البنوك اليمنية في مرمى نيران الحرب مجددًا: هل يمكن لعربة التسوية أن تتجاوز أسوار الانقسام الاقتصادي؟
شهد هذا الأسبوع حدثين اقتصاديين في غاية الأهمية والخطورة في تأثيرهما على مسار السلام في اليمن، فبعد يومين من إعلان البنك المركزي بصنعاء الواقع تحت سيطرة حركة “أنصار الله” (الحوثيون) سك عملة معدنية جديدة من فئة المئة ريال أصدر البنك المركزي بعدن الواقع في مناطق نفوذ الحكومة اليمنية المعترف بها قرارًا قضى بإمهال البنوك في صنعاء ستين يومًا لنقل مراكزها الرئيسية إلى عدن.
وبلا شك، إن إعلان مركزي صنعاء وقرار مركزي عدن يسهمان في تعميق الانقسام الاقتصادي ، وبالتالي إعاقة سير عربة التسوية السياسية ومضاعفة معاناة الناس الذين يدفعون حاليًا ثمن هذا الانقسام من مصادر أرزاقهم، إذ يضطر المواطن عندما يريد التحويل المالي من عدن إلى صنعاء أن يدفع ثلاثة أضعاف المبلغ الذي يريد تحويله، لأن هناك سعرين لصرف العملات الأجنبية في كل من صنعاء وعدن، وهذا الفارق ناتج عن رفض الحوثيين في 2019 اعتماد التعامل مع الأوراق النقدية الجديدة، التي طبعتها الحكومة المعترف بها، ما تسبب في تراكم المعروض النقدي هناك، وبالتالي ارتفاع سعر الصرف، وصولًا إلى أكثر من 1600 ريال للدولار الأمريكي، فيما استقر سعر صرف الدولار في صنعاء عند 530 ريالًا.
وهو الانقسام الاقتصادي الآخذ في التفاقم منذ ذلك الوقت، وانعكس على أسعار السلع والأوضاع المعيشية للمجتمع في جميع انحاء البلاد، كما عرّض القطاع المصرفي لمهددات عديدة مع استمرار إصدار قرارات وقوانين تزيد من تدهور أوضاع البنوك والمصارف، على حساب انتشار دكاكين الصرافة التي تؤشر كثرتها لمدى التحلل الاقتصادي الذي يشهده البلد.
قرار البنك المركزي بعدن، الصادر الثلاثاء، من شأنه أن يزيد من تعقيد أوضاع البنوك، لأن نقل مقراتها الرئيسية إلى عدن، أولًا يزيد من تكريس الانقسام الاقتصادي والانفصال السياسي في آن، علاوة أن الانتقال سيترتب عليه نتائج سلبية يدفع ثمنها المودعون وعمليات البنوك، ومن ثم العمل المصرفي بشكل عام، باعتبار صنعاء مركزًا اقتصاديًا لا يمكن تجاهل مكانته ومساحته، علاوة أن هذه البنوك ما تزال تواجه مشكلة في سداد أموال المودعين، فما بالك لو انتقلت إلى عدن، كما أن قرار مركزي عدن مرتبط بمشروعية دولية، وهنا تتجلى فداحة “المأزق السياسي” الذي سيضاعف من مهام التسوية السياسية ومسار عملية السلام في البلد.
وأصدر محافظ البنك المركزي اليمني في عدن، أحمد أحمد غالب، الثلاثاء، قرارًا قضى بنقل المراكز الرئيسية للبنوك التجارية والمصارف الإسلامية وبنوك التمويل الأصغر من مدينة صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن. وأمهل القرار البنوك 60 يومًا للتنفيذ، مؤكدًا أن من يتخلف سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه طبقًا لأحكام قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب النافذة ولائحته التنفيذية.
مرحلة السلام
يرى رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، أن خطوات التصعيد الأخيرة تزيد من تعقيد الوضع السياسي، والوصول إلى تسوية، والدخول في مرحلة سلام.
وقال لـ “القدس العربي”: “للأسف خطوات التصعيد الأخيرة تبعدنا كثيرًا عن الوصول إلى تسوية لوضع حد للانقسام في القطاع المصرفي، وإيجاد أرضية ملائمة لتوحيد السياسة النقدية والعملة كمقدمة لإعادة توحيد المؤسسات والدخول في مرحلة سلام”.
واعتبر “هذا التصعيد من قبل البنك المركزي في عدن التابع للحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا جاء كرد فعل على قيام البنك المركزي في صنعاء الخاضع لجماعة الحوثي بسك عملات نقدية جديدة فئة مائة ريال وإنزالها للأسواق لاستبدال التالف”.
وقال: “القرار وضع البنوك أمام خيارات صعبة للغاية، لا سيما وأن البنوك سبق وتعرضت لتهديدات كبيرة من قبل البنك المركزي في صنعاء خلال الفترة الماضية عندما حاولت إنشاء مكاتب إقليمية في عدن خلال السنوات الماضية”.
وأضاف: “البنك المركزي يمتلك السلطة القانونية لتجميع عمل البنوك في حال رفضت تنفيذ القرار ووقف تعاملاتها المالية مع الخارج بحكم شرعيته الدولية، لكن البنوك أيضًا تواجه تحديًا كبيرًا في حال الاستجابة لتنفيذ القرار، لا سيما وأن مقراتها الرئيسية ما تزال في صنعاء”.
وأشار إلى “أن هذا القرار يعزز من الصراع، وفي حال تنفيذه فإنه يعزز من عزلة القطاع المصرفي في مناطق سيطرة جماعة الحوثي”.
حدة الصراع
الصحافي والمحلل الاقتصادي، عبد الحميد المساجدي، يرى أن خلفية الصراع تأتي انطلاقًا من الصراع داخل صف الشرعية بدرجة رئيسية بين البنك المركزي ووزارة المالية.
وقال لـ “القدس العربي”: “خلال الفترة الأخيرة تصاعدت حدة الصراع على الجانب الاقتصادي بين الحكومة الشرعية وجماعه الحوثي. وخلفية الصراع تأتي انطلاقًا من الصراع في داخل صف الشرعية بدرجة رئيسية بين البنك المركزي من جهة ووزارة المالية من جهة حول مسؤولية الفشل في تدهور قيمة العملة الوطنية ومتطلبات الإصلاح الاقتصادي من أجل استكمال الإفراج عن المنح والتعهدات من قبل الأشقاء في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة”.
وأضاف: “حاول البنك المركزي أن يسلك طريقًا في اتجاه تضييق قنوات استفادة الحوثيين من العملة الصعبة في مناطق الشرعية بعد أزمة السيولة من العملة الصعبة التي تشهدها الجماعة الحوثية في اتخاذ إجراءات اعتماد التحويلات عبر شبكة التحويلات الموحدة. وهو ما قابله الحوثيون بتوقيف شركتي البسيري والقطيبي وإلزام البنوك بوقف التعامل معهما”، في المقابل “أخذ البنك المركزي قرارًا وجه فيه شركات الصرافة بمنع التعامل مع 5 بنوك حتى دخلت وساطة من قيادات في القطاع المصرفي أفضت إلى تراجع البنكين عن الإجراءات المتخذة”.
واستطرد: “وحقيقة بعد سك الحوثيين عملة معدنية فئة 100 ريال تدارست الشرعية خطوات احتواء التصعيد الحوثي، واتخذ البنك المركزي قرارًا وجه فيه البنوك بنقل مراكز عملياتها الرئيسية إلى العاصمة عدن”.
وفيما يتعلق بقابلية هذا القرار للتنفيذ، أضاف المساجدي: “حقيقة ما إذا كان هذا القرار قابلًا للتنفيذ أو غير قابل للتنفيذ فهنالك التزامات على هذا القرار: هل البنك المركزي اليمني في عدن قادر على تحمل التزامات البنك المركزي في صنعاء تجاه البنوك سواء من خلال استثمارات البنوك في أذون الخزانة أو احتياطياتها القانونية أو حساباتها الجارية، وإذا ما استطاع البنك المركزي اليمني في عدن أن يفي بالتزامات فرع البنك في صنعاء فأعتقد أنه قطع شوطًا في اتجاه توفير البيئة المصرفية المناسبة لنقل البنوك مراكزها الرئيسية إلى عدن”.
طابع سياسي
المحلل الاقتصادي، رشيد الحداد، يرى، من جانبه، أن البنك المركزي في عدن استند في قراره بنقل المركز المالي للبنوك من صنعاء إلى عدن إلى قرار واشنطن بتصنيف حركة “أنصار الله” كيانًا إرهابيًا، وبالتالي هو قرار ذو طابع سياسي.
وقال لـ “القدس العربي”: “البنك المركزي في عدن اتخذ قرارًا ضد البنوك التجارية والإسلامية الأهلية في محاولة منه لنقل المركز المالي من العاصمة صنعاء، وهذا القرار استند إلى قرار تصنيف أمريكا حركة “أنصار الله” بكيان ارهابي، ولم يستند القرار إلى أي حسابات أخرى باستثناء أنه ذا طابع سياسي صرف، وجاء كردة فعل على رفض البنوك التجارية والإسلامية التي مراكزها الرئيسية في صنعاء الامتثال لقرار بنك عدن بشأن وقف التعامل مع كافة الشبكات المالية والاكتفاء بشبكة مالية موحدة تتبع عددًا من الصرافين”.
وأضاف: “ليس من حق البنك المركزي أن يمارس أعمال الصرافة حتى بفرص شبكة موحدة، وبالتالي فإن القرار إجراء عقابي غير مسؤول سيكون له تداعيات سلبية على نشاط البنوك اليمنية التي دفعت ثمن الانقسام الكثير، يُضاف إلى أن قرار البنك بنقل مراكز البنوك سبق أن صدر سابقًا، وتم اعتراضه من قبل جمعية البنوك في صنعاء، التي انحازت إلى جانب البنوك، ودافعت عن مصالحها، كون حكومة صنعاء تستحوذ على أكثر من 65% من السوق اليمني، وأكدت أن من مصلحة البنوك البقاء في نطاق نشاطها، وفي القرب من المودعين.
وقال: “وعلى الرغم من أن البنوك الأهلية مستقلة ولا يوجد قانون يفرض عليها نقل مقراتها كون هذا القرار خاصًا بمجالس إدارتها والمؤسسين في الجمعية العمومية، إلا أن بنك عدن يحاول فرض عقاب جماعي ضد البنوك، ويدفع نحو الإضرار بها، في إطار صراعه مع بنك صنعاء”.
واعتبر أن “هذه الخطوة التصعيدية تعمق الانقسام المالي والنقدي، وتضيف المزيد من التعقيدات على مسار التسوية السياسية المرتقبة، خاصة وأن اليمنيين يترقبون أي انفراجة سياسية تنهي الانقسام المالي والنقدي.
ولا يستبعد الحداد “أن تكون هذه الخطوات مدفوعة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول الضغط على صنعاء للقبول بعروض أمريكية مقابل وقف الهجمات في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية”.
وأكد أن “لا جدوى اقتصادية من خطوات بنك عدن سوى محاولة فرض الهيمنة على البنوك في صنعاء، وهو ما سوف يدفع القطاع الخاص للتصدي لهذا التوجه وإفشاله، وقد يدفع بنك صنعاء للمواجهة وحماية البنوك، ولا يزال يمتلك العديد من الأوراق والخيارات لم يستخدمها، وتوعد باللجوء إلى بعضها، في حال تم تقويض مسار السلام خلال الفترة المقبلة”.
التعليقات