خرافة الولاية وادعاءات الحوثيين
26 سبتمبر.. عودة الروح

- متى نجح اليمنيون في تغيير النظام الذي حكم لمئات السنين؟ 

- حين عرفوا واقعهم.

-متى عرفوا واقعهم؟

- حين عرفوا واقع غيرهم.

- متى عرفوا واقع غيرهم؟

- من ثلاثينيات القرن العشرين.

 معرفة الواقع، واقع البلد، لا نعني بها معرفة حوادثه، بل المستوى الذي يحتله البلد في سلم التطور، وهذه لا تتم الا بالمقارنة بدرجة التقدم التي بلغتها الامم الاخرى، و"بضدها تتبين الاشياء".

كانت اسوار العزلة قد ضُرِبت على اليمن منذ قرون عدة، ربما ثلاثة او اربعة، قبل ثلاثينيات القرن العشرين. كانت اسوارا شديدة الاحكام والصلابة. يظهر ذلك في كونها اولا قامت بين اليمنيين بعضهم بعضا من ناحية وبينهم والخارج من ناحية اخرى. وثانيا كانت مزدوجة؛ تتضمن منع الداخلي من الخروج ومنع الخارجي من الدخول. وثالثا لم تكن اسوارا سياسية فقط بل سياسية ثقافية اجتماعية.

خلال تلك القرون، ظل اكثر اليمنيين يعتقدون بان حياتهم طبيعية او شبه طبيعية. لم يكن ذلك لعدم قدرتهم على التمييز بين الصواب والخطأ. كما لم يكن لغياب الاوجاع. في الواقع كانت الاوجاع قد بلغت منتهاها، الامر الذي صاروا معها وبسببها ربما لا يشعرون بها كثيرا. ربما كانوا -لشدة الاوجاع-اقرب للاموات منهم للأحياء و"مالجرح بميت ايلام". 

غاب عنهم الضوء فالفوا الظلام، عظم جوعهم فاجتروا اجسامهم، تراكمت جراحاتهم فاعتادوها. الحروب التي لانهاية لها، الفقر، المرض، جميعها انهكت اجسامهم وقلوبهم.

 اما الخر افات الدينية المبثوثة فقد كانت من النوع الذي يجعل المصابين بها مغفلين. تصيبهم بالشلل الفكري الروحي النفسي التام، والشلل الحركي جزئيا، تسلب فاعليتهم وشعورهم بأنفسهم. اجمالا قامت الخرا فة الدينية بدورين اساسيين؛ تخديرهم من ناحية، وتضليلهم عن معرفة المسبب الاساس لتلك الاوضاع من ناحية اخرى.

 والنتيجة: انطووا على انفسهم وتكوروا في بيئاتهم المحلية، وكأنهم قد توزعوا في الاف الجزر الصغيرة المتباعدة.  صاروا لا يفكرون بغير شؤونهم اليومية البسيطة، اهتماماتهم اليومية لا تتجاوز تدبير ما يأكلون في يومهم. ولم تخل القرون هذه من بعض الانتفاضا ت المحلية ذات الاهداف المحدودة الآنية. لم يكن يحركها وعي حديث، لم تكن مدفوعة بقضايا الحرية والعدالة والمساواة والحكم الدستوري، ما جعلها انتفاضات ظرفية، تظهر سريعا وتموت سريعا.

واضح ان السبب الاساس لكل ما ذكر انفا هو العزلة المديدة المحكمة والخر افات التي عطلت العقول. 

لم يكن قد تكشف لهم واقع اخر اكثر تطورا ليقارنوا واقعهم به.

على ان اسوار العزلة تستطيع ان تعزل بعض الناس بعض الوقت او حتى معظم الوقت لكنها لا تستطيع ان تعزل كل الناس كل الوقت.

ذلك ما حدث فعلا!  

من ثلاثينيات القرن العشرين، تمكنت ثلة من اليمنيين من اجتياز هذه الاسوار والاطلاع على اشعاعات العقل الحديثة. بعض تلك الثلة تسربت الى الخارج، وبعضها تسربت اليها ثقافة الخارج. رجال تسربوا من اليمن وثقافة تسربت الى اليمن.

لم يحدث ذلك في لحظة زمنية واحدة. بعض ذلك حدث في ثلاثينيات القرن العشرين وبعضه في الاربعينيات وبعضه في الخمسينيات. فريق من تلك الثلة تلقى تعليما عسكريا في بغداد، وآخرون نهلوا من معين الثقافة في مصر، وفريق ثالث تلقى تعليما في بلدان اخرى، وطائفة رابعة، وقد تكون اقدمها، لم تغادر اليمن لكنها اتصلت بالفكر النهضوي العربي الحديث، وتلقت بعض اشعاعاته. 

واضح ان الثلة هذه هي ذاتها التي شكلت، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، حركة المعارضة اليمنية، التي سيكون لها، ومن التحق بها من التجار والمشائخ والضباط، الدور الاساس فيما سيحدث تاليا. 

من ثنايا وفي ثنايا ذلك التسرب العابر للحدود، ادركت تلك الطليعة اليمنية ان الواقع اليمني متخلف اشد التخلف عن الواقع العربي ناهيك عن الواقع الغربي. في الواقع ايقنت ان حال اليمنيين لم يكن طبيعيا او شبه طبيعي، بل شاذا غريبا، وان اليمنيين يعيشون في قعر العالم.

هل يمكن اعتبار هذا الادراك، هذا الاكتشاف، الفكري الثقافي لا الحسي فقط، للفجوة الكبيرة بين الواقعين العربي واليمني -وما ولد في نفوس تلك الثلة من ارادة التغيير-التباشير الاولى لعودة الروح اليمنية؟ بداية اليقظة اليمنية الحديثة ؟ ذلك ما يقول به الواقع والتاريخ. وما يعبر، برأينا عن الروح هو تحديدا تلك الارادة، ارادة التغيير، المتولدة عن ادراك الفارق لا مجرد الاكتشاف ذاته او الادراك.

 الارادة المجسَّدة في حركة المعارضة اليمنية.

 ما بين بداية اليقظة العربية الحديثة وبداية اليقظة اليمنية الحديثة مائة وثلاثون عاما. العربية بدات مع اوائل القرن التاسع عشر، واليمنية بدات من ثلاثينيات القرن العشرين. 

كلا اليقظتين، العربية واليمنية، نجمتا اساسا عن الشعور بالفارق. شعور العرب بالفارق بين واقعهم والواقع الاوربي، وشعور اليمنيين بالفارق بين واقعهم والواقع العربي خاصة.   

إن كانت اليقظة اليمنية قد صدرت في الاساس متأثرة باليقظة العربية بما يجعلها اقرب ل "الهزة الارتدادية" منها "للهزة" فإنها في اتجاهها واهدافها ووسائلها حملت روحا بالغ القوة والعنفوان بل الثورة. سبب ذلك انها اكتسبت مضمونا خاصا بها، نابعا من ظروفها الخاصة اليمنية، مضمونا داخلي المصدر، يتعلق بعضه بطبيعة نظام الحكم القائم وبعضه بدواعي استعادة الهوية اليمنية المقموعة. لقد استمدت روحها، غذاءها، لا من مصدر عربي او غربي. بل من المعضلة اليمنية التاريخية الاعظم تعقيدا والاعظم مرارة..  توسلت اليقظة اليمنية وسائل ثورية، وحملت مضمونا ثوريا وروحا ثورية. الروح التي ستسعى للثورة وستحاولها في ٤٨.. و ٥٥، وستنجزها فعلا في ٦٢.. 

قبل ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الروح اليمنية ضامرة معطوبة مستسلمة للواقع البائس ومن يصنع الواقع البائس. كان املها الموت لا الحياة. على ان التاريخ لربما يقول بانها من النوع الذي يمرض لكن لا يموت على يد بشرية. وبالأساس ليس يليق بهذه الروح ان تموت وهي تملك زادا هائلا من التاريخ والحضارة والعقيدة.

يوم ظهرت حركة المعارضة كان رجالها فيما يبدو هم وحدهم من يملكون ارواحا حية متقدة، زاد من اتقادها ما رأت من ضوء خارج بلدها وما تسرب اليها من شعاع عابر للحدود.

 وما حدث هو ان هذه الثلة ذات الارواح الحية المتقدة نفثت من روحها-وتلك مهمة الرواد والمجددين- في الاروح اليمنية الخاملة الخامدة، فانتفضت هذه الاخيرة ايضا، وكانت  ٤٨ و ٥٥ وكانت سبتمبر ٦٢. وكانت الجمهورية.

هذه الاخيرة؛ الجمهورية، هي خلاصة الروح اليمنية وعنوان وجودها. هي بالأحرى خلاصة ارواح اليمنيين ومن يود ان يكون يمنيا. 

هل سيحافظ اليمنيون على روحهم، على مجمع ارواحهم: الجمهورية؟(يحافظ ام يستعيد ؟!)، روحهم ومجمع ارواحهم، والمجمع عليها سياسيا ايضا، التي بوجودها تحيا ارواحهم الفردية وبغيابها تموت وتندثر؟  يستطيعون ذلك ما احتفظوا بأرواحهم الفردية، التي بين جوانحهم، حية متقدة، وما احتفظوا بواقع خال من الاسوار العازلة.   

أقراء أيضاً

التعليقات

ممارسات أدت إلى قرار البنك المركزي اليمني في عدن.


أخبار مميزة

مساحة اعلانية

رغم الحرب التي تشهدها اليمن، إلا أن عيد الأضحى والطقوس المرتبطة به ما زالت موجودة وتحظى بأهمية كبيرة بين الناس في اليمن.