع مليشيا الحوثيين رغم أنها الطرف الرئيسي في إشعال الحرب والانخراط ضمن المشروع الإيراني المهدد للمنطقة والإقليم.

وبعد أول مفاوضات في مارس 2016، لم يشهد العام 2017 أي تواصل مباشر بين السعودية والحوثيين، رغم أنه شهد تصاعد هجمات الحوثيين على أراضي المملكة بواسطة الصواريخ البالستية، ثم استؤنفت المفاوضات السرية في مارس 2018، أي بعد نحو ثلاثة أشهر من أحداث ديسمبر 2017 التي شهدتها العاصمة صنعاء وانتهت بقتل الحوثيين لعلي صالح وانفرادهم بإدارة جميع المحافظات غير المحررة.

وفي حين نفى مسؤولون سعوديون الأنباء التي تحدثت في ذلك الوقت عن مفاوضات سرية بين المملكة والحوثيين، لكن وكالة رويترز كشفت حينذاك أن المتحدث باسم الحوثيين، محمد عبد السلام، تواصل مباشرة مع مسؤولين سعوديين في سلطنة عمان بشأن "حل شامل للصراع" دون حضور ممثل عن الحكومة الشرعية.

وفي سبتمبر 2019، كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن إدارة الرئيس الأمريكي حينها، دونالد ترامب، تدفع السعودية لإجراء محادثات سرية مباشرة مع قادة الحوثيين في سلطنة عمان. وبعد أيام قليلة، أعلن مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر، في تصريح صحفي خلال زيارة له إلى السعودية، أن واشنطن تجري محادثات مع الحوثيين من أجل التوصل لحل ينهي النزاع في اليمن. وربما أن تصريح المسؤول الأمريكي، من داخل الأراضي السعودية، كان محفزا للرياض على استمرار التواصل وإجراء المفاوضات مع الحوثيين بشأن إنهاء الصراع في اليمن.

 

- وضع يثير الشفقة

مع تزايد هجمات الحوثيين على الأراضي السعودية، بالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية، واستهداف أهم منشآت المملكة النفطية ومطاراتها الحيوية، أصبحت السعودية في وضع يثير الشفقة وتهكم وتندر وسائل الإعلام الغربية، لعجزها عن التصدي لتلك الهجمات، وأحيانا عدم القدرة على تحديد مصدرها ما إذا كان مليشيا الحوثيين أم مليشيا أخرى موالية لإيران في العراق أو إيران ذاتها، وأيضا عجز المملكة عن تدمير القدرات العسكرية للحوثيين كاملة وتحييدها، وفشلها بشكل عام في الحرب في اليمن، وفوق كل ذلك تجري مفاوضات سرية مع الحوثيين، وتستجدي منهم إيقاف هجماتهم على أراضيها، وسط غموض حول التنازلات التي تقدمها لهم.

وازداد الوضع توترا خلال العام 2020، بسبب زيادة الهجمات الحوثية على أراضي المملكة، خصوصا أن الرياض كانت تستعد لاستضافة قمة مجموعة العشرين لأول مرة في أراضيها في نوفمبر من نفس العام، وكانت تتخوف من فشل انعقاد القمة جراء استمرار الهجمات الحوثية، وهي المخاوف التي استغلها الحوثيون لابتزاز المملكة والتصعيد ضدها، وبدأت المفاوضات السرية بين الطرفين في بداية العام، ثم استؤنفت في نوفمبر، قبيل انعقاد قمة مجموعة العشرين بأيام قليلة.

ونقلت وكالة رويترز حينذاك عن مصادر قولها إن السعودية أبلغت الحوثيين، خلال محادثات رفيعة المستوى، بأنها ستوقع على مقترح للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار على مستوى البلاد إذا وافق الحوثيون على إقامة منطقة عازلة على طول حدود المملكة، كما طلبت المملكة من الحوثيين مزيدا من الضمانات الأمنية إلى أن يتم تشكيل حكومة انتقالية تدعمها الأمم المتحدة، وظلت المفاوضات السرية قائمة حتى قبيل انعقاد قمة مجموعة العشرين يومي 20-21 نوفمبر 2020، ولكنها عقدت عبر تقنية الفيديو، بذريعة تفشي وباء كورونا.

