اقطع يدي إن كنتُ وحدوياً!
كان المشروع الانفصالي يجلب الخجل والتواري والعار، وحري به أن يبقى كذلك على الدوام وإلى الأبد.. وفي زمن الأحرار، لم يكن من السهل على أحد أن يؤيد أو يتبنى المشروع الانفصالي.. وقد شاهد الناس، وزيراً مخضرماً، من يافع العزيزة، يقول للرئيس صالح على الهواء، بعد حرب 1994: "اقطع يدي إن كنت مؤيدا للإنفصال!".
الآن؛ وقد تمت شيطنة الوحدة والوحدويين، منذ مدة ليست بالقصيرة، على نحو ممنهج ومجحف لا نظير له، إلى درجة الإرهارب، وصارت اليمن وقضاياها المصيرية، ومنها وحدة الشعب والأرض اليمنية، أشبه بالأيتام؛ فقد لا يُستغرَب أن ترى مسؤولا في الدولة؛ وزيرا أو غير ذلك، كبيرا أو دون ذلك، يقول: "اقطع يدي إن كنتُ وحدوياً!".
عشية إعلان السيد البيض الافصال، في 21 مايو 1994، قال في الفقرة ثانياً، إنه سيسعى لقيام الوحدة من جديد.
وقال إنه -بالتحالف مع الأحزاب والشخصيات والقيادات- سيعمل على إعادة تحقيق الوحدة اليمنية من جديد، على أسس ديموقراطية وسلمية، وفقاً لبيانه في ذلك اليوم 21 مايو 199..
ويعني ذلك أنه لم يكن سهلاً، ولا يسيراً كيفما كانت النوايا، والأهداف الحقيقية، أن تعلن أنك انفصالياً بوضوح كامل ونهائي، كما يحدث الآن.. وقال، في مناسبة أخرى حينها: "يدنا طويلة ولن نكتفي بالوقوف عند حدود التشطير السابقة". أما الآن فقد وقفوا عندها، ولم يتعدوها مع سبق الإصرار والتعمد والقصد!
وتصدر البيانات والتصريحات من الرئاسة تؤكد أنها مع “حق تقرير الجنوب لمستقبله السياسي”، وكذلك التعقيب على بيان الإتحاد الأوروبي، الذي تؤكد فيه الرئاسة أنها تحترم تطلعات مكونات المجلس، وتطلعاته هي الانفصال ولا سواه!
وكان هناك، زمان، من يرمي آخرين بالخيانة والعمالة والرجعية إذا هم سلموا بحدود اليمن الحالية.
وللمفارقة؛ ينتمي أولئك إلى خلفية ومعسكر الانفصال المتطرف الحالي. وقد يتعرض بعض القادة للاغتيال كما حصل لرئيس الوزراء عبدالله الحجري، ونائب رئيس الوزراء محمد النعمان، بسبب موقفهما من اتفاقية الطائف، وكان رأيهما أن تكون نهائية ودائمة، ووُجِّهت تهم تلك الاغتيالات للحكومة في عدن حينها.. وقد يوجّه رئيس الدولة في الجنوب، سالمين، ووزير داخليته، صالح مصلح، بقتل رئيس الشمال، أحمد الغشمي؛ تمهيدا لاقتحام الشمال وتحقيق وحدة اليمن بالقوة، كما نعرف، وكما يؤكد الرئيس علي ناصر محمد في تصريحاته ومذكراته.
ويعني ذلك إن الوحدة كانت هدفاً لديهم، يجب تحقيقه بكل الوسائل والسبل، بما في ذلك استخدام العنف والقوة بكل أشكالها. وينسب الرئيس علي ناصر إلى صالح مصلح أنه قال: "لا بُد من تحقيق الوحدة، حتى وإن قُتلت أنا وابني لحسون من أجلها".
ونعرف أن الذي منع اقتحام صنعاء، في عام 1979, هو الموقف الإقليمي والدولي، بما في ذلك موقف الاتحاد السوفياتي نفسه، الحليف الرئيسي لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، وكما يؤكد الرئيس علي ناصر في مذكراته.
ويجدر بالذكر أن الرئيس علي ناصر كان وما يزال مع وحدة اليمن، على الرغم مما تعرض له من استبعاد وتقصير وغير ذلك؛ وعشية تحقيق الوحدة اشترط رفاقه السابقون مغادرته اليمن! وغادرها بالفعل، مع الشعور العميق بالإجحاف والنكران.
وما أصعب أن يكون ذلك مصير قائد كبير عمل من أجل الوحدة اليمنية كثيراً، وتمت صياغة دستورها، والكثير من التمهيد لها في عهده.
في الوقت الذي يصدع الانفصاليون الآن بمشروعهم الانفصالي بكل صراحة وبجاحة، وبدعم من جهات خارجية، لا يستطيع أو لا يجرؤ أي مسؤول في الدولة أن يعلن أنه متمسك بوحدة اليمن واستقلاله وسلامة أراضيه، إذعاناً لهذه الجهة الانفصالية أو إرضاءً لذلك الطرف المموِّل.. وكأنه صار من شروط شغل الوظيفة العامة بكل مستوياتها، ألا يعلن المسؤول بوضوح موقفاً إيجابياً صلباً ومتماسكًا تجاه اليمن الواحد واستقلاله وسلامة أراضيه، وإذا حدث ونطق أحدهم، في النادر، فلا بُد أن يكون كلامه واهناً ومهزوزا ومتلعثماً وخجولاً وحمَّال أوجه.
والحقيقة، لم يعد ينطق أحد بما يجب؛ وإذا وُجِد من يمكنه أن يفعل، من الحكومة أو الرئاسة، فبشرونا وسنحتفي ونحتفل!
إذا لم يستطع أحد ممن يعنيهم الأمر أن يتبنى موقفاً قوياً واضحاً تجاه اليمن ووحدته واستقلاله وسلامة أراضيه، فما الذي بقيَ لجيلنا من وطنية وكرامة ومكانة وتاريخ واحترام؟! وما الذي تبقى من شرف الزعامة والقيادة والوظيفة العامة بكل مستوياتها؟!
ولا أحد في أي قطر آخر يفرط أو يداهن أو يذعن تجاه وحدة بلاده مثلما يفعل المعنيون منا.
لننظر في كل الاتجاهات، وإلى كل الجيران وكل البلدان، وكل الأشقاء، والأصدقاء، لن نجد أحداً يفرط في وحدة بلاده، كما يفعل “ربعنا"!
لا بُد أن يُعاد الاعتبار لمكانة ورمزية وحدة اليمن، وهي ثمرة وخلاصة نضالات شعب اليمن، وتطلعاته وأحلامه منذ آماد بعيدة.
ولا ينبغي الاستمرار في الإذعان لشيطنتها وتبخيسها، والاستسلام لاعدائها، وهي أهم إنجاز يتحقق لليمنيين خلال المائة عام الأخيرة. ويعود الفضل للرئيس صالح في ذلك أكثر من غيره، وقد اختلفنا معه وحوله قبل ذلك وبعد ذلك، ويبقى للإنصاف، وبالمقارنة مع آخرين، صقراً يمنياً وحدوياً؛ ويحسُن الآن أن نترك دور صالح للتاريخ، وذكرته هنا؛ لأن الشيء بالشيء يذكر.
وللحقيقة أيضاً؛ فلم أنضم للمؤتمر الشعبي، عام 1990، إلا بسبب موقف الرئيس صالح الحازم من وحدة اليمن، حينذاك، مقارنة بالمتلكئين حينها!
ويستحيل أن تقام دولة أو دول محترمة ومعتبرة على أنقاض الجمهورية اليمنية وإن توَهَّم المتوهمون وزعم الزاعمون؛ ولن يترتب على ذلك سوى الهوان والذل والفوضى عارمة ومستفحلة، أكثر مما هي عليه الآن، كلما سعى الواهمون خلف سراب الانفصال وتفكيك اليمن، وكلما دس رؤوسهم في التراب من يعنيهم الأمر، وقالوا إنهم يؤمنون "بحق تقرير الخيارات السياسية للجنوب"، "ويحترمون تطلعات الانفصاليين"، ويلومون الاتحاد الأوروبي ولا يشكرونه وهو يلوم الانفصاليين والحو/ثيين، وهو ما زال يقف إلى جانب وحدة اليمن واستقلاله وسلامة أراضيه، ومثله الولايات المتحدة الامريكية، وقرارات مجلس الأمن.
كان الناس متفائلين بالدكتور العليمي، وظنوا أنه لن يفرط في وحدة اليمن واستقلاله وسلامة أراضيه، تحت أي ظرف وأي ضغط وأي إغراءات، ولن يتخذ أي إجراء أو قرارات أو تعيينات، من شأنها التمهيد والتسهيل والتفريط بالوحدة الوطنية، وبعد قرارات شبوة وسقطرى وحضرموت، خابت آمال كثيرين. فما بالنا بالتصريحات الأخيرة، وحكاية "حق تقرير الخيارات السياسية" و"احترام التطلعات"، والعتب على الاتحاد الأوروبي بسبب بيانه الذي انتقد فيه الانتقالي.
ما تزال الفرصة أمام الدكتور العليمي متاحة، في المراجعة، بحيث لا يحيد قيد أنملة عن اليمن الواحد الموحَّد، واستقلاله وسلامة أراضيه، وأن تكون مواقفه وخطابه وبياناته وقراراته مع اليمن الواحد؛ وسنكون معه ما كان على ذلك، سواء كنا مسؤولين تنفيذيين في السلطة أو خارجها، ولن نكون معه ولا مع غيره إن هو حاد عن ذلك قولا أو عملاً.
أما أشقاؤنا في المملكة العربية السعودية فلهم الاحترام والتقدير، وأخلص الأمنيات في مزيد من التقدم والازدهار وفي وحدة بلدهم العزيز، واستقراره وأمنه، ونحن فخورون بالقائد العربي الاستثنائي عبدالعزيز آل سعود، وما أنجزه من وحدة كيان ضخم، متعدد المذاهب والأقاليم، والمناطق، في جزيرة العرب، ونعلم دور السعودية في صياغة ودعم قرارات مجلس الأمن الخاصة باليمن، التي تؤكد على وحدة اليمن، واستقلاله وسلامة أراضيه، ومع ذلك فإن مثل تصريحات السفير آل جابر تثير التساؤلات والريبة، وكان رده على سؤال: هل المملكة مع وحدة اليمن، أم لا؟ فقال: اليمنيون يقررون!
قال ذلك وهو يعلم حجم الدعم الهائل متعدد الأوجه، والرعاية والإسناد الذي يُقدَّم للانفصاليين، بما في ذلك إشراكهم في الحكومة، ومجلس الرئاسة، وهم ما يزالون متمسكين بموقفهم الانفصالي، ويعملون من أجله ليلاً ونهاراً، وقد صار قوام جيشهم، أو مليشياتهم (يغضبون من كلمة مليشيا) حوالي مائة ألف.. كنا نتوقع أن نسمعه ونراه يؤكد على موقف الملك سلمان في خطابه في قمة البحر الميت وقمة الظهران، حيث قال: "إن المملكة مع وحدة اليمن واستقلاله وسلامة أراضيه".
ومن الطبيعي ألا نتوقع من السعودية غير هذا الموقف الواضح الجلي المحترم.. ولا بُد أن يعذرونا ويفهموا غضبنا واحتجاجنا، إن بدا لنا من طرفهم أو ممن يمثلهم، مثل موقف السفير آل جابر، وهو خلاف الواجب والمتوقع من الشقيقة السعودية التي لا نعرف سواها مسؤولةً عن اليمن، أمام الشعب اليمني والعالم والتاريخ، في ظروف اليمن الحالية.
وليس هناك ما هو أهمّ لدينا من مصير اليمن، ووحدته واستقلاله وسلامة أراضيه، ومصير وكرامة شعبه المكلوم المظلوم المضطهد المشرّد.
وقد يكون مُهمََّا أن يعلم أشقاؤنا في المملكة أن أولئك الذين يقطعون وعوداً؛ مثل "حق تقرير المستقبل السياسي" أو حكاية "احترام التطلعات"، أو يتخذون قرارات وإجراءات من شأنها تفتيت اليمن أو تمهد لذلك، وينفذون ما يتناقض مع قضايا وطنهم المصيرية، ومن ذلك ما يتعلق بوحدة ترابه الوطني، مهما كانت تسميات مناصبهم، فإن أولئك لا يمثلون اليمن الكريم المحترم، ولا يعبرون عن إرادة شعبه، ولا يترتب على أي موقف يتخذه مثل أولئك، خلافاً لحقوق الشعب اليمني الثابتة ووحدته واستقلاله وسلامة أراضيه، أي نتائح معتبرة يعترف بها الشعب اليمني، ويُبنى عليها.
التعليقات