ثورة ٢٦ سبتمبر واعلان قيام الجمهورية

بين الإمام الشهيد والرئيس الشهيد .. محمد مرسي
ستظل تجربة الرئيس الشهيد محمد مرسي (8 أغسطس 1951 – 17 يونيو 2019م ) ، أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث حاضرة بقوة في سجلات تجارب الحكم والعمل السياسي في عالمنا العربي والإسلامي .وغني عن البيان فقد تم بث عشرات البرامج والمقابلات كما كتبت عشرات المقالات والتحليلات - منها الغث ومنها الثمين - تناولت الرجل بعد توليه حكم مصر (يونيه 2012م ) حتي سقوطه - شهيدا بإذن الله - في سىاحة محكمة الظلم والجبروت في 17 يونيه 2019م .
وحول هذه التجربة الفريدة يهمني التوقف أمام المحطات والمفاهيم والدروس التالية :
أولا : يتم التعامل مع الرجل على أنه مجرد رئيس مر على كرسي رئاسة مصرلمدة عام ثم راح وانتهى ، ويمهر البعض كلامه في هذا الصدد بعبارات الانتقاد اللاذع والإطناب في الحديث عن الفشل ،بينما يلح الانقلاب عبر آلته الإعلامية الجهنمية علي تثبيت هذه الصورة وإلقاء مزيد من التشويه عليها، ورغم كل ذلك سيظل حدث تولي د.محمد مرسي حكم مصر محفورا في التاريخ وستظل مجريات وأجواء انتخابه وقيادته لمصر حدثا غير مسبوق ، سيتوقف التاريخ أمامه طويلا ، فلم يحدث في تاريخ مصر الحديث أن انتزع الشعب المصمري كرسي الرئاسة بقوة إرادته الجارفة في انتخابات حرة ونزيهة شهد العالم كله بنزاهتها وفي مقدمتهم المجلس العسكري الحاكم ، رغما عن كل القوى والتيارات الكارهة التي كانت متغلغلة في معظم مفاصل الدولة . كانت لحظات عصيبة علي العسكر والدولة العميقة وكل التيارات المناوئة للمشروع الإسلامي أن يعتلي رئيس إسلامي سدة الحكم ويؤدي له رئيس المجلس العسكري ونائبه التحية العسكرية فور تنصيبه ،وذلك بعد اكثر من نصف قرن من المحاكمات العسكرية والسجون والمصادرات والمظالم للتيار الذي يمثله .. لحظات ذهول عاشها العالم والشعب المصري غير مصدق بما يجري .
حدث يتوقف التاريخ أمامه بإجلال ويمثل انتقالا محوريا في حكم مصر، من نظام ملكي وراثي إلى نظام جمهوري عسكري إلى نظام ديمقراطي ورئيس منتخب – بجد - من بين أفراد الشعب .. حدث أحدث زلزالا شديدا في الحياة السياسية المصرية وذهولا لدي الجميع في الداخل والخارج ، وكسر القاعدة المستقرة في حكم مصر . حدث أكد بلسان حال الشعب المصري : نعم نستطيع ... نعم .. يفرض الشعب إرادته إذا أراد ...وبهذا يمكنني القول :يكفي محمد مرسي -وكل احرار الشعب المصري - أنه نال شرف المحاولة أو بالأحرى المغامرة الانتحارية ونجح في حفرها في تارخ مصر بل والمنطقة كلها .. وهو هو من رد علي سؤال صحفي تم توجيهه إليه خلال الاستعداد للانتخابات الرئاسية: هل تدرك يادكتور مرسي إلى أين أنت ذاهب ؟!.. فرد بكل اطمئنان : نعم..أنا ذاهب لمهمة انتحارية وسأمضي فيها إن شاء الله!
ثانيا : قدم نموذجا غير مسبوق للحكم ولم يتكرر حتى الآن ..لم يسكن القصر الرئاسي بل واصل السكن في شقته المؤجرة ، ومعلوم أن سابقيه وخلفه ممن تربعوا علي حكم مصر ، كم من قصور سكنوا وكم يكلفون خزينة الدولة من الملايين ؟!.
لم يتقاض الرجل راتبا شهريا وتلك سابقة لم تحدث من كل من حكموا مصر ، بينما غيره وضع يده على خزائن البلاد وثرواتها ،ينفق منها كيف يشاء . نأى بأسرته عن أية امتيازات ، ولما تم تعيين أحد أبنائه في وظيفة حكومية هاج عليه إعلا م الدولة العميقة الذي كان متسيدا الساحة في ذلك الوقت...ولو تم فتح السجلات الحقييقية لعام حكم مرسئ وسجلات من سبقه ومن تبعه لتم اكتشاف ما يزكم الأنوف ويصيب بالغثيان ، وكيف يتم غرف خزينة مصر غرفا دون حسيب أو رقيب ، ومع ذلك افترى إعلام إبليس عليه ونسج قصصا مكذوبة عن ولائم البط والأوزالتي كانت تقام يوميا في القصر الجمهوري يما يزيد عن 42 مليون جنيه شهريا.. ولم يخرج واحد منهم فاتورة واحدة تثبت كذبهم ، فقد كانت كل الوثائق تحت بصرهؤلاء وفي حوزتهم ، وثبت بعد ذلك أنهم كانوا يعدون علي الرئيس ومعاونيه أنفاسهم لكنهم فشلوا في اثبات شيئ ضده .
نصيحة الفنان عزت أبو عوف
ثالثا : استطاع الرئيس الشهيد أن يصمد في الحكم لمدة عام كامل رغم الحصار الشديد الذي فرضه عليه العسكر والدولة العميقة والقوي الليبرالية والعلمانية والسلفية التي جيشتها أجهزة الدولة العميقة بالتعاون مع العسكر وبدعم خارجي استعماري وتواطئ من الكنيسة المصرية التي غرقت – ومازالت - في العمل السياسي حتى شوشتها علي غير العادة لتاريخها وقيم عملها ،وكذلك تواطئ من شيخ الجامع الأزهرومن حوله من علماء السلطة مثل د. علي جمعة ود. سعد الدين الهلالي وغيرهم وغيرهم ، وقد ساهم هؤلاء جميعا في صنع حالة تمرد عام دأبت علي شيطنته رغم أنه لم يثبت في عام حكمه واقعة فساد واحده أو واقعة تدخل خارجي في القرار المصري. وقد أسفرت تلك الحالة المتمردة عن استمرار المظاهرات في شوارع القاهرة والأسكندرية التي كان صلبها القوي العلمانية المتطرفة والكنيسة وكان وقودها البلطجية وأرباب السوابق تحت حماية العسكر بكل أجهزتهم ، ولو أنهم استمعوا إلي تحذيرات الفنان عزت أبوعوف – يرحمه الله - التي نادى فيها عبرالإعلام بالصبر حتى يتم الرئيس المنتخب فترة انتخاباه .. قائلا : اصبروا أربع سنوان بدلا من أن نعود للوراء ثلاثين سنة ... فنان ليس من الإخوان المسلمين ولكنه أكثر أخلاقا ورجاحة عقل ووطنية وبعد نظر من كل الفلاسفة الذين صدعونا في تلك الفترة وثبت أنهم ضالعون في الانقلاب علي مصر .
وواصل غوغاء الانقلاب همجيتهم إلى حد قيامهم بحاولة خلع أحد بوابات القصر الجمهوري بأحد الأوناش .. برضا وتغاض من الحرس الجمهوري الذي ثبت بعد ذلك أن قائده اللواء محمد زكي متورط في الانقلاب وكافأه قائد الانقلاب بمنصب وزير الدفاع . وهكذا ..بدلا من أن يقدم محمد زكي الحماية للرئيس وفق القانون والدستور ، خان مصر وقام باعتقاله وانضم إلى الانقلاب، واليوم يجلس في بيته غير مأسوف عليه بعد طرده فجأة من وزارة الدفاع ،مصحوبا بلعنات التاريخ وكل الشرفاء .
إن انقلاب 3 يوليو الملعون لم يكن في الحقيقة ضد مرسي أو ضد "الإخوان المسلمون "، فمرسي عند ربه ، والإخوان إما في المقابر – شهداء بإذن الله – أو في السجون أو مهاجرين في أقطار الأرض فارين بدينهم ، وبقيت مصر التي يتم تجريدها قطعة قطعة وإغراقها في الديون وإسقاطها في دوامة التخلف والفقر والمرض والتبعية للأمريكي والصهيوني ... هو انقلاب ضد مصر وشعبها .. وياويل شعبها !!

ثالثا : رغم كل ما جري من عنف وحصار واعتداءات علي القصر الجمهوري بل ومحاولة اغتياله رفض مرسي أن تطلق القوات طلقة واحدة علي من يكررون اقتحام القصر بصفة مستمرة ، مشددا علي حرمة إراقة قطرة دماء واحدة،وقد ثبت بعد ذلك أنهم حاولوا توريطه في إصدار أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين حتي تكون دليلا ضده بالقتل في المحاكمات التي كانوا يبيتون لها ، لكنه فوت الفرصة عليهم مثلما فوت الفرصة عليهم في اثبات واقعة فساد واحدة ضده ، وكان منطلقه - أولا وأخيرا- مخافة الله وحده ..وقد ظل ثابتا علي هذا المبدأ حتى تم الانقلاب عليه ... لقد رضي أن يتم انتزاعه - ظلما وعدوانا - من موقعه كرئيس منتخب للدولة ، بتواطئ من الجميع الذين ظهروا على منصة الانقلاب يوم 3يوليو2013م ...ألا لعنة الله علي الخيانة .
موقف السلطان عبدالحميد يتكرر..
وموقف مرسي في التعامل السلمي مع ذلك الانقلاب لم يكن غريبا في التاريخ بل سبقه موقف السلطان عبد الحميد الثاني يوم الانقلاب عليه من جمعية "الاتحاد والترقي " والدولة العميقة المتصهينة ، حينها رفض إطلاق رصاصة واحدة علي المنقلبين ،وفضل أن يتم انتزاعه من كرسي الخلافة واعتقاله على أيدي الانقلابيين ، قائلا - يرحمه الله - عن ذلك اليوم في مذكراته :"إن ما يحزنني ليس الإبعاد عن السلطة، ولكنها المعاملة غير المحترمة التي القاها بعد كلمات أسعد باشا ( أحد قادة الانقلاب ) والتي خرجت عن كل حدود الأدب، ثم نظرت فوجدت اليهودي "إيما نويل قرا صو" فتساءلت: ما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة؟ وبأي قصد جئتم بهذا الرجل أمامي؟! ..( بالضبط مثلما حدث بعد دفن الرئيس مرسي ، إذ جاءوا بمراسل إسرائيلي ووقف علي قبره ليبث رسالة إعلامية علي طريقته الخاص احتفاء بالتخلص من عدوهم اللدود.. في رسالة ذات مغزى كبير للشعب المصري وليهود العالم ..)!!
ويواصل السلطان عبد الحميد الثاني قائلا في مذكراته عن يوم عزله واعتقاله :"إن هؤلاء الإتحاديين قد أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليـ هو د في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورفضت بصورة قطعية، ثم أعادوا الكَرّةَ عارضين علي 150 مليون ليرة ذهبية، فرفضت أيضاً وأرسلت لهم : لن أرضى بملئ الأرض ذهباً، فإني قد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية أكثر من ثلاثين سنة ولن أسود صحائف المسلمين وأدنس شرف أجدادي ".
وخرج السلطان عبد الحميد الثاني من سراي (قصر) يلدز ، خروجاً مشرفاً بعد أن رفض أن يحدث قتال ما بين الباشوات المخلصين له وجيش الاتحاد والترقي تاركاً عبارات بسيطة قالها قبل عزله ولكنها خلدت في التاريخ بعد عزله ووفاته :" لا يجب لأجل شخص واحد أن يذهب ألف شخص وأن يضرب الأخ أخاه ..يجب جمع الأسلحة من العسكر وعدم إطلاق النيران، ولا أريد أن تنزف دماء ألف رجل من أجل رجل واحد وليفعل المتمردون ما يشاؤون ".
ويردّ السلطان عبد الحميد الثاني على مُنتقديه ممن أخذوا عليه صمته وعدم حزمه وبطشه بهؤلاء الماسونيون، وحمّلوه مسؤولية خراب الدولة وانهيارها لأنه لم يردع هؤلاء العابثين، رد بالقول أنه كان رجلا رحيما رغم علمه أن الرحمة والشفقة غير ناجعة ولا تفيد في قيادة الدول، لكنه يبرر قائلا :