 

- عروض مغرية

بعد فشل جميع المفاوضات السرية السابقة بين السعودية والحوثيين، دعا ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خلال مقابلة بثتها قنوات فضائية سعودية بالتزامن، في أواخر أبريل 2021، دعا مليشيا الحوثيين إلى الجلوس على طاولة المفاوضات "للوصول إلى حلول تكفل حقوق الجميع في اليمن وتضمن أيضا مصالح دول المنطقة". وقال إن "العرض المقدم من السعودية (للحوثيين) هو وقف إطلاق النار والدعم الاقتصادي وكل ما يريدونه مقابل وقف إطلاقهم النار والجلوس على طاولة المفاوضات".

هذه التصريحات التي حملت نبرة تصالحية غير مسبوقة وعروضا مغرية لمليشيا الحوثيين مقابل وقف هجماتها على المملكة، رافقتها أيضا نبرة تصالحية مع إيران مبالغ فيها، حيث قال محمد بن سلمان خلال المقابلة المذكورة: "نريد إيران مزدهرة.. لا نريد أن يكون وضع إيران صعبا، بالعكس، نريد لإيران أن تنمو ويكون لدينا مصالح فيها ولديها مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار". وتابع: "إشكاليتنا هي في التصرفات السلبية لإيران سواء برنامجها النووي أو دعمها لمليشيات خارجة عن القانون في بعض دول المنطقة أو برنامج صواريخها البالستية".

لكن تصريحات ولي العهد السعودي تبدو وكأنها محاولة للقفز على الواقع، ليس بسبب العداء الطائفي المستحكم بين السعودية من جهة وإيران والمليشيات الطائفية الموالية لها من جهة أخرى، وفي مقدمتها مليشيا الحوثيين، ولكن لأن إمكانية التفاوض الجاد بين الطرفين مستحيلة، بسبب عدم وجود مساحة كافية من التعاون بينهما، والتزاحم بين التعاون والصراع، وهيمنة مساحة الصراع على مساحة التعاون، وهي مساحة لا يمكنها تقليص فجوة الصراع، فضلا عن عدم وجود مصالح مشتركة ودائمة لتكون نقطة انطلاق لتسوية دائمة، وكذلك تعقد وتشابكات الملف اليمني، واحتمال حدوث متغيرات تنسف كل الترتيبات التي قد تتم على هامش الحرب.

 

- غموض الأهداف

ما تسرب من معلومات حتى الآن بشأن الأهداف من المفاوضات السرية بين السعودية ومليشيا الحوثيين، يتمحور حول وقف هجمات الحوثيين على أراضي المملكة، وأمن الحدود، وإقامة منطقة عازلة على طول حدود المملكة مع اليمن، ووعود بتقديم الدعم الاقتصادي للحوثيين "وكل ما يريدونه"، وفق تعبير محمد بن سلمان، مقابل وقف إطلاق النار، لكن مجمل الأهداف المذكورة يمكن للسعودية تحقيقها من خلال التدخل العسكري الواسع والدعم الجاد للحكومة الشرعية والجيش الوطني وبالتالي إنهاء الانقلاب، كون كل مخاوف المملكة يمكن حلها دفعة واحدة من خلال إنهاء الانقلاب الحوثي بقوة السلاح.

غير أن استمرار المفاوضات السرية بين المملكة والحوثيين يعني أن الحسم العسكري ليس واردا في أجندتها، وأن مفاوضاتها السرية مع الحوثيين -بمعزل عن الحكومة الشرعية- تكشف عن نواياها بتعمد إطالة أمد الحرب في البلاد، ولكنها تبحث عن ترتيبات تضمن انحصار الحرب على الداخل اليمني ووقف هجمات الحوثيين عليها، وربما هناك أهداف مجهولة ما زالت طي الكتمان، ولتحقيقها تتخذ السعودية من تهميشها المستمر للحكومة الشرعية والتواصل مع الحوثيين وإطالة أمد الحرب وسيلة لذلك.

المصدر: قناة بلقيس - عبد السلام قائد

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية