التغير المناخي في اليمن... الظواهر المتطرفة تدمر ما نجا من الحرب
تدمر الظواهر المناخية المتطرفة مخيمات النزوح لتقضي على فقراء اليمن وما بقي في خيامهم، وتجرف في طريقها الذخائر غير المنفجرة والبنى التحتية المهترئة بفعل الحرب، في مشهد كأنه "يوم القيامة" بحسب ما يصفه الناجون.
يشيح النازح اليمني عبيد محمد بنظره عن الخيمة التي تؤوي أسرته منذ عام 2015 بعدما غادر منزله بسبب الحرب، وتنقل بين عدة أماكن ثم استقر في مخيم التضامن بمحافظة مأرب شمال شرقي صنعاء، إذ تؤلمه ذكريات فقدانه لابنه إبراهيم وابنته نبيلة، خلال العاصفة المطرية التي ضربت المنطقة في 11 أغسطس/آب الماضي.
تسببت العاصفة في سقوط جدار على الطفلة نبيلة وشقيقها أثناء سيرهما في الطريق بين مخيمات النزوح، يقول الأب، الخسارة فادحة، كان إبراهيم يعمل لإعالة الأسرة المكونة من 14 فرداً، منذ النزوح من مدينة الحديدة غربي البلاد، وكافح من أجل توفير علاج والده من مرض القلب، "لكن العاصفة خطفته وشقيقته". يضيف محمد وعيناه دامعتان: "منذ وفاتهما، لم أعد وحدي من يعاني ألماً في القلب، الأسرة كلها".
و"أودت الفيضانات الكارثية والسيول التي تشكلت بفعل الأمطار الغزيرة التي صاحبت المنخفض الجوي خلال الشهر الماضي"، بحياة 97 شخصاً من بينهم أسرة محمد، كما طاولت أضرارها 56 ألف منزل على امتداد 20 محافظة، ودفعت أكثر من ألف عائلة إلى النزوح بسبب الأضرار الكبيرة في الحديدة ومأرب وحجة شمال غرب صنعاء، ومديرية ملحان ومدينة الطويلة في محافظة المحويت شمال غربي البلاد، وفق ما جاء في إيجاز صحافي نشرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على موقعها في 30 أغسطس/آب المنصرم بعنوان: "اليمن: احتياجات ملايين النازحين تتنامى وسط الفيضانات الكارثية وحالة الطوارئ الإنسانية المطولة".
تزايد أخطار الظواهر المناخية المتطرفة
خلال السنوات العشر الماضية، أصبح اليمن أكثر تعرضاً لأخطار الظواهر المناخية القاسية والمتطرفة، كالفيضانات الشديدة والجفاف وارتفاع درجة الحرارة والتغيرات في أنماط هطول الأمطار، وزيادة وتيرة وشدة العواصف، بحسب دراسة "تأثير تغير المناخ على التنمية البشرية في اليمن"، الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع مركز Fredrrick S.Pardee للتوقعات المستقبلية الدولية في جامعة بوسطن الأميركية.
وتتضح خطورة التغيرات عبر قياس مستوى التساقط المطري خلال أغسطس الماضي، إذ شهدت المرتفعات الوسطى ومناطق ساحل البحر الأحمر والمرتفعات الجنوبية مستويات هطول غير مسبوقة تجاوزت 300 ملم، بحسب نشرة الإنذار المبكر لمنظمة الأغذية والزراعة "فاو" للفترة بين 21 و31 أغسطس.
وتزايدت الفيضانات المفاجئة بشكل كبير منذ عام 2015 وتزامن الأمر مع بداية الحرب وما رافقها من نزوح واسع، في ظل تصاعد أثر التغيرات المناخية التي تتراوح بين الشدة المطرية والفيضانات أو دورات الجفاف، كما يقول رئيس هيئة الموارد المائية بالحكومة المعترف بها دولياً المهندس خالد بلعيد، ومن وقتها شهدت اليمن ثمانية فيضانات كبرى وخمسة أعاصير تسببت بفيضانات شديدة، أعنفها إعصارا تشابالا الاستوائي في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2015، وميغ المداري الذي تشكل في بحر العرب في 5 نوفمبر 2015، والإعصار ساجار وتلاه مكونو في مايو/أيار 2018 واللذان تسببا في فيضانات كبيرة نتيجة سقوط الأمطار الغزيرة، والعاصفة الإعصارية تيج في أكتوبر 2023، وأخيراً المنخفض الجوي في أغسطس 2024 ما أدى إلى فيضانات كبيرة.
التحولات السابقة يفسرها ويعزوها جميل القدسي، مدير عام الطوارئ والبيئة في وزارة المياه والبيئة في عدن (تتبع الحكومية الشرعية)، إلى قرب اليمن من المحيط الهندي، والذي تتشكل فيه الأعاصير بشكل كثيف بالإضافة إلى التأثير المؤدي إلى وقوع الزلازل.
وما يثير المخاوف أن الظروف المناخية القاسية أصبحت أكثر حدة وتواتراً، وبالتالي تؤثر بشكل مدمر على البلاد، بحسب إفادة مساعد عقلان، الباحث الأول في قضايا المياه والتغيرات المناخية بمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية (بحثي مستقل). وفي الوقت ذاته يعد اليمن شديد الضعف من حيث استعداداه لمعالجة آثار تغير المناخ، ويبدو هذا في كونه يحتل المرتبة 171 من بين 181 دولة على مؤشر التكيف المناخي العالمي ND-GAIN كما أنه في المرتبة 22 من حيث الدول الأكثر ضعفاً والمرتبة 12 بين تلك الأقل استعداداً في المؤشر ذاته، ويقافم الخطر الصراع المستمر، وعدم وجود إدارة كافية للموارد الطبيعية، خاصة أن اليمن من أفقر الدول في العالم، ويعيش نحو 40% من سكانه تحت خط الفقر، ويواجهون انعدام الأمن الغذائي وندرة المياه وبطء النمو الاقتصادي، وهذه في مجملها تحديات تزيد ويتسع تأثيرها أيضاً بسبب تغير المناخ، كما يوضح تقرير صادر عن جمعية رعاية الأسرة YFCA (يمنية غير حكومية) في يوليو/تموز 2023، بعنوان: "آثار التغير المناخي على اليمن واستراتيجيات التكيف".
الفيضانات تدمر ما نجا من الحرب
تسببت مياه الأمطار الغزيرة التي تحولت إلى فيضانات وسيول في دمار هائل بالمناطق المتأثرة نتيجة سقوط كميات تراكمية وصلت إلى 120 ملم في 6 أغسطس بحسب بيانات المركز الوطني للأرصاد، وفي ظل الافتقار إلى مجارٍ كافية، لم تجد المياه طريقا للتسرّب إلى باطن الأرض، بسبب غياب الاستعدادت والافتقار إلى بنية تحتية مناسبة للتعامل مع هذه الظروف وفق عقلان، والذي يقول سابقاً، كانت السيول القادمة من المحافظات المجاورة للحديدة كالمحويت، وإب، وذمار، وريمة، تمر في الحديدة عبر تسعة أودية، أبرزها مور، وسهام، وسردد، ورماع وزبيد، قبل أن تصب في البحر الأحمر، واختلف الوضع بسبب تغير أنماط ومعالم مجاري الصرف الطبيعية، ناهيك عن عدم إجراء أي صيانة للسدود وقنوات الري، بعد توقف النفقات التشغيلية منذ عام 2011، وهو ما ساهم في مضاعفة الخسائر، كما يشرح المهندس بلعيد، مشيراً إلى أنه لا يوجد أي تقييم لوضع السدود والحواجز التي لم يجر لها أي عملية صيانة منذ 2011.
كما لم تشهد البلاد، منذ اندلاع الحرب في 2015، تنفيذ أي مشاريع جديدة طوال العشر سنوات الماضية، باستثناء مشروع سدّ حسان، الجاري تنفيذه حالياً في محافظة أبين جنوب شرق العاصمة، بالإضافة إلى سدّين في محافظة الضالع جنوبا، رغم زيادة وتيرة الأمطار والفيضانات، وفق ما يرصده وكيل وزارة الزراعة بالحكومة المعترف بها دولياً، أحمد الزامكي.
وباتت السدود والحواجز المائية مهددة بالانهيار، بغضّ النظر عن كفاءتها، لأن الأمطار في الآونة الأخيرة فاقت المعتاد، وقد تتجاوز القدرات التصميمية للسدود والحواجز المائية المقامة، بحسب عقلان، الذي يتوقع تدمير مزيد منها ومن مقومات البنية التحتية الأخرى نتيجة العواصف الشديدة التي ستضرب السواحل اليمنية، إذ انهارت في 27 أغسطس 2024 ثلاثة حواجز في ملحان بالمحويت، وتبعها حاجز في مديرية وصاب بمحافظة ذمار جنوب صنعاء. وفي عام 2023 تسببت الأمطار الغزيرة غرب العاصمة بانهيار حاجز مائي في محافظة المحويت، وجرفت الفيضانات المتدفقة مسجداً وألحقت أضراراً بالطرق والمنازل وملأت الأراضي الزراعية بالمخلفات، بحسب تقرير بحثي لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية بعنوان " آثار الفيضانات والسيول على المجتمعات الزراعية في اليمن"، صدر في 18 مارس/آذار 2024.
البناء العشوائي يضاعف الخسائر
أدت الكارثة الأخيرة إلى تفاقم معاناة الملايين، بعدما جرفت المآوي، وغمرت الأراضي الزراعية، وأخرجت الذخائر غير المنفجرة من الأرض كما تؤكد المفوضية السامية، وشكلت الحواجز والخزانات المائية التي أقامها المواطنون بشكل عشوائي لأغراض الزراعة في المنحدرات وسفوح الجبال، دون أي معايير أو تقييم للمخاطر، عاملاً إضافياً لتعظيم الضرر لأن تدفق السيول تسبب بانهيارها، ورافق ذلك انزلاقات صخرية وانجراف التربة، كما حصل في المحويت، بحسب إفادة عبد الصمد الشيبه، مدير صندوق الرعاية الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التابعة للحكومة الشرعية.
كما فاقم التشييد العمراني العشوائي في مناطق الفيضانات والسيول حجم الخسائر، واستناداً إلى شهادات 12 من سكان المناطق الأكثر تضرراً في الحديدة ومأرب والمحويت، فإن عدم وجود مجار لتصريف المياه والبناء العشوائي، خصوصاً بالقرب من ممرات السيول أساس اتساع حجم الضرر، ومن بين هؤلاء، المزارع محمد عبده التهامي، الذي يسكن منزلاً شعبياً بمديرية حيس، جنوب الحديدة، ويصف ما جرى مساء السادس من أغسطس "بأنه مشاهد من يوم القيامة، إذ كانت كل أسرة تفكر بإنقاذ نفسها فحسب، بينما تتعالى صرخات الأطفال والنساء، وخلال ساعات فقط، كانت السيول قد جرفت كل شيء أمامها، من منازل ومواش وعدد من المواطنين"، مشيراً إلى أن المنازل الشعبية العشوائية لم تصمد.
وهو ما يؤكده الزامكي، محذراً من تزايد الخسائر الجسيمة مستقبلاً، بسبب غياب التخطيط العمراني وهشاشة البنية التحتية، في ظل استمرار الحرب التي أعاقت تنفيذ مشاريع الحد من آثار الظواهر المناخية المتطرفة.
كيف تهدد الظروف المناخية القاسية الأمن الغذائي؟
أسهمت الظروف المناخية القاسية، كالفيضانات والجفاف، بانخفاض مساحات الأراضي الزراعية من 1.6 مليون هكتار في عام 2010 إلى 1.2 مليون هكتار في عام 2020، ويؤثر الجفاف مباشرةً في الزراعة البعلية التي تشكل حوالى 60% من إجمالي الأراضي المزروعة، وهذا يعني أن تبعات الجفاف تطاول 65% من السكان الذين يعيشون في المناطق الجبلية والوديان ويعتمدون بشكل رئيسي على الزراعة، إلى جانب تأثيره في المراعي والرعاة في اليمن، الذين يمتلكون 1.3 مليون رأس من الماشية، بحسب ما جاء في دراسة تأثيرات تغير المناخ في اليمن.
ما سبق يؤكد أن الظروف المناخية القاسية تهدد الأمن الغذائي في البلد، وفقاً لما تُجمع عليه مصادر التحقيق، ومن بينها بلعيد الذي يوضح أن هناك عجزاً كبيراً في الميزان المائي ما بين الداخل والخارج، نظراً لضعف الاستفادة من مياه الأمطار المصاحبة للمنخفضات الجوية، إذ تذهب مئات ملايين الأمتار المكعبة من المياه إلى البحر هدراً، ويعود عدم الاستفادة منها إلى عدم توافر مجارٍ كافية أو وقت كافٍ لتسرّبها إلى باطن الارض وتغذية طبقات المياه الجوفية. وهو ما يشدد عليه الزامكي بقوله أن أي تدهور في كمية المياه ونوعيتها يؤثر سلباً على الأمن الغذائي.
النازحون في مهبّ الرياح
"عاش النازحون في مأرب أوقاتاً عصيبة أوشكوا فيها على النهاية في 11 أغسطس الماضي"، هكذا يصف حمود هزاع، الذي يقطن في مخيم الجفينة منذ نزوحه من محافظة إب، حالهم أثناء تدفق السيول بين 204 مخيمات في المحافظة، ويقطن في تلك المخيمات 63674 أسرة، بإجمالي 445724 شخصاً بحسب إحصاء صدر في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، عن الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في مأرب (حكومية تتبع رئاسة الوزراء).
و"عقب هطول الأمطار الغزيرة المصحوبة برياح عاصفة جرت المياه عبر "السائلة" (مجرى السيول) والتي تشق المخيمات لتدمر الملاذات الهشة التي بنوها من أغصان الشجر أو الخيام المهترئة"، يضيف هزاع قائلاً لـ"العربي الجديد"، 50 ألف أسرة تقطن على ضفتي "السائلة"، وتظل دائماً في مواجهة مباشرة مع مخاطر الكوارث. وعلى سبيل المثال، عندما تداهم السيول الجفينة أكبر مخيمات النزوح، فإنها تفصله إلى جهتين جنوبية وشمالية، وتبقى الأسر في كل ناحية في مواجهة مصيرها بمفردها.
ورغم أن محافظة مأرب صحراوية حيث يندر تساقط المطر فيها، ولم يتجاوز معدل الهطول 50 ملم قبل عام 2015، لكن التغير المناخي ضاعف معدلات الهطول بنسبة 300%، كما أن المحافظة حالياً، من أكثر المناطق تضرراً من السيول والفيضانات كونها تعد مصباً رئيساً للمياه القادمة من المناطق الجبلية المجاورة، ونظراً لعدم وجود مجار لتصريف المياه خارج المدينة، فإن السيول تلتقي في نقاط معينة مشكلة فيضانات كبيرة، كما يوضح تقرير حول آثار تغير المناخ ومواطن الضعف في اليمن، نشره مركز South 24 للدراسات ومقره سويسرا، ولا يستبعد عقلان أن تتسبب التغيرات المناخية بموجات نزوح جديدة هرباً من الكوارث، إلا أن عبيد محمد لن يبارح خيمته الحالية، لأنها "تحتفظ برائحة من فقدهم".
العربي الجديد
التعليقات