" إن استخدمت القوة قالوا سفاح وغدار وإن تعاملت بالمعروف نعتوني بالضعف والخوار" ! ،
ويبيّن أن وضعه السياسي لم يكن يسمح له باستخدام القوة، لأنه كان يقف وحيدا أمام تيار عارم، متأسفا لما آلت إليه أحوال البلاد بسبب المتمردين قائلا : "وكما قلت من قبل: إن الصحف التي صدرت في أوروبا ومصر بمختلف أسمائها، ورجال الجمعية ( ماسون الاتحاد والترقي ) الذين يجوبون هذه البلاد، لم يُخرجوا للبلاد كاتبا واحدا جادّا ، ولكن محافل الماسونية -رغم كل تعقبنا لهم- جعلت من هؤلاء المتسكعين أعلاما. عندما حركوا الضباط من أعضاء "الإتحاد والترقي"، وتلك هي قصة "تركيا الفتاة" وجمعية الإتحاد والترقي.نعم هذه هي الحكاية حكايتهم ..سيقولون لي: إنك تعلم كل هذا، ومع ذلك لم تتصدّ له ولم تمنعه! لماذا أغمضت عينيك عن خراب الدولة وانهيارها؟ حاشا ! ليست المسألة مسألة إغماض عين!..لقد كنت يقظًا في كل لحظة، لكني لم أكن استطيع منع هذا. لقد كنت بمفردي وكان معهم كل عالم العدو. ولم تكن طبيعتي وظروفي تساعدني إلا بهذا القدر..."(صنائع الإنجليز ص 76 - سعود السبعاني)...
بين البنا ومرسي ..روبرت جاكسون يتحدث
وتلك صورة أخرى من المهم الانتباه إليها .. فما أشبه اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا بمقتل الرئيس الشهيد محمد مرسي ولعل ما كتبه الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون بعد لقائه الشيخ حسن البنا عام 1946م واطلاعه علي الأحوال التي كانت تعيشها مصر ، قائلا :" زرت هذا الأسبوع رجلاً قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان".، وبعد خمس سنوات (1951م ) وعند زيارته لمصرمرة أخرى قال روبرت : "هذا ما كتبته منذ خمس سنوات، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه، فقد ذهب الرجل مكرًا.. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم أن الشرق يطمح إلى مصلح يضم صفوفه، ويرد له كيانه، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى، انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف وبطريقة شاذة"، ... "هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده.. ولقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة، عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة كبرى من زعماء مصر ورؤساء الأحزاب".
وهكذا ..ففي اليوم الذي بات فيه أمل مصر قاب قوسين أو أدنى في الحرية والانطلاق نحو النهضة ، انتهت حياة أول رئيس مدني منتخب بوضع غير مألوف وبطريقة شاذة... فرقص شياطين الإنس والجن في داخل مصر وخارجها مثلما رقصوا طربا وهم يتبادلون الانخاب في أحد الفنادق الأمريكية احتفاء باغتيال الشيخ حسن البنا .. وهو المشهد الذي عاينه الشهيد سيد قطب الذي كان يومها في بعثة للولايات المتحدة فاستوقفه طويلا بعد أن أيقن الحقيقة .
سيتواصل تكرار هذا المشهد جيلا بعد جيل دون كلل أو يأس حتى يتحقق الأمل .
-------------
• مدير تحريرالشعب المصرية والمجتمع الكويتية – سابقا







أقراء أيضاً

التعليقات

ممارسات أدت إلى قرار البنك المركزي اليمني في عدن.


أخبار مميزة

مساحة اعلانية

رغم الحرب التي تشهدها اليمن، إلا أن عيد الأضحى والطقوس المرتبطة به ما زالت موجودة وتحظى بأهمية كبيرة بين الناس في اليمن.