عسكرة البحر الأحمر.. جناية التحالف السعودي الإماراتي والحوثيين على اليمن
ازدادت وتيرة عسكرة البحر الأحمر خلال الأسابيع القليلة الماضية إثر هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر بذريعة نصرة قطاع غزة، فبعد أن أرسلت دولة الاحتلال الإسرائيلي عددا من السفن الحربية والغواصات الحديثة إلى جنوب البحر الأحمر، في ديسمبر الماضي، بذريعة مراقبة أنشطة إيران، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا عن عملية "حارس الازدهار" للتصدي لهجمات الحوثيين على السفن التجارية، وتبعهما لذات الغرض الاتحاد الأوروبي الذي أعلن انطلاق مهمة بحرية في البحر الأحمر باسم "أسبيدس".
بدورها، أعلنت الصين، الأربعاء الماضي، إبحار الأسطول الـ46 التابع لبحرية جيش التحرير الشعبي الصيني إلى خليج عدن والمياه الواقعة قبالة سواحل الصومال. كما أرسلت الهند سفينتين حربيتين إلى البحر الأحمر وخليج عدن، ثم عززتهما بعشر سفن أخرى وثلاث مدمرات لحماية مصالحها التجارية.
ومن المتوقع أن ترسل مزيد من الدول سفنا حربية إلى المياه المحيطة باليمن، المفخخة أصلا بقواعد عسكرية منذ مدة طويلة. ويبدو أن معظم القوى الإقليمية والدولية تسعى لأن يكون لها حضور عسكري طويل الأمد في البحر الأحمر وخليج عدن استغلالا للتوتر الراهن جراء هجمات الحوثيين على السفن التجارية المارة عبر مضيق باب المندب.
- اليمن ضحية تنازع مكوناته ومكائد جيرانه
من المعروف تاريخيا أن ظاهرة القواعد العسكرية الأجنبية في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي أبرز مؤشرات التكالب الدولي والإقليمي على النفوذ والسيطرة في هذه المنطقة الحيوية، ليس فقط لدوافع اقتصادية، وإنما لدوافع كثيرة معظمها تتعلق بصراعات القوى الكبرى عبر التاريخ، حتى أضحى البحر الأحمر ممرا عسكريا هاما تسلكه القوى الكبرى لتحريك قواتها بين قواعدها المختلفة والمنتشرة حول العالم ونقلها إلى مناطق النزاع، وهو ما يدفع تلك القوى لاستثمار موقع البحر الأحمر عسكريا وسياسيا تحت لافتات تجارية واقتصادية.
وازدادت وتيرة عسكرة البحر الأحمر خلال العقد الأخير، بسبب انقلاب مليشيا الحوثيين على السلطة الشرعية، التي مثّل انقلابها عامل إغراء لإيران للتمدد إلى البحر الأحمر واتخاذه مركز صراع متقدم ضد خصومها الإقليميين والدوليين، فكثفت من دعمها لمليشيا الحوثيين لضمان استمرار سيطرتها والحفاظ على مكاسبها الميدانية في شمال اليمن وغربه.
وإذا كانت مليشيا الحوثيين قد استقدمت النفوذ الإيراني إلى اليمن والبحر الأحمر، فإنها أيضا جلبت التدخل العسكري للتحالف السعودي الإماراتي، الذي كان تدخله بذريعة مساندة السلطة الشرعية ضد الانقلاب الحوثي، ومنع إيران من توسيع نفوذها إلى اليمن والبحر الأحمر، لكن النتيجة كانت عكسية: ترسيخ سيطرة الحوثيين وإيران في اليمن والبحر الأحمر، وبالتالي جلب مزيد من القواعد والسفن الحربية الأجنبية إلى المنطقة.
لقد تسبب كل من الانقلاب الحوثي والتدخل العسكري السعودي الإماراتي في تحويل اليمن إلى منطقة رخوة وخلق فراغ إستراتيجي استفادت منه إيران والقوى الدولية الراغبة بأن يكون لها وجود عسكري دائم في المنطقة واستمرار تعزيزه بذرائع شتى، ولولا الانقلاب الحوثي والتدخل العسكري السعودي الإماراتي لما تراكم التوتر في منطقة البحر الأحمر وازداد الوجود العسكري الأجنبي، الذي يؤثر سلبيا على الوضع في اليمن، ويهدد الأمن القومي العربي بمجمله.
ولا يمكن إغفال الدور السلبي للمكونات اليمنية المنضوية في السلطة الشرعية، أو بالأصح النخب السياسية التي ساقتها الأقدار والمؤامرات الخارجية لتكون على رأس السلطة الشرعية في مرحلة حساسة ومفصلية في تاريخ البلاد، ففشل تلك النخبة وعجزها وتبعيتها المطلقة لحكام السعودية والإمارات تسبب في ضياع الدولة اليمنية وتفتتها بين مليشيات متنافرة، وترك المجال شاغرا لنفوذ القوى الأجنبية لتعبث في البلاد كيفما تشاء، وتحويلها إلى منطقة هشة ورخوة، بالرغم من أهميتها الإستراتيجية.
