المسلمون والتراث [4]
و متابعة لما أوردناه في المقال السابق عن الموقف الذي يجب أن نتخذه من التراث فإن العنصر التالي لعنصر التجاوز هو:
4/الإعتبار:
إننا حين نتأمل في تراثنا أو نقرأ أو تقع أعيننا على قصص كثيرة منه يتوجب علينا أخذ العبرة والعظة منه وإستلهام الدروس التي استفيدت منها ولسنا نأخذ العبرة والعظة من الموروث الرديء فحسب بل إنه من الممكن أيضا أخذ العبرة من الموروث الحسن الذي بقي لنا وأوردته الينا كتب التراث في ثناياها وطياتها وما سطرته محابر الناقلين والكتاب إذ في ذلك ضمان لعدم تكرار الأخطاء التي وقع فيها السابقون وتشجيعا للمسلم المعاصر على الثبات على المبادئ السامية والتشبث بالصفات الحسنة والتمسك بمقومات النصر والنهوض الحضاري والسمو المعرفي والكمال الإنساني وشهودية التبليغ والدعوة.
وهكذا فإنه لا شك أن هناك أخطاء كثيرة حصلت ومعاصي جمة ارتكبت أدت بمجموعها الى سقوط هذه الامة عن صدارتها وانكماش حضارتها وتواريها عن الأنظار ولجوئها إلى زاوية في ذيل قائمة البلدان والدول وسجل الحضارات.
ولو لاحظنا مواطن الإعتبار في تاريخنا الإسلامي لوجدناه حافل ومليء بهذه المواقف التي تستدعي الإعتبار ,فالركون إلى الدنيا والتمادي في الترف أديا إلى الأحقاد الشخصية وحولا المجتمع الإسلامي إلى بؤر للصراع الإجتماعي ,والفهم الخاطئ للإيمان بالقضاء والقدر والعزوف عن الدنيا أدى إلى الكسل والدعة والركون والبطالة والراحة والتواكل والإبتعاد عن واقع الحياة, وتراكم الفتوحات أدى إلى عدم القدرة على الإستيعاب التربوي والثقافي والتعليمي ومواكبتها, وإعتماد (النظام اللامركزي) في الحكم مع عدم تحسين نظام الشورى على نحو ما تقتضيه إتساع مساحة الدولة أدى-إضافة الى أسباب أخرى- إلى تفتت بعض الدول التي حكمت بلاد الإسلام, وإتباع المنطق اليوناني الذي يناقض التجربة أدى إلى إنعدام المنهج التجريبي والتراجع في الإنتاج الصناعي وقلة حركة اليد العاملة وهكذا. ......
إن الإعتبار بما مضى من أيام الله يحتاج إلى مفكرين يتمتعون بقدرة كاملة على تشكيل رؤية شاملة نتلمس من خلالها الظواهر الكبرى في تاريخنا ونبذ التعمق في الفرعيات ثم البحث في العلل والأسباب الكامنة وراء حدوث كل هذا.
5-النقد:
إننا في هذا العصر ورثنا عن آباءنا وأجدادنا تركة من الأمجاد والبطولات والتجارب النافعة كما أننا ورثنا موروثا مثقلا بالمشكلات. ولأبناء جيلنا أن ينظروا في هذا الموروث حسنه وسيئه فتتم الإستفادة من حسنه ويتركوا سيئه وهذا ما فعله سلفنا الصالح مع موروثهم حيث نلحظ طفوحا في المكتبة الإسلامية بالكتب التي تضمنت ردودا على أخطاء ونظريات سابقة لأن الحق تبارك وتعالى أبى إلا إن يكون الكمال لكتابه والعصمة لأنبيائه.
وعندما يؤلف الإنسان مؤلفا أو يقوم بعمل بحثي ثم ينظر إليه بعد لحظة يرى فيه خللا أو يرى أنه قادر على المضي بهذا البحث أو ذلك السفر نحو صورة أكمل أو إخراجه في حلة قشيبة خالية من مظاهر النقص والقصور.
ولإن قدرة العقل الإنساني محدودة فإنه لا يبصر إلا في حدود الزمان والمكان وقيودهما وعليه فإن القصور واقع في كل ما يصدر عنه.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنه يجب أن ننظر إلى ظاهرة في نسقها التاريخي والمعرفي فمثلا نتيجة للتقدم العلمي الهائل بعد الثورة الصناعية في عالم اليوم ظهرت كثير من التجارب والنظريات والفرضيات والأساليب والاكتشافات فمنها الصواب ومنها الخطأ ولا نلوم منها ما كان خطأ بل نعتبر هذا تنوعا و ثراء معرفيا وينبغي توجيه اللوم على عنصر بشري ما متخلفا عن عصره- أي يعيش بذاته في عصر غير عصره- أو حين يخالف الفقيه أو العالم المنهج الرباني مخالفة ناتجة عن إنحراف لا عن إجتهاد مؤصل.
وينبغي أن لا نلوم عباقرة القرن الثالث الهجري لعدم قدرتهم على صنع دراجة أو عدم تنبههم لإكتشاف قانون الجاذبية لأن العتبة المعرفية السائدة في ذلك الوقت لا تسمح بذلك كما أنه لو أن عباقرة عصرنا وجدوا في القرن الثالث لما وسعهم إلا عمل ما قام به عباقرة تلك الحقبة.
ومع ذلك فإن النقد لكل ما هو خطأ أو إنحراف يعد دليل قاطع وظاهر على التقدم العلمي والثراء المعرفي وإن جهود العلماء والباحثين والمفكرين السابقين قد قامت بوظيفتها حيث زادت من وعينا وفهمنا وتقنيتنا- خطأها وصوابها- وساعدتنا على أن نتجاوزها لنتمكن في النهاية من نقدها وتقويمها.
التعليقات