لقد كانت اليمن قديما في صدارة مجابهة القوى الاستعمارية الساعية للسيطرة على البحر الأحمر من خلال احتلال البلدان المشاطئة له، حتى عرفت بأنها "مقبرة الغزاة"، كما تميزت عن جوارها الإقليمي بأنها الدولة الوحيدة التي لم يكن يوجد فيها قواعد عسكرية أجنبية، ولم تربطها اتفاقيات تعاون عسكري أو دفاعي مع أي دولة أجنبية، كما هو حال منطقتي الخليج العربي والقرن الأفريقي اللتين تنتشر فيهما قواعد عسكرية أجنبية، تحت وطأة الحاجة للحماية الأمنية في دول الخليج، والحاجة الاقتصادية في دول القرن الأفريقي.
لكن بعد انقلاب مليشيا الحوثيين على السلطة الشرعية وتدخل السعودية والإمارات عسكريا في البلاد، انقلبت الأوضاع رأسا على عقب، فاليمن لم يعد تلك المنطقة التي لا توجد فيها قواعد عسكرية أجنبية، ولم يكن حتى كجواره الإقليمي، أي توجد فيه قواعد عسكرية أجنبية وفق اتفاقيات رسمية مع الدولة، وإنما أصبح مرتعا لقوات وفاعلين أجانب في ظاهرة تعد من أسوأ ظواهر التعدي على السيادة الوطنية، فالسعودية والإمارات تسيطران على أهم الجزر والموانئ اليمنية ولهما فيها قواعد عسكرية، بينما إيران حولت شمال البلاد إلى ساحة عسكرية لها تهرب إليها الأسلحة والخبراء العسكريين وغيرهم، وتستخدمها كمركز متقدم لإدارة صراعها ومناوشاتها مع القوى الكبرى تحت لافتة مليشيا الحوثيين.
- من المستفيد الأكبر؟
تعد إيران المستفيد الأكبر من انهيار الدولة اليمنية والإجهاز عليها من جانب التحالف السعودي الإماراتي، ففشل التحالف في اليمن وعدم قدرته على مجابهة إيران ومليشياتها، تسبب بحدوث خلل في التوازن الإقليمي، بل وحول اليمن ومنطقتي الخليج العربي والقرن الأفريقي إلى مناطق رخوة وهشة، وهي مناطق لطالما ظلت عرضة لمزيج من الفوضى والتوتر الجيوسياسي ومحاولات إعادة تشكيل نمط القوة الإقليمية، وكانت إيران سباقة في السعي لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في اليمن وجنوب البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وتمكنت من إيجاد نقاط ارتكاز لها في المنطقة.
وفي المقابل، تسببت السعودية والإمارات بفراغ إستراتيجي كبير في اليمن بإضعافهما السلطة الشرعية ودعمهما المليشيات ومشاريع تقتيت البلاد، وبالرغم من إنشائهما قواعد عسكرية في بعض الجزر اليمنية والقرن الأفريقي، إلا أنهما لم تتمكنا من سد الفراغ الإستراتيجي الذي تسببتا به في اليمن، وهو الفراغ الذي تحصد ثماره اليوم إيران ومليشياتها.
وبالرغم من أن البحر الأحمر له تأثير مباشر على الأمن القومي العربي، لكن الدول العربية تبدو عاجزة عن حفظ الأمن في هذه المنطقة، ويشبه مشهد العجز العربي اليوم مشهد العجز عام 1984، عندما زرعت إيران نحو 190 لغما بحريا متطورا في مياه البحر الأحمر، مما أدى إلى إصابة أكثر من 16 سفينة، وشكل تهديدا واضحا للملاحة الدولية، مما استدعى تدخل القوى الدولية لتنفيذ مسح بحري وتنظيف المنطقة من الألغام.
ومع زيادة التنافس بين القوى الإقليمية والدولية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، وانتشار القواعد العسكرية وتكثيف التواجد الأمني الذي حول المنطقة إلى ثكنة عسكرية، فإن من شأن المتغيرات الإقليمية والدولية أن تدفع بمزيد من الوجود العسكري الأجنبي إلى البحر الأحمر، مما يشكل تحديا أمنيا كبيرا مزمنا لليمن ولجواره الجغرافي، خصوصا أن التطورات التي يشهدها الشرق الأوسط تدفع باتجاه إعادة تشكيل الإقليم، مما يجذب العديد من الفاعلين الإقليميين والأجانب للبحث عن مواقع داخل الإقليم أو في جواره الجغرافي لتدعيم مصالحهم، لا سيما في البحر الأحمر، الذي يعد قناة وصل بين البحار والمحيطات المفتوحة.
التعليقات